
أي فإن كان لكم أيها المكذبون الضالون حيلة تحتالون بها، أو كيد تكيدون به، لتخرجوا من هذا البلاء- فهاتوه!! فالأمر هنا، أمر تعجيز، حيث يواجه المأمور بما هو محال.
فادفع بكفك إن أردت فخازنا | ثهلان ذو الهضبات هل يتحلحل؟ |
الآيات: (٤١- ٥٠) [سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤١ الى ٥٠]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ» هذا عرض لحال أهل الإيمان والتقوى، يوم القيامة، حيث يدعون إلى الجنة، وما فيها من ظلال وعيون، وفواكه مما تشتهى الأنفس، وتلذا الأعين وقد دعى أهل الضلال من قبل إلى جهنم، وإلى ظلها ذى الثلاث شعب! وقوله تعالى:
«كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» صفحة رقم 1406

هو دعوة لأهل الجنة إلى هذه الموائد الممدودة لهم وما عليها من نعيم الجنة وثمارها.. فليأكلوا ما طاب لهم، وليهنئوا بما أكلوا وما شربوا، فهذا جزاء ما كانوا يعملون.. إنه الجزاء الذي أعده الله لأهل الإحسان من عباده.
وفى هذا العرض للمتقين، وفى هذه الدعوة التي تستحثهم على الطعام والشراب- كبت للمكذبين الضالين، وإثارة للحسد الذي يأكل قلوبهم، إن كان ثمّة بقية لم تأكلها نار جهنم..
قوله تعالى:
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ.. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ».
هو مواجهة للمكذبين الضالين، وهم فى أماكنهم من دنياهم، وما هم فيه منها من لهو ولعب، إنه ليس لهم إلا الويل، والبلاء.. فليأكلوا، وليتمتعوا فى دنياهم بما شاءوا.. إنهم مجرمون، يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، ثم تساق إلى الذبح.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (١٢: محمد) فمن كانت النار تنتظره، كيف يهنؤه طعام، أو يسوغ له شراب؟
وفى قوله تعالى: «قَلِيلًا» إشارة إلى أن هذا المتاع الذي ينا المشركون فى الدنيا.. هو- مهما كثر- متاع قليل، لا يلبث أن يزول معبا وراءه يلاء طويلا، وعذابا دائما. وقوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» هو تعليل لهذا الوعد من قوله تعالى: «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا».. وهذا مثل قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» (٧٥: مريم) قوله تعالى:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» هو معطوف على قوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» ومن إجرامهم أنهم

كانوا «إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا» أي استجيبوا لله وأسلموا له «لا يَرْكَعُونَ» أي لا يسمعون، ولا يستجيبون، عنادا، واستكبارا، وضلالا.. فالويل والبلاء يومئذ للمكذبين.. وهؤلاء فريق منهم.
وفى العدول عن الخطاب إلى الغيبة، استدعاء لغيرهم أن يشهد موقفهم هذا الآثم، وأن ينكره عليهم، ويتلقى منهم عبرة وموعظة، فلا يقع تحت طائلة هذا التهديد الذي هدّدوا به..
قوله تعالى:
«فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» إنكار لموقف هؤلاء المشركين من دعوة الحق التي دعوا إليها، والتي حملها إليهم القرآن الكريم، الذي يتلوه عليهم رسول كريم.. وأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، ولم ينكشف لهم على ضوئه طريق الهدى والإيمان، فبأى حديث إذن بعد هذا الحديث يؤمنون؟ وبأى نور بعد نوره يبصرون؟ إنهم إذا لم يهتدوا بهذا القرآن فلن يهتدوا أبدا، ولن يجدوا إلى نور الحق سبيلا..
هذا، وقد تكرر فى السورة الكريمة قوله تعالى: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» - عشر مرات، وكلها تدعّ المكذبين الضالين دعّا، وتلقاهم على رأس كل مرحلة من مراحل مسيرتهم إلى جهنم، بالويل والثبور، وترجمهم باللعنات، تصبها على رءوسهم صبّا..
وأكثر من هذا، فإنهم وهم يساقون إلى جهنم، وإذا يلقون فى جحيمها، ويستظلون بظلها ذى الثلاث شعب- يجيئهم حديث عن أهل الجنة، وما يلقون فيها من نعيم، فإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب الجنة، ردّوا عنها بهذه الصاعقة يرمى بها فى وجوههم: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» انهم ليس لهم إلا الويل، يأتيهم من كل لسان، وفى كل مقام.
تم الجزء التاسع والعشرون، ويليه الجزء الثلاثون.. إن شاء الله

[الجزء السادس عشر]
(٧٨) سورة النبأنزولها. مكية، نزلت بعد سورة المعارج عدد آياتها: أربعون آية.
عدد كلماتها: مائة وثلاث وسبعون كلمة.
عدد حروفها: ثمانمائة وستة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها كانت سورة «المرسلات» قبل هذه السورة- حديثا متصلا عن المشركين، وكانت نهاية هذا الحديث معهم أن القى بهم فى جهنم، وأخذ كل منهم مكانه فيها.. ثم أعيدوا إلى مكانهم من هذه الحياة الدنيا، حيث يأكلون ويتمتعون، كما تأكل الأنعام، دون أن يكون لهم من تلك الرحلة المشئومة بهم إلى جهنم، وما رأوا من أهوالها- ما يغير شيئا مما فى أنفسهم من ضلال وعناد، فما زالوا على موقفهم من آيات الله التي تتلى عليهم، وما زالوا فى تكذيب لرسول الله، وفى عجب واستنكار، حتى ليتساءل الوجود كله: إذن فبأى حديث بعد هذا الحديث يؤمن هؤلاء الضالون المكذبون؟
وتجىء سورة «النبأ» بعد هذا التساؤل الاستنكارى لنمسك بهم وهم فى حديث عن هذا الحديث، وفى بلبلة واضطراب من أمره، وفى تنازع واختلاف فيه، لا يجدون- حتى فى أودية الزور والبهتان- الكلمة التي يقولونها فيه، والتهمة التي يلصقونها به.. إن أية قولة زور يزينها لهم الشيطان ليلقوا بها فى وجه القرآن، لتسقط على رءوسهم، كما يسقط الحصى برمى به فى وجه الشمس، ليخفى ضوءها، أو يعطل مسيرتها.. صفحة رقم 1411