آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ

النوع الثاني:
وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي أنه تعالى يزيل آثار جميع الذنوب والآثام الكبائر والصغائر ويمحوها ويسترها في الدنيا. ولا شك بأن التوبة أحد مظاهر التقوى.
النوع الثالث:
وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي ويزيلها يوم القيامة لأنه صاحب الفضل العظيم، ومن كان كذلك، فإنه إذا وعد بشيء وفّى به.
وفي الجملة: تكون التقوى نورا في الدنيا والآخرة، وسببا للسعادة فيهما، وتحقيق الآمال جميعها، والنجاة من كل سوء وشر، لذا قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ [البقرة ٢/ ١٩٧].
ألوان الكيد والمؤامرة من المشركين على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
البلاغة:
وَيَمْكُرُ اللَّهُ برد مكرهم أو بمجازاتهم عليه، وإسناد أمثال هذا إلى الله إنما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم. فإضافة المكر إليه تعالى على طريق (المشاكلة) بمعنى إحباط ما دبروا من كيد ومكر، والمشاكلة: أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ يَمْكُرُ أي واذكر يا محمد إذ اجتمع أهل مكة للمشاورة في شأنك بدار الندوة.

صفحة رقم 303

والتذكير بمكر قريش ليشكر نعمة الله عليه في خلاصه من مكرهم وتدبيرهم واستيلائه عليهم.
والمكر: التدبير الخفي لإيصال المكروه إلى آخر من حيث لا يشعر.
لِيُثْبِتُوكَ يوثقوك بالوثاق، ويحبسوك بالقيد، حتى لا تقدر على الحركة. أَوْ يَقْتُلُوكَ كلهم قتلة رجل واحد. أَوْ يُخْرِجُوكَ يطردوك من مكة. وَيَمْكُرُونَ بك.
ويمكر الله بهم بتدبير أمرك بأن أوحى إليك ما دبروه وأمرك بالخروج. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أعلمهم به، وأفضل المدبرين.
آياتُنا القرآن. قالُوا: قَدْ سَمِعْنا، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا قاله النضر بن الحارث لأنه كان يأتي الحيرة يتّجر، فيشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة. إِنْ ما. هذا القرآن. إِلَّا أَساطِيرُ أكاذيب، جمع أسطورة: وهي القصص والأحاديث التي سطرت في الكتب القديمة الأولى بدون تمحيص ولا نظام.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٠) :
وَإِذْ يَمْكُرُ: أخرج ابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس: أن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت بما اجتمعتم له، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأي أو نصح، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، فقال قائل: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير ونابغة، فإنما هو كأحدهم.
فقال عدو الله الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله ليخرجن رائد من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم، ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا في غير هذا الرأي.

صفحة رقم 304

فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم، واستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع.
فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم، ثم استعرض العرب، ليجتمعنّ عليه، ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم.
قالوا: صدق والله، فانظروا غير هذا، فقال أبو جهل: والله لأشيرنّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره، قالوا: وما هذا؟ قال:
تأخذون من كل قبيلة وسيطا شابا جلدا- قويا- ثم نعطي كل غلام منهم سيفا صارما يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرّق دمه في القبائل كلها، فلا أظن أن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلهم، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل- الدية- واسترحنا وقطعنا أذاه عنا.
فقال الشيخ النجدي: هذا والله، هو الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره.
فتفرقوا على ذلك، وهم مجمعون له فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك في الخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة، يذكّره نعمته عليه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. هذه أسباب الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
نزول الآية (٣١) :
وَإِذا تُتْلى: أخرج ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير قال: قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر صبرا «١» عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنّضر بن

(١) القتل صبرا: أن يحبس ويرمى حتى يموت.

صفحة رقم 305

الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله، أسيري؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول».
قال:
وفيه نزلت هذه الآية: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا: قَدْ سَمِعْنا الآية.
المناسبة:
لما ذكّر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ كذلك ذكّر رسوله نعمه عليه، وهو دفع كيد المشركين، ومكر الماكرين عنه.
التفسير والبيان:
واذكر أيها النبي حينما اجتمع المشركون لتدبير مؤامرة خطيرة عليك وعلى دعوتك، فذلك أمر يستحق الشكر على النعمة، ويدعو للعبرة والعظة، ويدل على صدق دعوتك وتأييد ربك لك في وقت المحنة العصيبة.
لقد دبروا لك إحدى مكائد ثلاث: إما الحبس الذي يحول بينك وبين دعوة الناس، وإما القتل بطريق جميع القبائل، وإما الطرد والإخراج من البلاد.
إنهم يمكرون ويدبرون في السرّ أمرا مكروها لإيقاعه بك من حيث لا تحتسب، ولكن الله عزت قدرته يحبط مكرهم ويبطل تآمرهم ويذهب كيدهم هباء، فقد أخرجك مهاجرا سليما من بينهم دون أي أذى، من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، والله خير المدبرين وأعلمهم ولا خير في مكرهم. فمعنى قوله:
وَيَمْكُرُونَ: يخفون المكايد له، ومعنى: وَيَمْكُرُ اللَّهُ: ويخفي الله ما أعدّ لهم حتى يأتيهم بغتة، ومكر الله: هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي مكره أنفذ من مكر غيره، وأبلغ تأثيرا، وأحق بالفعل المدبّر لأن تدبيره نصر للحق وعدل، ولا يفعل إلا ما هو مستوجب.

