فإنها ظاهرة في الرياح فإن بها ينزل المال من السحاب ولهذه القراءة جعل بعضهم من في قراءة الجمهور وتفسير الْمُعْصِراتِ بالرياح للتعليل. وذهب غير واحد إلى أنها للتعليل ابتدائية فإن السحاب كالمبدأ الفاعل للإنزال وتعقب بأن ورود من كذلك قليل وعن أبي الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة أيضا أنها السماوات، وتعقب بأن السماء لا ينزل منها الماء بالعصر فقيل في تأويله أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأن السماوات يعصرن أي يحملن على عصر الرياح السحاب، ويمكن منه وتعقب بأنه مع بعده إنما يتم لو جاء المعصر بمعنى العاصر أي الحامل على العصر، ولو قيل المراد بالمعصر الذي حان له أن يعصل كان تكلفا على تكلف والذي في الكشف أن الهمزة على التأويل المذكور للتعدية فتدبر ولا تغفل ماءً ثَجَّاجاً أي منصبا بكثرة، يقال: ثج الماء إذا سال بكثرة، وثجه أي أساله فثجّ. ورد لازما ومتعديا واختير جعل ما في النظم الكريم من اللازم لأنه الأكثر في الاستعمال وجعله الزجاج من المتعدي كأن الماء المنزل لكثرته يصب نفسه ومن المتعدي ما في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الحج العج والثج»
أي رفع الصوت بالتلبية وصب ماء الهدي والمراد أفضل أعمال الحج التلبية والنحر ولا يأبى الكثرة كون الماء من المعصرات وظاهره أنه بالعصر وهو لا يحصل منه إلّا القليل لأن ذلك غير مسلم ولو سلم فالقلة نسبية. وقرأ الأعرج «ثجاجا» بجيم ثم حاء مهملة ومثاجج الماء: مصابه.
لِنُخْرِجَ بِهِ أي بذلك الماء وهو على ظاهره عند السلف ومن اقتدى بهم وقالت الأشاعرة أي عنده حَبًّا وَنَباتاً ما يقتات به كالحنطة والشعير ويعتلف كالحشيش والتبن وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الإخراج لأصالته وشرفه لأن غالبه غذاء الإنسان وَجَنَّاتٍ جمع جنة وهي كل بستان ذي شجر يستره بأشجاره الأرض من الجن وهو الستر. وقال الفراء: الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعليه حمل قوله زهير:
من النواضح تسقي جنة سحقا وهو المراد هنا وقوله تعالى أَلْفافاً أي ملتفة تداخل بعضها ببعض قيل لا واحد له كالأوزاع والأخياف للجماعات المتفرقة المختلفة اختاره الزمخشري. وقال ابن قتيبة: جمع لف بضم اللام جمع لفاء فهو جمع
الجمع، واستبعد بأنه لم يجىء في نظائره ذلك فقد جاء خضر جمع خضراء وحمر جمع حمراء ولم يجىء أخضار جمع خضر ولا أحمار جمع حمر وجمع الجمع لا ينقاس ووجود نظيره في المفردات لا يكفي كذا قيل. وقال الكسائي جمع لفيف بمعنى ملفوف وفعيل يجمع على أفعال كشريف وأشراف وإنما اختلف النحاة في كونه جمعا لفاعل وفي الكشاف لو قيل هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها انتهى. وإنما يقدر حذف الزوائد وهو الذي يسميه النحاة في مثل ذلك ترخيما لأن قياس جمع ملتفة ملتفات لا ألفاف واعترضه في الكشف فقال فيه إنه لا نظير له لأن تصغير الترخيم ثابت (١) أما جمعه فلا لكن قيل إن هذا غير مسلم فإنه وقع في كلامهم ولم يتعرضوا له لقلته والحق أنه وجه متكلف وجمهور اللغويين على أنه جمع لف بالكسر وهو صفة مشبهة بمعنى ملفوف وفعل يجمع على أفعال باطراد كجذع وأجذاع وعن صاحب الاقليد أنه قال: أنشدني الحسن بن علي الطوسي:
جنة لف وعيش مغدق... وندامى كلهم بيض زهر
وجوز في القاموس أن يكون جمع لف بالفتح هذا وفيما ذكر من أفعاله تعالى شأنه دلالة على صحة البعث وحقيته من أوجه ثلاثة على ما قيل الأول باعتبار قدرته عزّ وجلّ فإن من قدر على إنشاء تلك الأمور البديعة من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه كان على الإعادة أقدر وأقوى. الثاني باعتبار علمه وحكمته فإن من أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع مستتبع لغايات جليلة ومنافع جميلة عائدة إلى الخلق يستحيل حكمة أن لا يجعل لها عاقبة الثالث باعتبار نفس الفعل فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت يشاهده كل واحد وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض يعاين كل حين فكأنه قيل قد فعلنا أو ألم نفعل هذه الأفعال الآفاقية الدالة بفنون الدلالة على حقية البعث الموجبة للإيمان به فما لكم تخوضون فيه إنكارا وتسألون عنه استهزاء. وقوله تعالى إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً شروع في بيان سر تأخير ما يتساءلون عنه ويستعجلون به قائلين مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النمل: ٧١، سبأ: ٣٩، يس: ٤٨، الملك: ٢٥] ونوع تفصيل لكيفية وقوعه وما سيلقونه عند ذلك من فنون العذاب حسبما جرى به الوعيد إجمالا. وقال بعض الأجلة إنه لما أثبت سبحانه صحة البعث كان مظنة السؤال عن وقته فقيل: إِنَّ إلخ وأكد لأنه مما ارتابوا فيه وليس بذاك أي إن يوم فصل الله تعالى شأنه بين الخلائق كان في علمه عز وجل ميقاتا وميعادا لبعث الأولين والآخرين وما يترتب عليه من الجزاء ثوابا وعقابا لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر وقيل حدا توقت به الدنيا وتنتهي إليه أو حدا للخلائق ينتهون إليه لتمييز أحوالهم والأول أوفق بالمقام على أن الدنيا تنتهي على ما قيل عند النفخة الأولى وأيّا ما كان فالمضي في كان باعتبار العلم وجوز أن يكون بمعنى يكون وعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي النفخة الثانية ويَوْمَ بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو عطف بيان مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخ وفي بقيته الفصل ومبادئه وآثاره وتقدم الكلام في الصور. وقرأ أبو عياض «في الصّور» بفتح الواو جمع صورة وقد مر الكلام في ذلك أيضا.
والفاء في قوله تعالى فَتَأْتُونَ فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية
سرعة الإتيان كما في قوله تعالى فقلنا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: ٦٣] أي فتحيون فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلا أَفْواجاً أي أمما كل أمة بإمامها كما قال سبحانه يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: ٧١] أو زمرا وجماعات مختلفة الأحوال متباينة الأوضاع حسب اختلاف الأعمال وتباينها. واستدل لهذا بما
خرج ابن مردويه عن البراء بن عازب أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله ما قول الله تعالى يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا؟ فقال: «يا معاذ سألت عن عظيم من الأمور» ثم أرسل عينيه ثم قال عليه الصلاة والسلام: «عشرة أصناف قد ميّزهم عز وجل من جماعة المسلمين فبدل صورهم، فبعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسين أرجلهم فوق وجوههم أسفل يسحبون عليها، وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صمّ بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس، وأما الذين على صورة الخنازير فأكلة السحت، وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف أقوالهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالساعون بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى من أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والخيلاء والفخر»
. وهذا كما قال ابن حجر حديث موضوع وآثار الوضع لائحة عليه، وعليه قيل لا بد من التغليب في قوله تعالى «تأتون». إذ لا يمكن الإتيان للمصلوب والمسحوب على الوجه ولا لمن قطعت يداه ورجلاه، وتعقب بأنه ليس بشيء فإن أمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا، والقادر على البعث قادر على جعلهم ماشين بلا أيد وأرجل وأن تمشي بهم عمد النار التي صلبوا عليها مع أنه لا يلزم أن يأتوا بأنفسهم لجواز أن تأتي بهم الزبانية وَفُتِحَتِ السَّماءُ عطف على يُنْفَخُ على ما قيل وصيغة الماضي للدلالة على التحقق. وعن الزمخشري أنه معطوف على فَتَأْتُونَ وليس بشرط أن يتوافقا في الزمان كما يظن من ليس بنحوي وأقره في الكشف وقال: الشرط في حسنه أن يكون مقربا من الحال أو يكون المضارع حكاية حال ماضية وما نحن فيه مضارع جيء به بلفظ الماضي تفخيما وتحقيقا لوقوعه فهو أقرب قريب منه. ولو جعل حالا على معنى فتأتون وقد فتحت السماء لكان وجها. وقرأ الجمهور أي من عدا الكوفيين «فتحت» بالتشديد قيل وهو الأنسب بقوله تعالى فَكانَتْ أَبْواباً وفسر الفتح بالشق لقوله تعالى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١] وقوله سبحانه إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١] إلى غير ذلك والقرآن يفسر بعضه بعضا. وجاء الفتح بهذا المعنى كفتح الجسور وما ضاهاها ولعل نكتة التعبير به عنه الإشارة إلى كمال قدرته تعالى حتى كان شق هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة وكان معنى صار ولدلالتها على الانتقال من حال إلى أخرى وكون السماء بالشق لا تصير أبوابا حقيقة قالوا إن الكلام على التشبيه البليغ أي فصارت شقوقها لسعتها كالأبواب أو فصارت من كثرة الشقوق كأن الكل أبواب أو بتقدير مضاف أي فصارت ذات أبواب، وقيل الفتح على ظاهره الكلام بتقدير مضاف إلى السماء أي فتحت أبواب السماء فصارت كأن كلها أبواب ويجامع ذلك شقها فتشق وتفتح أبوابها، وتعقب بأن شقها لنزول الملائكة كما قال تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: ٢٥] فإذا شققت لا يحتاج لفتح الأبواب وأيضا فتح أبوابها ليس
من خواص يوم الفصل وفيه بحث نعم إن الوجه الأول أولى وقيل المعنى بفتح مكان السماء بالكشط فتصير كلها طرقا لا يسدها شيء وفيه بعد. وعلى ما تقدم في الآية رد على زاعمي امتناع الخرق على السماء وفيها على هذا رد لزاعمي كشطها كما هو المشهور عن الفلاسفة المتقدمين وإن حقق الملا صدرا في الأسفار أن أساطنتهم على خلاف ذلك والفلاسفة اليوم ينفون السماء المعروفة عند المسلمين ولم يأتوا بشيء تؤول له الآيات والأخبار الصحيحة في صفتها كما لا يخفى على الذكي المنصف.
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ أي في الجو على هيئتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: ٨٨] وأدمج فيه تشبيه الجبال بحبال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:
٥] فَكانَتْ سَراباً أي فصارت بعد تسييرها مثل سراب فترى بعد تفتتها وارتفاعها في الهواء كأنها جبال وليست بجبال بل غبار غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل كالسراب يرى كأنه بحر مثلا وليس به فالكلام على التشبيه البليغ والجامع أن كلّا من الجبال والسراب يرى على كل شيء وليس هو بذلك الشيء، وجوز أن يكون وجه الشبه التخلخل إذ تكون بعد تسييرها غبارا منتشرا كما قال تعالى وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: ٥، ٦] والمستفاد من الأزهار البديعة في علم الطبيعة لمحمد الهراوي أن السراب هواء تسخنت طبقته السفلى التي تلي الأرض لتسخن الأرض من حر الشمس فتخلخلت وصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات فكان أكثف مما تحته وخرج بذلك التسخن عن موقعه الطبيعي من الأرض ولانعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها فيه على وجه مخصوص مبين في الكتاب المذكور مع انعكاس لون السماء يظن ماء وترى فيه صورة الشيء منقلبة، وقد ترى فيه صور سابحة كقصور وعمد ومساكن جميلة مستغربة وأشباح سائرة تتغير هيئتها في كل لحظة وتنتقل عن محالها ثم تزول وما هي إلّا صور حاصلة من انعكاس صور مرئية بعيدة جدا أو متراكبة في طبقات الهواء المختلفة الكثافة فاعتبار التخلخل فقط في وجه الشبه لا يخلو عن نظر وأيا ما كان فهذا بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق فالله عز وجل يسير الجبال ويجعلها هباء منبثا ويسوي الأرض يومئذ كما نطق به قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه: ١٠٥- ١٠٨] وقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: ٤٨] فإن اتّباع الداعي الذي هو إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلّا بعد النفخة الثانية، وأما اندكاك الجبال وانصداعها فعند النفخة الأولى. وقيل: إن تسييرها وصيرورتها سرابا عند النفخة الأولى أيضا ويأباه ظاهر الآية. نعم لو جعلت الجملة حالية أي فتأتون أفواجا وقد سيرت الجبال فكانت سرابا لكان ذلك محتملا والظاهر أنها تصير سرابا لتسوية الأرض ولا يبعد أن يكون فيه حكم أخرى وقول بعضهم إنها تجري جريان الماء وتسيل سيلانه كالسراب فيزيد ذلك في اضطراب متعطشي المحشر وغلبة شوقهم إلى الماء خلاف الظاهر.
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً شروع في تفصيل أحكام الفصل الذي أضيف إليه اليوم إثر بيان هوله والمرصاد اسم مكان كالمضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ومفعال يكون كذلك على ما صرح به الراغب والجوهري وغيرهما، كما يكون اسم آلة وصفة مشبهة للمبالغة والظاهر أنه حقيقة في الجميع أي موضع رصد وترقب ترصد فيه خزانة النار الكفار ليعذبوهم. وقيل: ترصد فيه خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في
مجازهم عليها. وقيل: ترصد فيه الملائكة عليهم السلام الطائفتين لتعذب (١) إحداهما وهي المؤمنة وتعذب الأخرى وهي الكافرة وجوز أن يكون صيغة مبالغة كمتحار أي مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منهم واحد أو مجدة في ترصد المؤمنين لئلا يتضرر أحد منهم من فيحها أو مجدة في ترصد الطائفتين على نحو ما سمعت آنفا، وإسناد ذلك إليها مجاز أو على سبيل التشبيه. وفي البحر إن مِرْصاداً معنى النسب أي ذات رصد وقد يفسر المرصاد بمطلق الطريق وهو أحد معانيه فيكون للطائفتين ومن هنا قال الحسن كما أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد في الآية، لا يدخل الجنة أحد حتى يجتاز النار. وقال قتادة كما أخرج هؤلاء عنه أيضا اعلموا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار. وقوله تعالى لِلطَّاغِينَ أي المتجاوزين الحد فيه الطغيان متعلق بمضمر إما نعت ل مِرْصاداً أي كائنا للطاغين وإما حال من قوله تعالى مَآباً قدم عليه لكونه نكرة ولو تأخر لكان صفة له أي كانت مرجعا ومأوى كائنا لهم يرجعون إليه ويأوون لا محالة، وجوز أن يكون خبرا آخر لكانت أو متعلقا بمآبا أو بمرصاد، وعليه قيل معنى مِرْصاداً لهم معدة لهم من قولهم أرصدت له أي أعدت وكافأته بالخير أو بالشر ومَآباً قيل بدل من مِرْصاداً على جميع الأوجه بدل كل من كل وقيل: هو خبر ثان لكانت أو صفة لمرصادا، ولِلطَّاغِينَ متعلق به أو حال منه على بعض التفاسير السابقة في كانَتْ مِرْصاداً فتأمل. وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر «أن جهنم» بفتح الهمزة بتقدير لام جر لتعليل قيام الساعة المفهوم من الكلام والمعنى كان ذلك لإقامة الجزاء، وتعقب بأنه ينبغي حينئذ أن يكون «أن للمتقين» أيضا بالفتح ومعطوفا على ما هنا لأنه بكليهما يتم التعليل بإقامة الجزاء إلّا أن يقال ترك العطف للإشارة إلى استقلال كل من الجزاءين في استدعاء قيام الساعة وفيه نظر لأنه بذاك يتم الجزاء وأما نفس إقامته فيكفي في تعليلها ما ذكر على أنه لو كان المراد فيما سبق كانت مرصادا للفريقين على ما سمعت لا يتسنى هذا الكلام أصلا وقوله تعالى لابِثِينَ فِيها أي مقيمين في جهنم ملازمين لها حال مقدرة من المستكن في لِلطَّاغِينَ.
وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن عليّ وابن وثاب وعمرو بن شرحبيل وابن جبير وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح «لبثين» بغير ألف بعد اللام وفيه من المبالغة ما ليس في لابِثِينَ وقال أبو حيان إن فاعلا يدل على من وجد منه الفعل وفعلا يدل على من شأنه ذلك كحاذر وحذر. وقوله تعالى أَحْقاباً ظرف للبثهم وهو وكذا أحقب جمع حقب بالضم وبضمتين وهو على ما روي عن الحسن بزمان غير محدود ونحوه تفسير بعض اللغويين له بالدهر. وأخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قال: الحقب الواحد ثمانون سنة وأخرج نحوه البزار عن أبي هريرة وابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن عمر. وروي عن جمع من السلف بيد أنهم قالوا إن كل يوم منه أي هنا مقدار ألف سنة من سني الدنيا.
وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر مرفوعا أنه بضع وثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة مما تعدون
وقيل أربعون سنة. وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت فيه حديثا مرفوعا وقال بعض اللغويين سبعون ألف سنة. واختار غير واحد تفسيره بالدهر وأيّا ما كان فالمعنى لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً متتابعة كلما مضى حقب تبعه حقب آخر وإفادة التتابع في الاستعمال بشهادة الاشتقاق فإنه من الحقيبة وهي ما يشد خلف
الراكب والمتتابعات يكون أحدها خلف الآخر فليس في الآية ما يدل على خروج الكفرة من النار وعدم خلودهم فيها لمكان فهم التتابع في الاستعمال، وصيغة القلة لا تنافي عدم التناهي إذ لا فرق بين تتابع الأحقاب الكثيرة إلى ما لا يتناهى، وتتابع الأحقاب القليلة كذلك. وقيل: إن الصيغة هنا مشتركة بين القلة والكثرة إذ ليس للحقب جمع كثرة فليرد بها بمعونة المقام جمع الكثرة وتعقب بثبوت جمع الكثرة له وهو الحقب كما ذكر الراغب والذي رأيته في مفرداته أن الحقب أي بكسر الحاء وفتح القاف الحقبة المفسرة بثمانين عاما نعم قيل إنه ينافيه ما ورد أنه يخرج أناس من أهل النار من النار ويقربون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيردون إلى النار بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها وتعقب بأنه إن صح إنما ينافيه لو كان الخروج حقبا تاما، أما لو كان في بعض أجزاء الحقب فلا لبقاء تتابع الأحقاب جملة سلمنا لكن هذا الإخراج الذي يستعقب الرد لزيادة التعذيب كاللبث في النار أشد والكلام من باب التغليب وليس فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز. ثم إن وجد أن في الآية ما يقتضي الدلالة على التناهي والخروج من النار ولو بعد زمان طويل فهو مفهوم معارض بالمنطوق الصريح بخلافه كآيات الخلود. وقوله تعالى وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [المائدة: ٣٧] إلى غير ذلك وإن جعل قوله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً حالا من المستكن في لابِثِينَ فيكون قيدا للبث فيحتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما وغساقا، ثم يكون لهم بعد الأحقاب لبث على حال آخر من العذاب. وكذا إن جعل أَحْقاباً منصوبا ب لا يَذُوقُونَ قيدا له إلّا أن فيه بعدا ومثله لو جعل لا يَذُوقُونَ فِيها إلخ صفة ل أَحْقاباً وضمير فِيها لها لا لجهنم لكنه أبعد من سابقه. وقيل المراد بالطاغين ما يقابل المتقين فيشمل العصاة والتناهي بالنظر إلى المجموع وهو كما ترى. وقوله مقاتل إن ذلك منسوخ بقوله تعالى فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فاسد كما لا يخفى. وجوز أن يكون أَحْقاباً جمع حقب كحذر من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق، وحقب العام إذ قل مطره وخيره. والمراد محرومين من النعيم وهو كناية عن كونهم معاقبين فيكون حالا من ضمير لابِثِينَ وقوله تعالى لا يَذُوقُونَ صفة كاشفة أو جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب وهو على ما ذكر أولا جملة مبتدأة خبر عنهم. والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار فلا ينافي أنهم قد يعذبون بالزمهرير، والشراب معروف، والحميم الماء الشديد الحرارة، والغساق ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد أي لا يذوقون فيه شيئا ما من روح ينفس عنهم حر النار ولا من شراب يسكن عطشهم لكن يذوقون ماء حارا وصديدا.
وفي الحديث «إن الرجل منهم إذا أدنى ذلك من فيه سقط فروة وجهه حتى يبقى عظاما تقعقع»
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن البرد الشراب البارد المستلذ. ومنه قول حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريص عليهم | بردا (١) يصفق بالرحيق السلسل |
أمانيّ من سعدى حسان كأنما | سقتك بها سعدى على ظما بردا |
النحوي: البرد النوم، والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منع البرد وقال الشاعر:
فلو شئت حرمت النساء سواكم... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
أي وهو مجاز في ذلك عند بعض. ونقل في البحر عن كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل. وعن ابن عباس وأبي العالية: الغساق الزمهرير وهو على ما قيل مستثنى من بَرْداً إلا أنه أخر لتوافق رؤوس الآي فلا تغفل. وقرأ غير واحد من السبعة «غساقا» بالتخفيف جَزاءً أي جوزوا بذلك جزاء ف جَزاءً مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر وجعله خبرا آخر لكانت ليس بشيء وقوله تعالى وِفاقاً مصدر وافقه صفة له بتقدير مضاف أي ذا وفاق أو بتأويله باسم الفاعل أو لقصد المبالغة على ما عرف في أمثاله وأيّا ما كان فالمراد جزاء موافقا لأعمالهم على معنى أنه بقدرها في الشدة والضعف بحسب استحقاقهم كما يقتضيه عدله وحكمته تعالى، والجملة من الفعل المقدر ومعموله جملة حالية أو مستأنفة وجوز أن يكون وِفاقاً مصدرا منصوبا بفعل مقدر أيضا أي وافقها وفاقا وهذه الجملة في موضع الصفة لجزاء. وقال الفراء: هو جمع وفق ولا يخفى ما في جعله حينئذ صفة لجزاء من الخفاء. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «وفّاقا» بكسر الواو وتشديد الفاء من وفقه يفقه كورثه يرثه وجده موافقا لحاله. وفي الكشف وفقه بمعنى وافقه وليس وصف الجزاء به وصفا بحال صاحبه كما لا يخفى. وحكى ابن القوطية وفق أمره أي حسن وليس المعنى عليه إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً تعليل لاستحقاق العذاب المذكور أي كانوا لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الناطقة بذلك أو به وبغيره مما يجب الإيمان به كِذَّاباً أي تكذيبا مفرطا وفعال بمعنى تفعيل في مصدر فعل مصدر شائع في كلام فصحاء العرب. وعن الفراء أنه لغة يمانية فصيحة وقال لي أعرابي على جبل المروة يستفتيني آلحلق أحب إليك أم القصار ومن تلك اللغة قول الشاعر:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي... وعن حاجة قضاؤها من شفائيا
وقال ابن مالك في التسهيل: إنه قليل. وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه في التخفيف. قال صاحب اللوامح: وذلك لغة اليمن يجعلون مصدر كذب مخففا كذابا بالتخفيف مثل كتب كتابا فكذابا بمعنى كذبا وعليه قول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها... والمرء ينفعه كذابه
والكلام هنا عليه من باب أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] ففعله الثلاثي أما مقدر أي كذبوا بأياتنا وكذبوا كذابا، أو هو مصدر للفعل المذكور باعتبار تضمنه معنى كذب الثلاثي فإن تكذيبهم الحق الصريح يستلزم أنهم كاذبون، وأيّا ما كان يدل على كذبهم في تكذيبهم، وجوز أن يكون بمعنى مكاذبة كقتال بمعنى مقاتلة فهو من باب المفاعلة على معنى أن كلّا منهم ومن المسلمين اعتقد كذب الآخر بتنزيل ترك الاعتقاد منزلة الفعل لا على معنى أن كلّا كذب الآخر حقيقة. ويجوز أن تكون المفاعلة مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم عن الجد والاجتهاد في الفعل، ويحتمل الاستعارة فإنهم كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه وعلى المعنيين كونه بمعنى الكذب وكونه بمعنى المكاذبة يجوز أن يكون حالا بمعنى كاذبين أو مكاذبين على اعتبار المشاركة وعدم اعتبارها. وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون «كذّابا» بضم الكاف وتشديد الذال وخرج على أنه جمع كاذب كفساق جمع فاسق فيكون حالا أيضا وكذبوا في حال كذبهم نظير إذا جاء حين يأتي على ما قيل في قوله طرفة:
إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا | به حين يأتي لا كذاب ولا علل |
أن يكون المراد أنه أشد حجج القرآن على أهل النار فإنه إذا بلغهم في الدنيا هذا الوعيد ولم يخافوا منه فقد قبلوا العذاب الأبدي في مقابلة الكفر فلا عذر لهم يوم القيامة في الحكم عليهم بخلود النار، وفيه من البعد ما فيه. واستشكل أمر زيادة العذاب بمنافاتها كون الجزء موافقا للأعمال وأجيب بأنها لحفظ الأصل إذ لولاها لألفوا ما أصابهم من العذاب أول مرة ولم يتألموا به وهو كما ترى. وقيل: إن العذاب لما كان للكفر والمعاصي وهي متزايدة في القبح في كل آن فالكفر مثلا في الزمن الثاني أقبح منه في الزمن الأول وهكذا، وعلم الله تعالى منهم لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك اقتضى ذلك زيادة العذاب وشدته يوما فيوما وقيل: لما كان كفرهم أعظم كفر اقتضى صفحة رقم 217
أشد عذاب والعذاب المزاد يوما فيوما من أشد العذاب وقيل غير ذلك فليتأمل.
