سمعت وفيما تقدم يوم الفصل ونحوه وكذا يقال فيما بعد. وجوز اعتبار الاتحاد والتأكيد أمر حسن لا ضير فيه أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ من نطفة قذرة مهينة وليس فيه دليل على نجاسة المني فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ هو الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي مقدار معلوم عند الله تعالى من الوقت قدره سبحانه للولادة تسعة أشهر أو أقل منها أو أكثر فَقَدَرْنا أي فقدرنا ذلك تقديرا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي فنعم المقدرون له نحن.
وجوز أن يكون المعنى فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن والأول أولى لقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه ونافع والكسائي «فقدّرنا» بالتشديد ولقوله تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: ١٩] ولقوله سبحانه إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فزاده تفخيما بأن جعلت الغاية مقصودة بنفسها، فقيل: فقدنا ذلك تقديرا أي تقديرا دالا على كمال القدرة وكمال الرحمة على أن حديث القدرة قد تم في قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ وقول الطيبي في ترجيح الثاني إثبات القدرة أولى لأن الكلام مع المنكرين لا وجه له إذ لا أحد ينكر هذه القدرة ولو سلم فقد قرروا بها بقوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ فتأمل. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بقدرتنا على ذلك أو الإعادة أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً الكفات اسم جنس أو اسم آلة لما يكفت أي يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع، وأنشدوا قول الصمصامة بن الطرماح:
فأنت اليوم فوق الأرض حي | وأنت غدا تضمك في كفات |
وقيل: جمع كافت كصيام وصائم فلا يحتاج إلى تقدير أيضا، أو جمع كفت بكسر الكاف وسكون الفاء وهو الوعاء كقدح وقداح وأجرى على الأرض مع جمعه وإفرادها باعتبار أقطارها. وجوز انتصاب الجمعين على الحالية من مفعول كِفاتاً المحذوف والتقدير كفاتا إياهم أو إياكم أو كفاتا الأنس أَحْياءً وَأَمْواتاً أو من مفعول حذف مع فعله أي كِفاتاً تكفتهم أو تكفتكم أو تكفت الإنس أَحْياءً وَأَمْواتاً وأن يكون انتصابهما على المفعولية لنجعل بتقدير مضاف أي ذات أحياء وأموات أو على أن المراد بأمواتا الأرض الموات على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد، وبأحياء ما يقابلها. وانتصاب كِفاتاً على الحالية من الأرض وأنت تعلم أن انتصابهما على المفعولية أظهر وبعده انتصابهما على الحالية من محذوف وتنوينهما على ما سمعت أولا للتكثير وجوز أن يكون للتبعيض بإرادة أحياء الإنس وأمواتهم وهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات ولا ينافي ذلك التفخيم نظرا إلى أنه بعض غير محصور كثير في نفسه فلا تغفل. واستدل الكيا بالآية على وجوب مواراة الميت ودفنه. وقال ابن عبد البر: احتج ابن القاسم بها على قطع النباش لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ فيكون حرزا ولا يخفى ضعف الاستدلالين. صفحة رقم 193
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت شامِخاتٍ مرتفعات، ومنه شمخ بأنفه. ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد ك أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: ١٩٧] وتنكيرها للتفخيم أو للإشعار بأن في الأرض جبالا لم تعرف ولم يوقف عليها، فأرض الله تعالى واسعة وفيها ما لم يعلمه إلّا الله عز وجل.
