ولما فهم من التعبير ب «في» أنهم متمكنون من هذا جميعه تمكن المظروف من ظرفه، قال منبهاً على أنه أريد بالفاكهة جميع المآكل، وإنما عبر بها إعلاماً بأن كل أكل فيها تفكه ليس منه شيء لجلب نفع غير اللذة ولا دفع ضر: ﴿كلوا﴾ أي مقولاً لهم: تناولوا جميع المآكل على وجه التكفه والتلذذ لا لحفظ الصحة فإنها حاصلة بدونه ﴿واشربوا﴾ أي من جميع المشارب كذلك فإن عيونها ليست من الماء خاصة بل من كل شراب أكلاً وشرباً ﴿هنيئاً﴾ ليس في شيء من ذلك توقع ضر، وزاد في نعيمهم بأن جعل ذلك عوضاً فقال: ﴿بما كنتم﴾ أي بجبلاتكم التي جبلتكم عليها ﴿تعملون *﴾ أي في الدنيا من الأعمال الصالحة المبنية على أساس العلم الذي أفاد التصديق بالجنة فأوجب دخولها كما أوجب
صفحة رقم 183
تكذيب المجرمين بالنار دخولهم إياها وعذابهم بها، وتكذيبهم بالجنة طردهم عنها وحرمانهم لنعيمها جزاء وفاقاً.
ولما كان ربما توهم متوهم أن هذا لناس معينين في زمن مخصوص - قال معلماً بالتعميم مؤكداً رداً على من ينكر: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الجزاء العظيم ﴿نجزي المحسنين *﴾ أي كل من كان عريقاً في وصف الإحسان لسنا كملوك الدنيا، يعوقهم عن الإحسان إلى بعض المحسنين عندهم بما يرونه جزاء لهم بعضُ أهل مملكتهم لما لهم من الأهوية ولملوكهم من الضعف.
ولما كان هذا النعيم عذاباً عظيماً على من لا يناله قال: ﴿ويل يومئذ﴾ أي إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين ﴿للمكذبين *﴾ أي الذين يكذبون بأن الجبال تنسف فتكون الأرض كلها سهلة دمثة مستوية لا عوج فيها أصلاً صالح للعيون والاشجار والتبسط في أرجائها كيفما يريد صاحبها ويختار.
ولما ذكر نعيم أهل الجنة الذي لا ينقضي لأن لهم غاية المكنة فيه، وكان ذلك آجلاً، وكان المكذبون في اتساع في الدنيا، وتقدم قوله
تعالى ﴿إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع﴾ [الطور: ٧] وكان الشقاء متى وقع بعد نعيم نسخه وعد النعيم - ولو كان كثيراً طويلاً - قليلاً، قال نتيجة لجواب القسم ضد ما يقال للمتقين تسلية لهم وتحزيناً للمكذبين بناء على ما تقديره: إن المكذبين في هذه الدنيا في استدراج وغرور، ويقول لهم لسان الحال المعرب عن أحوالهم في المآل توبيخاً وتهديداً: ﴿كلوا﴾ أي أيها المكذبون في هذه الدنيا ﴿وتمتعوا﴾ أي كذلك بمثل الجيفة، فإن المتاع من أسمائها كما مر غير مرة عن أهل اللغة ﴿قليلاً﴾ أي وإن امتد زمنه فإنه زائل مع قصر مدته في مدة الآخرة، ولا يؤثر ذلك على الباقي النفيس إلا خسيس الهمة، قال الرازي، وقال بعضهم: التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
ولما أحلهم هذا المحل الخبيث، وكان التقدير: فإنه لا بد من وقوع العذاب بكم يوم الفصل، علل ذلك بقوله مؤكداً لأنهم ينكرون وصفهم بذلك: ﴿إنكم مجرمون *﴾ أي عريقون في قطع كل ما أراد الله به أن
يوصل، فلا جائز أن تعاملوا معاملة المحسنين، فلذلك كانت نتيجة هذا ﴿ويل يومئذ﴾ أي إذ تعذبون بأجرامكم ﴿للمكذبين *﴾ أي بوصول الرسل إلى وقتها المعلوم الذي كانت تتوعد به المجرمين في الدنيا حيث كذبوهم لأجل تمتعهم هذا القليل الكدر، وعرضوا أنفسهم للعذاب الدائم المستمر.