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً شروع في بيان محاسن أحوال المؤمنين أثر بيان سوء أحوال الكافرين ومَفازاً مصدر ميمي أو اسم مكان أي إن للذين يتقون عمل الكفر فوزا وظفرا بمساعيهم أو موضع فوز وقيل نجاة مما فيه أولئك أو موضع نجاة حَدائِقَ بدل اشتمال من مَفازاً على الأول وبدل البعض على الثاني والرابط مقدر وتقديره حدائق فيه أو هي في محله أو نحو ذلك، وجوز أن يكون بدل كل على الادعاء أو منصوبا بأعني مقدرا وهو جمع حديقة بستان فيها أنواع الشجر المثمر زاد بعضهم والرياحين والزهر. وقال الراغب: قطعة من الأرض ذات ماء سميت بذلك تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها وكأنه أراد ذات ماء وشجر وَأَعْناباً جمع عنب ويقال للكرم نفسه ولثمرته والمتبادر عطفه على حدائق قبله وهو بعض منها إذا أريد به الكروم وبها الأشجار وموضعها وخص بالذكر اعتناء به، وأما إن أريد به الكروم وبها الموضع فقط فلا ويتعين الاشتمال كما إذا أريد به ثمرات الكروم وجوز أن يكون هو وكذا ما بعد عطفا على مَفازاً وَكَواعِبَ جمع كاعب وهي المرأة التي تكعّب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير ويكون ذلك في سن البلوغ وأحسن التسوية أَتْراباً أي لدات ينشأن معا تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لوقوعهن معا على التراب أي الأرض. وفي بعض التفاسير نساء الجنة كلهن بنات ست عشرة سنة ورجالهن أبناء ثلاث وثلاثين وَكَأْساً دِهاقاً أي مترعة. يقال: دهق فلان الحوض وأدهقه أي ملأه وروي عن ابن عباس أنه فسره بذلك وأنشد قوله الشاعر:
أتانا عامر يبغي قرانا | فأترعنا له كأسا دهاقا |
وجوز أن يكون نصبا بجزاء نصب المفعول به. وتعقبه أبو حيان بأن جَزاءً مصدر مؤكد لمضمون الجملة والمصدر المؤكد لا يعمل بلا خلاف لعلمه عند النحاة لأنه لا ينحل لفعل وحرف مصدري ورد بأن ذلك إذا صفحة رقم 218
كان الناصب للمفعول المطلق مذكورا أما إذا حذف مطلقا ففيه خلاف هل هو العالم أو الفعل. وقال الشهاب:
الحق ما قال أبو حيان لأن المذكور هنا هو المصدر المؤكد لنفسه أو لغيره والذي اختلف فيه النحاة هو المصدر الآتي بدلا من اللفظ بفعله:
كندل زريق المال ندل الثعالب وقوله:
يا قابل التوب غفرانا مآثم قد | أسلفتها أنا منها خائف وجل |
روي في كتب الصوفية من الحديث القدسي: «لولاك لما خلقت الأفلاك»
وقوله تعالى الرَّحْمنِ صفة لربك أو لرب السماوات على الأصح عند المحققين من جواز وصف المضاف إلى ذي اللام بالمعرف بها وجوز أن يكون عطف بيان وهل يكون بدلا من لفظ رَبِّكَ؟ قال في البحر: فيه نظر لأن الظاهر أن البدل لا يتكرر. وقوله تعالى لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً استئناف مقرر لما إفادته الربوبية العامة من غاية العظمة واستقلالا له تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير أن يكون لأحد قدرة عليه والقراءة كذلك مروية عن عبد الله وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم. وقرأ الأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفع الاسمين فقيل على أنهما خبران لمبتدأ مضمر أي هو رب السماوات إلخ. وقيل الأول هو الخبر والثاني صفة له أو عطف بيان وقيل الأول مبتدأ والثاني خبره ولا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خبر آخر أو هو الخبر والثاني نعت للأول أو عطف بيان وقيل لا يَمْلِكُونَ حال لازمة. وقيل: الأول مبتدأ أول، والثاني مبتدأ ثان ولا يَمْلِكُونَ خبره والجملة خبر للأول وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه على رأي من يقول به، واختير أن يكون كلاهما مرفوعا على المدح أو يكون الثاني صفة للأول ولا يَمْلِكُونَ استئنافا على حاله لما في ذلك من توافق القراءتين معنى. وقرأ الأخوان والحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما بجر الأول على ما سمعت ورفع الثاني على الابتداء والخبر ما بعده أو على أنه خبر لمبتدأ مضمر وما بعده استئناف أو خبر ثان، وضمير لا يَمْلِكُونَ لأهل السماوات والأرض ومِنْهُ بيان ل خِطاباً مقدم عليه أي لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم كما ينبىء عنه لفظ الملك خطابا ما في شيء ما والمراد نفي قدرتهم على أن يخاطبوه عز وجل بشيء من نقص العذاب أو زيادة الثواب من غير إذنه تعالى على صفحة رقم 219
أبلغ وجه وآكده، وجوز أن يكون منه صلة يَمْلِكُونَ ومن ابتدائية والمعنى لا يملكون من الله تعالى خطابا واحدا أي لا يملكهم الله تعالى ذلك فلا يكون في أيديهم خطاب يتصرفون فيه تصرف الملاك فيزيدون في الثواب أو ينقصون من العقاب، وهذا كما تقول: ملكت منه درهما وهو أقل تكلفا وأظهر من جعل مِنْهُ حالا من خِطاباً مقدما وإضمار مضاف أي خطابا من خطاب الله تعالى فيكون المعنى لا يملكون خطابا واحدا من جملة ما يخاطب به الله تعالى ويأمر به في أمر الثواب والعقاب. وظاهر كلام البيضاوي حمل الخطاب على خطاب الاعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب ومنه على ما سمعت منا أولا لا يملكون خطابه تعالى والاعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له عز وجل على الإطلاق فلا يستحقون عليه سبحانه اعتراضا أصلا. وأيّا ما كان فالآية لا تصلح دليلا على نفي الشفاعة بإذنه عز وجل. وعن عطاء عن ابن عباس أن ضمير لا يَمْلِكُونَ للمشركين وعدم الصلاحية عليه أظهر.
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قيل الرُّوحُ خلق أعظم من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين، وقيل: هو ملك ما خلق الله عز وجل بعد العرش خلقا أعظم منه. عن ابن عباس أنه إذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا والملائكة صفا. وعن الضحاك أنه لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة عليهم السلام.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الروح جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل».