صفحة رقم 306

وفي هذا دلالة على أن موقف الكفار من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ودعوته موقف متميز دائما بالإساءة والأذى.
وبعد أن حكى الله مكرهم لذات محمد، حكى مكرهم لدينه وكتابه، فقال:
وَإِذا تُتْلى... أي إذا تليت آيات القرآن الواضحة، قالوا جهلا وعنادا وسفها واستكبارا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، وهو اعتراف ضمني بعجزهم عن الإتيان بمثل القرآن، وقد تحداهم للإتيان بأقصر سورة منه، ولكنه التمويه والخداع والإيهام، كما يفعل الضعيف الجبان أمام البطل الشجاع المغوار، يدعي أنه قادر على قتله، وهو مجرد كلام هراء.
وكان قائل هذا القول: هو النضر بن الحارث، روي أن النضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجرا، واشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم، فيقرأ عليهم أساطير الأولين، وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين.
إنه كان يذهب إلى أرض فارس، فيسمع أخبارهم عن رستم وإسفنديار وكبار العجم، ويمرّ باليهود والنصارى، فيسمع منهم التوراة والإنجيل، ثم يأتي ليحدث أهل مكة بما سمع.
ثم عللوا قولهم الكاذب بما هو أكذب، فقال: ما هذا القرآن إلا أخبار وأكاذيب وأحاديث الأولين، مثل قصص الأمم السابقين. ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٥] ومعنى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي كتب المتقدمين اقتبسها، فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس. وهذا هو الكذب البحت، كما أخبر الله عنهم في الآية التالية: قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان ٢٥/ ٦].

صفحة رقم 307

والقائل: هو النضر بن الحارث الذي أنزل فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً [لقمان ٣١/ ٦] فقد اشترى قينة جميلة تغني الناس بأخبار الأمم، لصرفهم عن سماع القرآن.
ويلاحظ أنهم نسبوا آيات القرآن إلى قصص السابقين، ولكنهم لم يقولوا:
إن محمدا افتراها أو اختلقها إذ كانوا يعتقدون صدقه وأنه ليس كذابا، كما قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام ٦/ ٣٣].
وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث وأبي جهل والوليد بن المغيرة يصدون الناس عن سماع القرآن، ثم يحاولون التنصت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلا، حتى إن الوليد بن المغيرة أعلن كلمته بعد تأثره بآيات القرآن: «إنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه يحطم ما تحته» ثم حاول إبطال هذه الكلمة كيلا تسمعها العرب بتأثير زعماء الشرك فقال: «إن هذا إلا سحر يؤثر».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على أن حادث الهجرة كان معجزة ربانية لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فقد اجتمع المشركون في دار الندوة، واتفقوا على قتله، وانتدبوا من كل قبيلة شابا وسيطا جلدا قويا ليقتلوه بضربة رجل واحد، ليتفرق دمه على القبائل، فلا يستطيع قومه بنو هاشم محاربة القبائل كلها.
فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يعمي عليهم أثره
، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض.
فلما أصبحوا خرج عليهم علي، فأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فد فات ونجا. والقصة معروفة في السيرة.

صفحة رقم 308

والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد، والله تعالى نصره وقواه، فتبدد فعلهم، وظهر صنع الله تعالى.
والمراد من قوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ مع أنه لا خير في مكرهم أنه أقوى وأشد وأعلم، لينبه بذلك على أن كل مكر، فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى. وفي الآية إيماء إلى أن شأن الكفار إيذاء دائم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومن تبعه.
وكما بدد الله مكرهم لشخص محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بدد مكرهم لدينه وشرعه، فزعموا أنه أساطير الأولين، فردّ الله عليهم: أن الله الذي يعلم السر في السموات والأرض هو منزّل القرآن.
ودلّ قولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا على أن معارضتهم للقرآن مجرد قول وادعاء، ولم يتمكنوا بالفعل من معارضته، ومجرد القول لا فائدة فيه.
وكان هذا وقاحة وكذبا، وقيل: إنهم توهموا أنهم يأتون بمثل القرآن، كما توهّمت سحرة موسى، ثم راموا ذلك فعجزوا عنه، وقالوا عنادا: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام ٦/ ٢٥ ومواضع أخرى]. وإلقاء مثل هذا الكلام والاتهام الباطل ينم عن الضعف والعجز، وسطحية الجاهل العامي، كما أنه موقف يدعو للسخرية والهزء من القائلين إذ لو كان لديهم دليل عقلي مقبول مفنّد لأعلنوه.

صفحة رقم 309
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية