
وقال السدي وابن إسحاق: ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾ بنصر الله الرسل، والمؤمنين يوم بدر (١).
٣٩ - قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وابن زيد وابن إسحاق: (أي شرك) (٢)، وقال الربيع: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه (٣)، وقال عروة بن الزبير: كان المؤمنون يفتنون عن دين الله في أول ما دعا رسول الله - ﷺ - إلى الإسلام، وآمنت به طائفة فكانت فتنة شديدة، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء، وأمر رسول الله - ﷺ - المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهي: لما بايعت الأنصار رسول الله - ﷺ - بيعة العقبة (٤) توامرت (٥) قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم فأصاب المؤمنين جهد شديد؛ فأنزل الله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ (٦).
ثم إن في عبارة المؤلف قلق، ولعل الصواب: كيوم بدر.
(٢) انظر: أقوال المذكررين سوى ابن إسحاق، في "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٤٨ - ٢٤٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٠١، وابن كثير ٢/ ٣٤١، وانظر: قول ابن إسحاق في "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٨.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٦١ أ، والبغوي ٣/ ٣٥٧.
(٤) في (س): (يوم العقبة).
(٥) توامرت: لغة غير فصيحة في تآمرت، انظر: "النهاية في غريب الحديث" (أمر) ١/ ٦٦، و"لسان العرب" (أمر) ١/ ١٢٩.
(٦) رواه ابن جرير ٩/ ٢٥٠، وقد ذكر المؤلف قول عروة بمعناه مع تصرف وزيادات.

قال الزجاج: أي حتى لا يفتنوا (١) الناس فتنة كفر، ويدل على أن معنى ﴿فِتْنَةٌ﴾: كفر: قوله: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ (٢).
قال أهل المعاني: وإنما كان الكفر فتنة لأنه يخلّص صاحبه بالفساد الذي ظهر منه ممن يجب أن يتولى على ظاهره (٣)؛ إذ أصل الفتنة: تخليص الشيء من غيره، من قولهم: فتنتُ الذهب في النار: إذا خلصته من الغش الذي كان فيه (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾، قال ابن عباس: يريد: الدين الذي أرسلتَ به دينًا حنيفيًا (٥)، وقال الربيع: ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك، ويُخلع ما دونه من الأنداد (٦)، وقال ابن زيد: لا يكون مع دينكم كفر (٧).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٣.
(٣) يعني أن الكفر يميز ويفصل بين الكافر الذي تحرم موالاته وبين المؤمن أو المنافق الذي يجب أن يتولى على ظاهره، ويوكل باطنه إلى الله تعالى.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) لم أجده بهذا اللفظ، وقد رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨١، بلفظ: حتى لا يبقى إلا دين الإِسلام، ورواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٠١، بلفظ: يخلص التوحيد لله عز وجل، ورواه ابن جرير ٩/ ٢٤٨ بلفظ: حتى لا يكون شرك.
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ٦١ أ، ورواه ابن جرير ٩/ ٢٤٨ - ٢٤٩ بنصه لكن عن ابن جريج، والنص نفسه مذكور في "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٨ قولًا لابن إسحاق، وقد رجح محمود شاكر في تعليقه على رواية ابن جريج أن القول لابن إسحاق وأن في"تفسير ابن جرير" سقطًا ولا دليل على هذا الترجيح إذ لا مانع أن يكون القول لأحد الثلاثة ثم يعتمده غيره فيعتبر قولًا له، وبما أن الرجال الثلاثة كانوا في عصر واحد (توفي الربيع بن أنس عام ١٤٠هـ أو قبلها، وتوفي ابن إسحاق وابن جريج عام ١٥٠ هـ أو بعدها) فإنه يتعذر معرفة السابق بالقول.
(٧) رواه ابن جرير ٩/ ٢٤٩.

قال أهل العلم: أمر الله تعالى بالقتال إلى أن يعم الإسلام الدنيا كلها ولا يبقى على وجه الأرض كافر، فتكليف القتال ممدود إلى هذا الميعاد (١)، لقوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣].
فالجواب من وجوه:
أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية وإلغاء المعاهدة متأخرًا عن هذه الأحاديث.
ثانيها: أن يكون من العام الذي خص منه البعض.
ثالثها: أن يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله: "أقاتل الناس" أي المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ: "أمرت أن أقاتل المشركين".
رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها: التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتال، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة
خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو أو ما يقوم مقامه من جزية أو غيرها.
سادسها: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام؛ وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن. "فتح الباري" ١/ ٧٧ باختصار وبمثل هذا توجه الآية، والله أعلم.