أما ما يتعلق بحقوق الله تعالى فلا حاجة فيه للفصل، وإنما يلقى العبد الثواب الذي يستحقه على عمله الصالح، والعقاب الذي يجازى به على عمله السيء، إلا أنه فيما يتعلق بجانب العبد، فإنه تقرر عليه أعماله التي عملها، حتى يعترف «١».
الأنواع الباقية من تهديد الكفار وتعذيبهم
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤١ الى ٥٠]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
الإعراب:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً في موضع الحال من ضمير الْمُتَّقِينَ، المقدر في الظرف الآتي بعده، أي هم مستقرون في ظلال، مقولا لهم ذلك. وهَنِيئاً حال أي متهنئين.
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا حال من المكذبين، أي الويل ثابت لهم، في حال ما يقال لهم: كلوا وتمتعوا.
البلاغة:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقابلة، قابل الجملة الأخيرة بقوله بعدئذ: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ مجاز مرسل، أطلق الركوع، وأراد به الصلاة، فهو من قبيل إطلاق البعض وإرادة الكل.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ سجع مرصع، وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ أي إن المؤمنين المتقين من الشرك، الذين هم في مقابلة المكذبين، هم في ظلال وارفة تحت أشجار متكاثفة في الجنة إذ لا شمس يظل من حرها، وعيون- أي أنهار- نابعة بالماء، ويتمتعون بفواكه مما يشتهون، فهم مستقرون في أنواع الترفّه. وفيه دلالة على أن نعم الجنة بحسب الرغبة والميل، بخلاف الدنيا تكون بحسب ما يجد الناس في الأغلب. والفرق بين الظل والفيء: أن الظل أعم من الفيء، فيقال: ظل الليل وظل الجنة وظل الجدار، أما الفيء: فهو ما زالت عنه الشمس.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي متهنئين، أي يقال لهم ذلك. بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الطاعة. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما جزينا المتقين نجزي المحسنين. كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي يقال للكفار في الدنيا تهديدا لهم: كلوا ما شئتم في الدنيا، وتمتعوا بنعيمها مدة قليلة من الزمان يعقبها الموت، ثم تنالون عقابكم وننتقم منكم على كفركم وتكذيبكم لرسلنا، فإنكم مشركون بالله، لا تستحقون الإنعام والتكريم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.
ارْكَعُوا صلوا. لا يَرْكَعُونَ لا يصلون، واستدل به على أن الأمر للإيجاب، وأن الكفار مخاطبون بالفروع. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي بأي كلام يصدقون إذا لم يصدقوا بهذا القرآن؟ فهو معجز في ذاته، مشتمل على الحجج الواضحة والمعاني الكريمة، ولا يمكن إيمانهم بعدئذ بغيره من كتب الله، بعد تكذيبهم به.
سبب النزول: نزول الآية (٤٨) :
ارْكَعُوا..:
أخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: ارْكَعُوا، لا يَرْكَعُونَ قال: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة، فنزل ذلك فيهم. وقال مقاتل: قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أسلموا» وأمرهم بالصلاة، فقالوا:
لا ننحني فإنها مسبّة علينا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود».
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار، قابل ذلك للعظة والعبرة بأحوال المؤمنين في الآخرة، وبيّن ما لهم من أنواع السعادة والكرامة، فتتضاعف حسرة الكافر، وتتزايد غمومه وهمومه، وهذا من جنس العذاب الروحاني.
ثم وبّخ الله تعالى الكفار وهددهم بزوال نعم الدنيا في وقت قصير، وتعرضهم للآفات العظيمة في الآخرة، ثم ذكرهم بتقصيرهم في طاعة الله، وإهمالهم فريضة الصلاة، وتركهم الإيمان بالقرآن الذي لا جدوى من الإيمان بغيره من الكتب السماوية الأخرى التي بادت وتبدلت ونسخت.
والخلاصة: تضمنت هذه الآيات ثلاثة أنواع أخرى من تخويف الكفار وتعذيبهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات، وترك المحرمات، وعن أحوالهم يوم القيامة، فيقول:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يكون المتقون في الآخرة في جنات وظلال وارفة تحت الأشجار والقصور، وتحيط بهم العيون الجارية والأنهار المتدفقة، بخلاف ما يكون فيه الكفار الأشقياء من ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن، والنار المستعرة بهم.
ونظير الآية: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ، عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس ٣٦/ ٥٦].
وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي ولديهم أنواع من الفواكه والثمار، مما تطلبه
أنفسهم، وتستدعيه شهواتهم، فمهما طلبوا وجدوا.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ويقال لهم في الآخرة بدليل قوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على سبيل الإحسان إليهم والتكريم: كلوا أيها المتقون من طيبات الجنة وفواكهها، واشربوا متهنئين بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة. وهذا أمر إكرام، لا أمر تكليف، وهذا أيضا من جنس العذاب الروحاني بالنسبة إلى الكافرين حين يرون الذين اتقوا الشرك في النعيم المقيم.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل، ومثل ذلك الجزاء العظيم لهؤلاء المتقين نجزي المحسنين في أعمالهم، فلا نضيع لهم أجرا، كما قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف ١٨/ ٣٠].
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب وخزي يوم القيامة للمكذبين بالله ورسله وبما أخبر الله من تكريم هؤلاء المتقين في الآخرة، حيث صاروا في شقاء عظيم، وصار المؤمنون في نعيم مقيم. وهذا هو النوع الثامن من أنواع تهديد الكفار.