ولما كان التقدير: فإنهم كانوا في دار العمل إذا قيل لهم آمنوا لا يؤمنوا، عطف عليه قوله: ﴿وإذا قيل لهم﴾ أي لهؤلاء المجرمين من أي قائل كان ﴿اركعوا﴾ أي صلوا الصلاة التي فيها الركوع، وأطلقه عليها تسمية لها باسم جزء منها، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة، ولأنه خاص بصلاة المسلمين، ولأن بعض العرب نفر عن الدين من أجله، وقال: لا أجبي لأن فيه - زعم - إبرازاً للاست فيكون ذلك مسبة، وكذلك السجود، قال في القاموس: جبى تجبئة: وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه، والتجبئة أن تقوم قيام الركوع ﴿لا يركعون *﴾ أي لا يخضعون ولا يوجدون الصلاة فلذلك كان وعيدهم، وفيه دلالة على أن الأمر للوجوب ليستحق تاركه العذاب وعلى أن الكفار مخاطبون بالفروع ﴿ويل يومئذ﴾
أي إذ يكون الفصل ﴿للمكذبين *﴾ أي بذلك الذي تقدم في هذه السورة أو بشيء منه أو بغيره مما جاءت به الرسل، وقد كررت هذه الجملة بعدد أجزاء طرف القسم أو أجزاء الجواب لتكون كل جملة منها وعيداً على التكذيب بواحد من تلك الأجزاء، وتكون هذه الجملة العاشرة مؤكدة لتلك التسع، وتكملة لعدها ومعناها، ومعلمة بأن الويل لهم دائماً من غير انقضاء كما أن الواحد لا انقضاء له.
ولما أعلم هذا أن لهم الويل دائماً، ذكر أن سببه عدم الإيمان بالقرآن وأن من لم يؤمن بالقرآن لم يؤمن بشيء أبداً، فقال مسبباً عن معنى الكلام: ﴿فبأيّ حديث﴾ أي ذكر يتجدد نزوله على المرسل به في كل وقت تدعو إليه حاجة ﴿بعده﴾ أي بعد هذا القرآن الذي هو شاهد لنفسه عنه بصحة النسبة إلى الله تعالى من جهة ما حاز من البلاغة في تراكيبه بالنسبة إلى كل جملة وبالنسبة إلى نظم الجمل بعضها مع بعض، وبالإخبار بالمغيبات والحمل على المعالي والتنبيه على الحكم وغير ذلك من بحور العلم ورياض الفنون، فالله باعتبار ذلك هو الشاهد بأنه كلامه ﴿يؤمنون *﴾ أي يجددون الإيمان بسببه بكل ما أتى به
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي الله شاهد بأنه كلامه بما اشتمل عليه بعد إعجازه من الدلائل الواضحة، والمعاني الشريفة الصالحة، والنظوم الملائمة للطبع والرقائق المرققة لكل قلب، والبشائر المشوقة لكل سمع، فمن لم يؤمن به لم يؤمن بحديث غيره، فإنه لا شيء يقاربه ولا يدانيه، فكيف بأن يدعي شيء يباريه أو يراقيه، ومثل هذا إنما يقال عند مقاربة اليأس من الموعوظ والعادة قاضية بحلول العذاب إذ ذاك وإنزال البأس، فهو من أعظم أنواع التهديد، فقد رجع آخرها على أولها في وعيد المكذبين، وانطبق أولها على آخرها في إخزاء المجرمين - والله الهادي للصواب.
صفحة رقم 188مقصودها الدلالة على أن يوم القيامة الذي كانوا مجمعين على نفيه، وصاروا بعد بعث النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في خلاف فيه مع المؤمنين ثابت ثباتاً لا يحتمل شكاً ولا خلافاً بوجه، لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير، بنى لهم مسكناً وأتقنه، وجعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه، فكان ذلك أشد لإلفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض، وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم، والحكيم لا يترك عبيده وهو تام القدرة كامل السلطان يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب، فكيف إذا كان حاكماً فكيف إذا كان أحكم الحاكمين، هذا ما لا يجوز في عقل ولا خطر ببال أصلاً، فالعلم واقع به قطعاً، وكل من اسميها واضح في ذلك بتأمل آيته ومبدأ ذكره وغايته) بسم الله (الحكيم العليم
صفحة رقم 189الذي له جميع صفات الكمال) الرحمن (الذي ساوى بين عباده في أصول النعم الظاهرة: الإيجاد والجاه والمال، وبيان الطريق الأقوام بالعقل الهادي والإنزال والإرسال) الرحيم (الذي خص من شاء بإتمام تلك النعم فوفقهم لمحاسن الأعمال لما أخبر في المرسلات بتكذيبهم بيوم الفصل وحكم على أن لهم بذلك الويل المضاعف المكرر، وختمها بأنهم إن كفروا بهذا القرآن لم يؤمنوا بعده بشيء، افتتح هذه بأن ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان، فقال معجباً منهم غاية العجب زاجراً لهم ومنكراً عليهم ومتوعداً لهم ومفخماً للأمر بصيغة الاستفهام منبهاً على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم، ولا يعرف محل نزاعهم، فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتىالعالم به إعلاماً بأن ما يختلفون فيه لوضوحه لا يصدق أن عاقلاً يخالف أمره فيه وأنه لا ينبغي التساؤل إلا عما هو خفي فقال:
صفحة رقم 190