
سعداء وأشقياء، وسؤال المشركين عن ميقات الساعة، وتفويض أمرها إلى الله تعالى، لا إلى أحد حتى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتأكيد حدوثها، وذهول المشركين من شدة هولها، ومعرفتهم أن مكثهم في الدنيا كمقدار العشي أو الضحى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى.. [الآيات: ٣٤- ٤٦].
الحلف على وقوع البعث وأحوال المشركين فيه والرد على إنكارهم إياه
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١ الى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)
الإعراب:
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً غَرْقاً منصوب على المصدر، وكذلك نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً كلها منصوبات على المصدر.
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أَمْراً منصوب إما لأنه مفعول به ل فَالْمُدَبِّراتِ أو بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: والمدبرات بأمر لأن التقدير ليس إلى الملائكة، وإنما هو إلى الله تعالى، فهي مرسلة بما يأمرها به.
وجواب القسم محذوف تقديره: لتبعثن، بدليل إنكارهم للبعث في قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أو الجواب: يَوْمَ تَرْجُفُ على تقدير حذف اللام، أي ليوم ترجف، وهذا ضعيف، أو الجواب: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً.
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يَوْمَ: إما منصوب بفعل دلّ عليه قوله تعالى: قُلُوبٌ صفحة رقم 32

يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ
أي وجفت قلوبهم، فيكون يومئذ بدلا من يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ أو بتقدير:
اذكر يوم ترجف، والجملة حال.
البلاغة:
تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً أقسم الله بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعا بشدة وألم.
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً الملائكة التي تخرج أرواح المؤمنين برفق وسهولة. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً الملائكة التي تسبح من السماء، أي تنزل مسرعة بأمره تعالى. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً الملائكة تسبق بالأرواح إلى مستقرها. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً تنزل بتدبير ما أمرت به.
فهذه كلها صفات الملائكة، وقيل: إنها الكواكب الجارية على نظام معين في سيرها، غَرْقاً مسرعة في جريها. نَشْطاً خارجة من برج إلى برج. سَبْحاً سائرة في أفلاكها بهدوء. سَبْقاً مسرعة قبل غيرها في سبحها. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً تدبر أمرا نيط بها، كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات.
تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تضطرب الأرض والجبال وتتحرك، كقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل ٧٣/ ١٤]. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ تلحق بها السماء والكواكب، فتنشق وتنتثر، وقيل: الرَّاجِفَةُ: النفخة الأولى، والرَّادِفَةُ: النفخة الثانية. واجِفَةٌ خائفة قلقة شديدة الاضطراب، من الوجيف: وهي صفة القلوب. خاشِعَةٌ ذليلة، لهول ما ترى، أي أبصار أصحابها ذليلة من الخوف. يَقُولُونَ أي أصحاب القلوب والأبصار استهزاء وإنكارا للبعث. لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أي أنرد بعد الموت إلى الحياة؟ والْحافِرَةِ الحياة الأولى، يقال: فلان رجع في حافرته، أي طريقته التي جاء فيها، فيرجع من حيث جاء.
نَخِرَةً بالية متفتتة. قالُوا: تِلْكَ أي رجعتنا إلى الحياة. إِذا إن صحت.
كَرَّةٌ خاسِرَةٌ رجعة ذات خسران يخسر أصحابها. زَجْرَةٌ صيحة وهي النفخة الثانية لبعث الأموات. فَإِذا هُمْ كل الخلائق. بِالسَّاهِرَةِ أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض، بعد أن كانوا ببطنها أمواتا.

سبب النزول: نزول الآية (١٠، ١٢) :
أخرج سعيد بن منصور عن محمد بن كعب قال: لما نزل قوله: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ قال كفار قريش: لئن حيينا بعد الموت لنخسرن، فنزلت: قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ.
التفسير والبيان:
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً «١» أقسم الله سبحانه بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار من أجسادهم بشدة وعنف وإغراق في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد، وتخرج أرواح المؤمنين بسرعة ولطف وسهولة، وبالملائكة الذين ينزلون من السماء مسرعين، لأمر الله تعالى، والملائكة التي تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وتدبر الأمر بأن تنزل بالحلال والحرام وتفصيلهما، وتدبر أهل الأرض بالرياح والأمطار وغير ذلك. قيل: إن تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة: جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل: فموكل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل: فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل: فهو ينزل بالأمر عليهم.
وقال الحسن البصري: المراد بالكلمات الخمس: النجوم والكواكب في جريها وتنقلها بين الأبراج وسيرها في أفلاكها هادئة أو مسرعة أو مدبرة أمرا بأمر الله تعالى.

وإنما قال: أَمْراً، لا أمورا لأن المراد به الجنس، فيقوم مقام الجمع، وتدبير الأمر في الحقيقة لله تعالى، وإنما أضيف إلى الملائكة لإتيانها به، ولأنها من أسبابه.
وجواب القسم محذوف، أي لتبعثن بعد الموت، بدليل إنكارهم البعث كما حكى الله عنهم فيما بعد بقوله: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [١١] أي انبعث بعد نخر العظام؟
وإنما عطف الثلاثة الأولى بالواو، والباقيتين بالفاء لأن هاتين مسببتان عن التي قبلها، كما قال الزمخشري.
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أي حين تتحرك الأرض وتضطرب الجبال، كقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل ٧٣/ ١٤] ثم تتلوها السماء، فتنشق بما فيها من الكواكب وتنتثر. وقيل:
الرَّاجِفَةُ: هي النفحة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق، وتليها النفخة الثانية التي يكون عندها البعث.
أخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي بن كعب رضي الله عنه، واللفظ للترمذي، قال: «إذا ذهب ثلثا الليل قام، فقال:
يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه» زاد أحمد: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟
قال: إذن يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك».
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ، أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي هناك قلوب تكون يوم القيامة خائفة مضطربة قلقة، لما عاينت من أهوال يوم القيامة، وهي قلوب الكفار، وأبصار أصحابها ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال، بسبب موتهم على غير الإسلام، وإنكارهم البعث، وهذه هي أقوالهم:

يَقُولُونَ: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي يقول مشركو قريش وأمثالهم المنكرون المعاد، المستبعدون وقوع البعث إذا قيل لهم: إنكم تبعثون، هل نردّ إلى حياتنا الأولى وابتداء أمرنا قبل الموت، فنصير أحياء بعد موتنا، وبعد المصير إلى الحافرة وهي القبور؟
وهو كقولهم: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء ١٧/ ٩٨].
وكيف يتصور أن نرد إلى الحياة بعد تمزق أجسادنا وتفتت عظامنا، وصيرورتها عظاما بالية ناخرة؟
إن رددنا بعد الموت وصحّ أن بعثنا يوم القيامة لنخسرنّ أو تكون رجعة ذات خسران لتكذيبنا بما أخبر به محمد، وسيصيبنا ما يقوله هذا النبي. وهذا القول صادر منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم، لاعتقادهم ألا بعث.
ثم ردّ الله تعالى عليهم وأفحمهم قائلا:
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أي لا تستبعدوا ذلك، فإنما الأمر يسير، ولا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله، وما هي إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية التي يبعث الله بها الموتى من القبور، فإذا هم على وجه الأرض أحياء، وحينئذ يحاسب الخلائق. والساهرة على الصحيح هي أرض الآخرة، وهي أرض بيضاء مستوية، والمراد بها هنا: وجهها الأعلى، وسطحها الظاهر.
وإنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون عليها حينئذ، وقيل: هي أرض بالشام.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- أقسم الله سبحانه بأنواع خمسة من الملائكة ذوي مهام متنوعة على أن القيامة حق. والقسم بها تعظيم لها وتنويه بها. ولله أن يقسم على ما يشاء في أي وقت يشاء،

ولإثبات أو نفي ما يشاء، كالتوحيد وأن القرآن حق والرسول حق والبعث حق.
والمقسم به من المخلوقات في القرآن الكريم أحد نوعين:
الأول- أن تكون المخلوقات معظمة عند بعض الناس، كالشمس والقمر.
الثاني- أن تكون المخلوقات مهملة مذهول عنها في أنظار الناس، كمواقع النجوم والرياح والملائكة.
٢- في يوم القيامة الرهيب ترجف الأرض والجبال، وتتحرك وتضطرب، وتتبعها السماء، فتنشق وتنتثر، والأرض: هي الراجفة، والسماء: هي الرادفة، وقيل: الراجفة هي النفخة الأولى، والرادفة هي النفخة الثانية.
والظاهر المعنى الأول، قال مجاهد: الرادفة حين تنشق السماء، وتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة.
٣- تكون قلوب الكفار الذين ماتوا على غير دين الإسلام خائفة وجلة، وأبصار أصحابها منكسرة ذليلة من هول ما ترى.
٤- أثبت المشركون المكذبون منكرو البعث على أنفسهم إنكار المعاد والبعث بأقوال ثلاثة، فإذا قيل لهم: إنكم تبعثون، قالوا منكرين متعجبين: أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟
ولا نتصور أن نعود كما كنا بعد أن نصير عظاما نخرة، أي بالية متفتّتة.
وزادوا في الاستهزاء والتهكم، فقالوا: إننا إذا بعثنا فتلك رجعة خائبة، كاذبة باطلة.
٥- ردّ الله تعالى عليهم وأفحمهم فقال: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله، فما هي إلا صيحة واحدة، فإذا هم بالساهرة أي على وجه الأرض أو سطحها، بعد أن كانوا في بطونها. قال الثوري: الساهرة: أرض الشام.