ثم خاطب الله تعالى المكذبين بيوم الدين، وأمرهم على سبيل التهديد والوعيد، فقال:
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي يقال لهم في الدنيا «١» : كلوا من مآكل الحياة ولذائذها، وتمتعوا بخيراتها زمانا قليلا، ومدة قصيرة تزول بانتهاء العمر، ثم تساقون إلى نار جهنم، فإنكم مشركون بالله. وهذا إن خوطبوا به في الآخرة توبيخ وتذكير بحالهم السمجة، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم، وعلل ذلك بكونهم مجرمين إيعادا لكل مجرم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب لأولئك المشركين المكذبين بأوامر الله تعالى ونواهيه، وبما أخبرهم به أنه فاعل بهم، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان ٣١/ ٢٤].
وهذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار، ثم ذكر بعده النوع العاشر، فقال: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ أي وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون، فهم مستكبرون عن طاعة الله تعالى. وهذا ذم على ترك الخشوع والتواضع لله بقبول وحيه وأمره وتكليفه.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأوامر الله سبحانه ونواهيه.
ثم ختم السورة بالتعجب من الكفار، فقال:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن وما فيه من الدلائل على وجود الله تعالى وتوحيده وصدق نبيه صلّى الله عليه وسلّم، فبأي كلام بعده يصدقون؟ فالقرآن فيه كل ما يرشد إلى الخير وسعادة الدارين.
روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة كان إذا قرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فقرأ:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ قال: فليقل: آمنت بالله وبما أنزل.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت هذه الآيات الأنواع الثلاثة الأخيرة من أنواع تخويف الكفار العشرة وتعذيبهم:
النوع الثامن- مضاعفة حسرة الكفار، وتزايد غمومهم وهمومهم، وهو من جنس العذاب الروحاني، فإنهم إذا وجدوا ما أعد الله للمتقين المؤمنين من أنواع السعادة والكرامة، تحسروا واغتموا، وكانت حالهم في غاية الذل والهوان والخزي.
لقد أخبر الله تعالى عما يصير إليه المتقون غدا من الاستمتاع والاستقرار بظلال الأشجار وظلال القصور، في مواجهة الشعب الثلاث لظل النار، والتمتع بالفواكه التي يطلبونها ويتمنونها، ويقال لهم غدا: كلوا واشربوا متهنئين، بدل ما يقال للمشركين: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ. وهذا هو الثواب الذي يثيب الله به الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأعمالهم في الدنيا والنوع التاسع- وعيد الكفار وتهديدهم إذ يقال لهم في الدنيا: كلوا وتمتعوا زمنا قليلا، فإنكم مجرمون مشركون بالله، ومجازون بسوء أعمالكم، فقد عرضتم أنفسكم للعذاب لأجل حب الدنيا، والرغبة في طيباتها وشهواتها القليلة الفانية بالنسبة لتلك الآفات العظيمة التي تلقونها يوم القيامة.
والنوع العاشر- توبيخهم وتقريعهم على جهلهم وكفرهم وتعريضهم أنفسهم للعقاب الشديد، وعدم انقيادهم لطاعة الله، وعدم أداء فريضة الصلاة، فإذا أمروا بها لم يؤدوها.
وقد كرر تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بعد كل نوع لتأكيد التخويف والوعيد.
ثم ختم الله السورة بعظة بليغة موجزة وهي أنه إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدال قطعا على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فبأي شيء يصدقون؟!! انتهى هذا الجزء ولله الحمد
[الجزء الثلاثون]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النّبأ، أو: عمّمكيّة، وهي أربعون آية.
تسميتها:
تسمى سورة عم وسورة النبأ لافتتاحها بقول الله تبارك وتعالى:
عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ وهو خبر القيامة والبعث الذي يهتم بشأنه، ويسأل الناس عن وقت حدوثه.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي المرسلات من وجوه ثلاثة:
١- تشابه السورتين في الكلام عن البعث وإثباته بالدليل، وبيان قدرة الله عليه، وتوبيخ الكفار المكذبين به، ففي المرسلات: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً وفي هذه قال: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً.. الآيات [٦- ١٦].
٢- اشتراك السورتين في وصف الجنة والنار، ونعيم المتقين وعذاب الكافرين، ووصف يوم القيامة وأهواله.
٣- فصّلت هذه السورة ما أجمل في السورة المتقدمة، فقال تعالى في المرسلات: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [١٢- ١٤] وقال سبحانه في هذه السورة: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [١٧] إلى آخر السورة. صفحة رقم 5
ما اشتملت عليه السورة:
إن محور السور إثبات البعث بالأدلة المختلفة، لذا ابتدأت السورة بوصف تساؤل المشركين عنه، والإخبار عن يوم القيامة، وما يتبعه من البعث والنشور والجزاء، وأعقبته بتهديد المشركين على إنكارهم إياه: عَمَّ يَتَساءَلُونَ..
[١- ٥].
ثم أقامت الأدلة والبراهين على إمكان البعث، بتعداد مظاهر قدرة الله على الخلق والإبداع وإيجاد مختلف عجائب الكون، مما يدل على إمكان إعادة الناس بعد الموت: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً.. [٦- ١٦].
ثم حددت السورة ميقات البعث وميعاده، وهو يوم الفصل بين الخلائق الذي يجمع فيه الأولون والآخرون: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً..
[١٧- ٢٠].
ثم وصفت ألوان عذاب الكافرين، وأنواع نعيم المتقين، بطريق المقابلة والموازنة، والجمع بين الترغيب والترهيب: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً.. [٢١- ٣٨].
وختمت السورة بالإخبار بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه، وبإنذار الكفار بالعذاب الأليم القريب الذي يتمنون من شدته أن يعود ترابا.
والسورة كلها يشيع فيها جو التهويل والتخويف، والتهديد والإنذار، حتى لكأن التالي لها يكاد يلمس الصور الرهيبة لأحداث القيامة، ويتملكه الذعر والخوف من شدائدها وأحوالها.