وفي رواية: «يأكلون الطعام» ثم قرأ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا وقال: «هؤلاء جند وهؤلاء جند»
وروي القول بهذا عن مجاهد وأبي صالح. وقيل: هم أشراف الملائكة وقيل: هم حفظة الملائكة، وقيل: ملك موكل على الأرواح قال في الأحياء: الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجسام فإنه يتنفس فيكون في كل نفس من أنفاسه روح في جسم وهو حق يشاهده أرباب القلوب ببصائرهم. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك أنه جبريل عليه السلام وهو قول لابن عباس
فقد أخرج هو عنه أيضا أنه قال: إن جبريل عليه السلام يقوم القيامة لقائم بين يديّ الجبار ترعد فرائصه فرقا من عذاب الله تعالى يقول: سبحانك لا إله إلّا أنت ما عبدناك حق عبادتك وإن ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب أما سمعت قول الله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا
وفي رواية البيهقي في الأسماء والصفات عنه أن المراد به أرواح الناس وأن قيامها مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجساد وهو خلاف الظاهر في الآية جدا ولعله لا يصح عن الحبر. وقيل: القرآن وقيامه مجاز عن ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع ما لا يخفى ولم يصح عندي فيه هنا شيء ويَوْمَ ظرف لـ لا يَمْلِكُونَ وصَفًّا حال أي مصطفين قيل هما صفان الروح صف واحد أو متعدد والملائكة صف آخر، وقيل صفوف وهو الأوفق لقوله تعالى وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: ٢٢] وقيل يوم يقوم الروح والملائكة الكل صفا واحدا وجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى لا يَتَكَلَّمُونَ وقوله سبحانه إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً بدل من ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ وهو عائد إلى أهل السماوات والأرض الذين من جملتهم الروح والملائكة وذكر قيامهم مصطفين لتحقيق عظمة سلطانه تعالى وكبرياء ربوبيته عز وجل وتهويل يوم البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة الكريمة إلى مقطعها. والجملة استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ إلخ ومؤكد له على معنى أن أهل السماوات والأرض إذا لم يقدروا حينئذ أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلّا من أذن الله تعالى له منهم في التكلم مطلقا وقال ذلك المأذون له بعض.
الإذن في مطلق التكلم قولا صوابا أي حقا من الشفاعة لمن ارتضى فكيف يملكون خطاب رب العزة جل جلاله مع كونه أخص من مطلق الكلام وأعز منه مراما. وجوز أن يكون ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ إلى الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ والكلام مقرر لمضمون قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ إلخ أيضا لكن على معنى أن الروح والملائكة مع كونهم أفضل الخلائق وأقربهم من الله تعالى إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما هو صواب من الشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم وذكر بعض أهل السنة فتعقب بأنه مبني على مذهب الاعتزال من كون الملائكة عليهم السلام أفضل من البشر مطلقا. وأنت تعلم أن من أهل السنة أيضا من ذهب إلى هذا كأبي عبد الله الحليمي والقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام الرازي. ونسب إلى القاضي البيضاوي وكلامه في التفسير هنا لا يخلو عن إغلاق وتصدي من تصدى لتوجيهه وأطالوا في ذلك على أن الخلاف في أفضليتهم بمعنى كثرة الثواب وما يترتب عليها من كونهم أكرم على الله تعالى وأحبهم إليه سبحانه لا بمعنى قرب المنزلة ودخول حظائر القدس ورفع ستارة الملكوت بالاطلاع على ما غاب عنا. والمناسبة في النزاهة وقلة الوسائط ونحو ذلك فإنهم بهذا الاعتبار أفضل بلا خلاف وكلام ذلك البعض يحتمل أن يكون مبنيا عليه وهذا كما نشاهده من حال خدام الملك وخاصة حرمه فإنهم أقرب إليه من وزرائه والخارجين من أقربائه وليسوا عنده بمرتبة واحدة وإن زادا في التبسط والدلال عليه. وعن ابن عباس أن ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ للناس وجوز أن يكون إِلَّا مَنْ أَذِنَ إلخ منصوبا على أصل الاستثناء والمعنى لا يتكلمون إلّا في حق شخص أذن له الرحمن. وقال ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي حقا هو التوحيد وقول لا إله إلا الله كما روي عن ابن عباس وعكرمة وعليه قيل:
يجوز أن يكون قالَ صَواباً في موضع الحال ممن بتقدير قد أو بدونه لا عطفا على أَذِنَ ومن الناس من جوز الحالية على الوجه الأول أيضا لكن من ضمير يَتَكَلَّمُونَ باعتبار كل واحد أو باعتبار المجموع وظن أن قول بعضهم المعنى لا يتكلمون بالصواب إلّا بإذنه لا يتم بدون ذلك وفيه ما فيه. وقيل: جملة لا يَتَكَلَّمُونَ حال من الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ أو من ضميرهم في صَفًّا والجمهور على ما تقدم وإظهار الرحمن في موقع الإضمار للإيذان بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة لا أن أحدا يستحقه عليه سبحانه وتعالى كما أن ذكره فيما تقدم بالإشارة إلى أن الرحمة مناط تربيته عز وجل.