وقيل للإشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهو الجبال السماوية وهو مما يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر وظنوا وجودها في غيره وتعقب بأنه تفسير بما لم يعرف وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عذبا وذلك بأن خلقناه في أصولها وأجريناه لكم منها في أنهار وأنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها وقد يفسر بما هو أعم من ذلك والماء المنزل من السماء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه النعم العظيمة انْطَلِقُوا أي يقال لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا من العذاب انْطَلِقُوا أي خصوصا فليس تكرارا للأول وقيل هو تكرار له وإن قيد بقوله تعالى إِلى ظِلٍّ هو ظل دخان جهنم كما قاله جمهور المفسرين فهو كقوله تعالى وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة: ٤٣] وفيه استعارة تهكمية، وقرأ رويس عن يعقوب «انطلقوا» بصيغة الماضي وهو استئناف بياني كأنه قيل فما كان بعد الأمر فقيل انطلقوا إلى ظل ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ متشعب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق تفرق الذوائب. وفي بعض الآثار يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش. وخصوصية الثلاث قيل إما لأن حجاب النفس عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم أو لأن المؤدي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية الحالّة في الدماغ والقوة الغضبية السبعية التي عن يمين القلب والقوة الشهوية البهيمية التي عن يساره، ولذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره. وقيل لأن تكذيبهم بالعذاب يتضمن تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلّى الله عليه وسلم فهناك ثلاثة تكذيبات. واعتبر بعضهم التكذيب بالعذاب أصلا والشعب الثلاث التكذيبان المذكوران وتكذيب العقل الصريح فتأمل. وعن ابن عباس يقال ذلك لعبدة الصليب فالمؤمنون في ظل الله عز وجل وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب لا ظَلِيلٍ أي لا مظلل وهو صفة ثانية لظل ونفى كونه مظللا عنه والظل لا يكون إلّا مظللا للدلالة على أن جعله ظلا تهكم بهم ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم فنفى هذا الاحتمال بذلك وفيه تعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وغير مفيد في وقت من الأوقات من حر اللهب شيئا وعدّي يغني بمن لتضمنه معنى يبعد واشتهر أن هذه الآية تشير إلى قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له فانظر هل تتعقل ذلك إِنَّها أي النار الدال عليها الكلام وقيل الضمر للشعب تَرْمِي بِشَرَرٍ هو ما تطاير من النار سمّي بذلك لاعتقاد الشر فيه وهو اسم جنس جمعي واحده شررة كَالْقَصْرِ كالدار الكبيرة المشيدة والمراد كل شررة كذلك في العظم ويدل على إرادة ذلك ما بعد ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مقسم «بشرار» بكسر الشين وألف بين الراءين فإن الظاهر أنه جمع شررة كرقبة
ورقاب فيدل على أن المشبه بالقصر الواحدة وكذا قراءة عيسى «بشرار» بفتح الشين وألف بين الراءين أيضا فقد قيل إنه جمع لشرارة لا مفرد وجوز على قراءة الكسر أن يكون جمع شر غير أفعل التفضيل كخيار جمع خير وهو حينئذ صفة أقيمت مقام موصوفها أي ترمي بقوم شرار وهو خلاف الظاهر. وقيل القصر الغليظ من الشجر واحده قصرة نحو جمرة وجمر. وقيل قطع من الخشب قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء واحده كذلك فالتشبيه من تشبيه الجمع بالجمع من غير احتياج للتأويل بما مر إلّا أن التهويل على القول الأخير دونه على غيره. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير والحسن وابن مقسم «كالقصر» بفتح القاف والصاد وهي أصول النخل وقيل أعناقها واحدها قصرة كشجرة وشجر وفي كتاب النبات الحبة لها قشرتان التحتية تسمى قشرة والفوقية تسمى قصرة ومنه قوله تعالى كَالْقَصْرِ وهو غريب. وقرأ ابن مسعود «كالقصر» بضمتين جمع قصر كرهن ورهن وفي البحر كأنه مقصور من القصور كالنجم من النجوم وهو مخالف للظاهر لأن مثله ضرورة أو شاذ نادر. وقرأ ابن جبير والحسن أيضا «كالقصر» بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة بفتحتين كحلقة من الحديد وحلق وحاجة
وحوج وبعض القراء «كالقصر» بفتح القاف وكسر الصاد وهو بمعنى القصر في قراءة الجمهور كَأَنَّهُ أي الشرر جِمالَتٌ بكسر الجيم كما قرأ به حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي وهارون عنه وهو جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع كما في البحر يقال جمل وجمال وجمالة أو اسم جمع له كما قيل في حجر وحجارة والتنوين للتكثير صُفْرٌ فإن الشرار لما فيه من النارية والهوائية يكون أصفر فالصفرة على معناها المعروف. وقيل سود والتعبير بصفر لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة شبه الشرر حين ينفصل من النار في عظمه بالقصر وحين يأخذ فقيل الارتفاع والانبساط لانشقاقه عن أعداد غير محصورة بالجمال لتصور الانشقاق والكثرة والصفرة والحركة المخصوصة. وقد روعي الترتيب في التشبيه رعاية لترتيب الوجود وأفيد أن القصور والجمال يشبه بعضها ببعض ومنه قوله:
فوقفت فيها ناقتي وكأنها | فدن (١) لأقضي حاجة المتلوم |
الموقدي نار القرى الآصال | والإسحار بالإهضام والإشعاف |
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى | ترمي بكل شرارة كطراف |
على ما سمعت. وقرأ ابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم كذلك إلا أنهم ضموا الجيم على أنه جمع جمالة على ما في الكشاف وقال في البحر هي حبال السفن الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات ثم جمع على جمل وجمال ثم جمع جمال ثانيا جمع صحة فقالوا جمالات. وقيل هي قلوس الجسور أي حبالها التي تشد بها وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير قالا إنها إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام. وعن ابن عباس أيضا هي قطع النحاس الكبار والظاهر أن التشبيه على هذا باعتبار اللون وعلى ما سبق باعتبار الامتداد والالتفاف وقرأ ابن عباس أيضا والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ورويس «جمالة» كقراءة حفص ومن معه إلّا أنهم ضموا الجيم وهي عند الزمخشري اسم مفرد بمعنى القلس وجمع صُفْرٌ لإرادة الجنس وقرأ الحسن «صفر» بضم الفاء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ الإشارة إلى وقت دخولهم النار أي هذا يوم لا ينطقون فيه بشيء لعظم الدهشة وفرط الحيرة، ولا ينافي هذا ما ورد في موضع آخر من النطق لأن يوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون، وجوز أن يكون المراد هذا يوم لا ينطقون بشيء ينفعهم وجعل نطقهم لعدم النفع كلا نطق. وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن عليّ وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية «هذا يوم» بالفتح فقيل هو فتح إعراب على أن هذا إشارة إلى ما ذكر و «يوم» منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف وقع خبرا لهذا أي هذا الذي ذكر من الوعيد واقع في يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وقيل هو فتح بناء ويَوْمُ في محل رفع على الخبرية وبني لإضافته للجملة ولما حقه البناء وعن صاحب اللوامح قال عيسى بناء «يوم» على الفتح مع لا لغة سفلى مضر لأنهم جعلوه معها كالاسم الواحد وأنت تعلم أن الجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه وأن ما ذكر مذهب كوفي وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ قيل في النطق مطلقا أو في الاعتذار. وقرأ زيد بن عليّ كما حكى عنه أبو علي الأهوازي بالبناء للفاعل أي «ولا يأذن- الله تعالى- لهم» فَيَعْتَذِرُونَ عطف على يُؤْذَنُ منتظم معه في سلك النفي والفاء للتعقيب بين النفيين في الأخبار في قول ولترتب النفي الثاني نفسه على الأول في آخر ونظر فيه ولم يقل فيعتذروا بالنصب في جواب النفي قيل ليفيد الكلام نفي الاعتذار مطلقا إذ لا عذر لهم ولا يعتذرون بخلاف ما لو نصب وجعل جوابا فإنه يدل على أن عدم اعتذارهم لعدم الإذن فيوهم ذلك أن لهم عذرا لكن لم يؤذن لهم فيه. وقال ابن عطية إنما لم ينصب في جواب النفي للمحافظة على رؤوس الآي والوجهان جائزان وظاهره استواء المعنى عليهما وهو مخالف لكلامهم لقولهم بالسببية في النصب دون الرفع نعم ذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أنه قد يرفع الفعل ويكون معناه على قلة معنى المنصوب بعد الفاء وأن النحويين إنما جعلوا معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب وجعل دليله على ذلك هذه الآية، ورد عليه ذلك ابن عصفور وغيره فتدبر. والظاهر أن نفي الاعتذار باعتبار بعض المواطن والمواقيت كنفي النطق وجوز أن يكون المنفي حقيقة الاعتذار النافع فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر: ٥٢] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين المحقّ والمبطل جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ أي من تقدمكم من الأمم والكلام تقرير وبيان للفصل لأنه لا يفصل بين المحق والمبطل إلّا إذا جمع بينهم فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ فإن جميع من كنتم تقلدونهم وتقتدون بهم حاضرون وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا وإظهار لعجزهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث ظهر أن لا حول لهم ولا حيلة في التخلص مما هم فيه إِنَّ الْمُتَّقِينَ من الكفر والتكذيب لوقوعه في مقابلة المكذبين بيوم الدين فيشمل عصاة المؤمنين فِي