ذلِكَ إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو درجته وبعد منزلته في الهول والفخامة ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى الْيَوْمُ الموصوف بقوله سبحانه الْحَقُّ أو هو الخير واليوم بدل أو عطف بيان والمراد بالحق الثابت المتحقق أي ذلك اليوم الثابت الكائن لا محالة والجملة مؤكدة لما قبل ولذا لم تعطف والفاء في قوله عز وجل فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً فصيحة تفصح عن شرط محذوف، ومفعول المشيئة محذوف دل عليه الجزاء وإِلى رَبِّهِ متعلق بما تقدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق الأمر المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم فعل ذلك بالإيمان والطاعة وقال قتادة فيما رواه عنه عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر مَآباً أي سبيلا وتعلق الجار به لما فيه من معنى الإفضاء والإيصال والأول أظهر. وتقدير المضاف أعني الثواب قيل لاستحالة الرجوع إلى ذاته عز وجل وقيل لأن رجوع كل أحد إلى ربه سبحانه ليس بمشيئته إذ لا بد منه شاء أم لا، والمعلق بالمشيئة الرجوع إلى ثوابه تعالى فإن العبد مختار في الإيمان والطاعة ولا ثواب بدونهما وقيل لتقدم قوله تعالى لِلطَّاغِينَ مَآباً فإن
لهم مرجعا لله تعالى أيضا لكن للعقاب لا للثواب ولكل وجهة
إنَّا أَنْذَرْناكُمْ: أي بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث بما فيه وما بعده من الدواهي أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن العظيم
عذاباً قَرِيباً: هو عذاب الآخرة وقربه لتحقق إتيانه فقد قيل ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت أو لأنه قريب بالنسبة إليه عز وجل، أو يقال: البرزخ داخل في الآخرة ومبدؤه الموت وهو قريب حقيقة كما لا يخفى على من عرف القرب والبعد. وعن قتادة هو عقوبة الذنب لأنه أقرب العذابين. وعن مقاتل هو قتل قريش يوم بدر وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى "يوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ " فإن الظاهر أنه ظرف لمضمر هو صفة عذاباً أي عذابا كائنا يوم إلخ. وليس ذلك اليوم إلّا يوم القيامة وكذا على ما قيل من أنه بدل من عذاباً أو ظرف لـ قرِيباً
وعلى هذا الأخير قيل لا حاجة إلى توجيه القرب لأن العذاب في ذلك اليوم قريب لا فاصل بينه وبين المرء، ونظر فيه بأن الظاهر جعل المنذر به قريبا في وقت الإنذار لأنه المناسب للتهديد والوعيد إذ لا فائدة في ذكر قربه منهم يوم القيامة فإذا تعلق به فالمراد بيان قرب اليوم نفسه فتأمل.
والظاهر أنْ المَرْءُ عام للمؤمن والكافر
و"ما" موصولة منصوبة بـ ينْظُرُ
والعائد محذوف والمراد يوم يشاهد المكلف المؤمن والكافر ما قدمه من خير أو شر وجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بـ قدَّمَتْ أي ينظر أي شيء قدمت يداه والجملة معلق عنها لأن النظر طريق العلم والكلام في قوله ينْظُرُ جواب ما قدمت يداه وفي الكلام على ما ذكره العلامة التفتازاني تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه حيث ذكر اليدان لأن أكثر الأعمال تزاول بهما فجعل الجميع كالواقع بهما تغليبا. وقرأ ابن أبي إسحاق «المرء» بضم الميم وضعفها أبو حاتم ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة بعض العرب يتبعون حركة الهمزة فيقولون مرء ومرأ ومرء على حسب الإعراب ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
تخصيص لأحد الفريقين اللذين تناولهما المرء فيما قبل منه بالذكر وخص قول الكافر دون المؤمن لدلالة قوله على غاية الخيبة ونهاية التحسر ودلالة حذف قول المؤمنين على غاية التبجح ونهاية الفرح والسرور. وقال عطاء "الْمَرْءُ" هنا الكافر لقوله تعالى: إ نَّا أَنْذَرْناكُمْ
وكان الظاهر عليه الضمير فيما بعد إلّا أنه وضع الظاهر موضعه لزيادة الذم. وفيه أن تناول الفريقين هو المطابق لما سبق من صف يوم مفصل لما اشتمل على حالهما وهم الوجه لقوله تعالى فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً و"إنَّا أَنْذَرْناكُمْ "
لا يخص الكافر لأن الإنذار عام للفريقين أيضا فلا دلالة على الاختصاص. وقال ابن عباس وقتادة والحسن: المراد به المؤمن، قال الإمام دل عليه قول الكافر فيما كان هذا بيانا لحال الكافر وجب أن يكون الأول بيانا لحال المؤمن، ولا يخفى ما فيه من الضعف كاستدلال الرياشي بالآية على أن المرء لا يطلق إلّا على المؤمن وأراد الكافر بقوله هذا يا ليْتَنِي كُنْتُ تُراباً
في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث. وعن ابن عمر وأبي هريرة ومجاهد أن الله تعالى يحضر البهائم فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول سبحانه لها كوني ترابا فيعود جميعها ترابا فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله. وإلى حشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض ذهب الجمهور وسيأتي الكلام في ذلك في سورة التكوير إن شاء الله تعالى. وقيل: الكافر في الآية إبليس عليه اللعنة لما شاهد آدم عليه الصلاة والسلام ونسله المؤمنين وما لهم من الثواب تمنى أن يكون ترابا لأنه احتقره لما قال "خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [الأعراف: ١٢، ص: ٧٦] وهو بعيد عن السياق وإن كان حسنا. والتراب على جميع ما ذكر بمعناه المعروف والكلام على ظاهره وحقيقته وجوز لا سيما على الأخير أن يكون المراد بقول ليتني كنت في الدنيا متواضعا لطاعة الله تعالى لا جبارا ولا متكبرا والمعول عليه ما تقدم كما لا يخفى