صفحة رقم 196
ظِلالٍ
جمع ظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا
لما زال عنه الشمس ويعبر به أيضا عن الرفاهة وعن العزة والمناعة وعن هذا المعنى حمل الراغب ما في الآية والمتبادر منه ما هو المعروف، ويؤيده ما تقدم في المقابل انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ إلخ وقراءة الأعمش في «ظلل» جمع ظلة وأيّا ما كان فالمراد من قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أنهم مستقرون في فنون الترفه وأنواع التنعم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقدر بقول هو حال من ضمير الْمُتَّقِينَ في الخبر كأنه قيل مستقرون في ذلك مقولا لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من العمل الصالح بالإيمان وغير ذلك إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العظيم نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لا جزاء أدنى منه، والمراد بالمحسنين المتقون السابق ذكرهم إلّا أنه وضع الظاهر موضع الضمير مدحا لهم بصفة الإحسان أيضا مع الإشعار بعلة الحكم، وجوز أن يراد بالمتقين والمحسنين الصالحون من المؤمنين ولا دليل فيه للمعتزلة على خلود العصاة أهل الكبائر في النار وغاية الأمر عدم التعرض لحالهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث نال أعداؤهم هذا الثواب العظيم وهم بقوا في العذاب الأليم كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ حال من المكذبين على ما ذهب إليه غير واحد من الأجلة أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكيرا لما كان يقال لهم في الدنيا ولما كانوا أحقاء بأن يخاطبوا به حيث تركوا الحظ الكثير إلى النزر الحقير فيفيد التحسير والتخسير وعلى طريقته قوله:
إخوتي لا تبعدوا أبدا | وبلى والله قد بعدوا |
روي عن مقاتل أن الآية نزلت في ثقيف قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: حط عنا الصلاة فإنّا لا نجبى فإنها مسبة علينا، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» ورواه أيضا أبو داود والطبراني وغيرهما
. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال هذا يوم القيامة يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا. واتصال الآية على ما نقل عن الزمخشري بقوله تعالى لِلْمُكَذِّبِينَ كأنّه قيل ويل يومئذ للذين كذبوا والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، وجوز أن يكون أيضا بقوله سبحانه إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ على طريقة الالتفات كأنه قيل هم أحقاء بأن يقال لهم كُلُوا وَتَمَتَّعُوا ثم علل ذلك بكونهم مجرمين وبكونهم إذا قيل لهم صلّوا لا يصلّون واستدل به على أن الأمر للوجوب وإن الكفار مخاطبون بالفروع وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين صفحة رقم 197
على نمط بديع معجز مؤسس على حجج قاطعة وبراهين ساطعة يُؤْمِنُونَ إذ لم يؤمنوا به والتعبير ببعده دون غيره للتنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه فضلا أو يفوته ويعاليه فلا حديث أحق بالإيمان منه فالبعدية للتفاوت في الرتبة كما قالوا في عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: ١٣] وكان الفاء لما أن المعنى إذا كان الأمر كذلك وقد اشتمل القرآن على البيان الشافي والحق الواضح فما بالهم لا يبادرون الإيمان به قبل الفوت وحلول الويل وعدم الانتفاع بعسى ولعل وليت. وقرأ يعقوب وابن عامر في رواية «تؤمنون» على الخطاب هذا ولما أوجز في سورة الإنسان في ذكر أحوال الكفار في الآخرة وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها عكس الأمر في هذه السورة فوقع الاعتدال بذلك بين هذه السورتين والله تعالى أعلم.
تم والحمد لله تعالى الجزء التاسع والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثلاثين وأوله (سورة النبأ)