آيات من القرآن الكريم

إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا
ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ

٥- أعطى الله الأبرار ما يحقق الغرضين، فوقاهم ودفع عنهم شرور ومحاذير ومخاطر يوم القيامة وآمنهم من خوفهم، وأعطاهم وآتاهم حين لقوه نضرة أي حسنا، وسرورا، أي حبورا، فتحقق لهم الغرضان: الحفظ من هول القيامة، وطلب رضا الله تعالى.
قال الرازي: اعلم أن هذه الآية أحد ما يدل على أن شدائد الآخرة لا تصل إلا إلى أهل العذاب.
٦- كذلك جزاهم الله بصبرهم على طاعة الله وعلى معصية الله ومحارمه جنان الخلد يدخلونها، والحرير يلبسونه.
روى ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الصبر، فقال: «الصبر أربعة: أولها- الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب» «١».
هذا مع العلم بأن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها.
مساكن أهل الجنة وأشربتهم وخدمهم وألبستهم
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١٣ الى ٢٢]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧)
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)

(١) تفسير القرطبي: ١٩/ ١٣٦

صفحة رقم 293

الإعراب:
مُتَّكِئِينَ فِيها.. حال من الهاء والميم في جَزاهُمْ. وكذلك لا يَرَوْنَ في موضع نصب على الحال من ذلك الضمير، أو من ضمير مُتَّكِئِينَ.
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها منصوب بالعطف على قوله: جَنَّةً في آية: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وظِلالُها: فاعل دانِيَةً.
عَيْناً فِيها.. بدل من زَنْجَبِيلًا.
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ.. ثَمَّ: في موضع نصب إما لأنه ظرف مكان، ويكون مفعول رَأَيْتَ محذوفا، وإما لأنه مفعول رَأَيْتَ. وثَمَّ: مبني على الفتح لتضمنه لام التعريف لأنه معرفة، أو لتضمنه معنى الإشارة، والأصل في الإشارة أن يكون بالحرف، فكأنه تضمن معنى الحرف.
عالِيَهُمْ ثِيابُ.. عالِيَهُمْ بفتح الياء منصوب لكونه ظرفا بمعنى فوقهم، أو على الحال من الهاء والميم في وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ أي يعلوهم في هذه الحالة. وقرئ بالسكون فيكون مبتدأ، وثِيابُ: خبره، وعالي: لفظه لفظ الواحد، والمراد به الجمع، كالسامر في قوله تعالى: سامِراً تَهْجُرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٦٧]. ويصح كونه صفة وِلْدانٌ.
وثِيابُ سُندُسٍ: مرفوع ب عالِيَهُمْ سواء كان حالا أو وصفا. وخُضْرٌ إما بالجر صفة ل سُندُسٍ وإما بالرفع صفة ل ثِيابُ. وكذلك إِسْتَبْرَقٌ بالجر عطفا على سُندُسٍ، أو بالرفع عطفا على ثِيابُ. وإِسْتَبْرَقٌ في أصله: اسم أعجمي: وهو غليظ الديباج، وأصله إِسْتَبْرَقٌ فأبدلوا من الهاء قافا. وهو منصرف لأنه يحسن فيه دخول الألف واللام، وليس اسم علم كإبراهيم، ومن لم يصرفه فقد وهم.
البلاغة:
شَمْساً وزَمْهَرِيراً بينهما طباق.
إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً تشبيه رائع، أي كاللؤلؤ المنثور.
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً إيجاز بالحذف، أي يقال لهم: إن هذا.
وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً مجاز عن قبول الطاعة والثواب الكثير.
زَمْهَرِيراً، قَوارِيرَا، تَقْدِيراً، مَنْثُوراً، كَبِيراً، طَهُوراً، مَشْكُوراً سجع مرصع، أي مراعاة الفواصل.

صفحة رقم 294

المفردات اللغوية:
مُتَّكِئِينَ جالسين بتمكن وراحة، والغالب أن يكون الجلوس على جانب واحد، بالاعتماد على وسادة. الْأَرائِكِ السرر في الحجال، جمع أريكة: وهي السرير المجلل بالأستار أو الحجلة أو الكلّة (الناموسية). لا يَرَوْنَ لا يجدون. شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أي لا حرّا ولا بردا، والزمهرير: البرد الشديد. وَدانِيَةً قريبة. ظِلالُها ظلال أشجارها. وَذُلِّلَتْ سخرت وسهّلت ثمارها، وصارت في متناول الأيدي. قُطُوفُها ثمارها، جمع قطف، والمراد:
أدنيت ثمارها، فينالها القائم والقاعد والمضطجع.
بِآنِيَةٍ صحاف أو أواني الطعام، جمع إناء. وَأَكْوابٍ آنية الشراب، جمع كوب: وهو قدح أو كوز مستدير الفتحة، لا عروة فيه. قَوارِيرَا أوعية زجاجية، جمع قارورة: وهي الزجاجة المعروفة. قَدَّرُوها تَقْدِيراً قدرها السقاة الطوافون على قدر ريّ الشارب، من غير زيادة ولا نقصان، وذلك ألذ الشراب. كَأْساً أي خمرا، والكأس في الأصل: القدح الذي تكون فيه الخمر. مِزاجُها ما تمزج به. زَنْجَبِيلًا ماء يشبه الزنجبيل في الطعم، وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به، والزنجبيل: نبات ذو عرق يوضع في أخلاط البهارات، له رائحة طيبة وله لذع في اللسان، ينبت في بلاد الشام والهند والصين.
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا سميت بذلك لسلاسة انحدارها في الحلق، وسهولة مساغها.
والسلسبيل: الشراب اللذيذ. مُخَلَّدُونَ دائمو البهاء والحسن، لا يشيبون. حَسِبْتَهُمْ ظننتم لحسنهم. لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً كاللؤلؤ المنتثر في الصفاء والبياض. ثَمَّ هناك. نَعِيماً لا يوصف. وَمُلْكاً كَبِيراً واسعا لا غاية له. عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ يعلوهم ثياب الحرير الخضر، والسندس: ما رقّ من الحرير، وهو الظهائر. وَإِسْتَبْرَقٌ ما غلظ من الديباج، وهو البطائن. وَحُلُّوا ألبسوا حلية. أَساوِرَ جمع سوار. مِنْ فِضَّةٍ وفي موضع آخر:
مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف ٤٣/ ٧١]، للدلالة على أنهم يحلّون من النوعين معا، ومفرّقا. شَراباً طَهُوراً نقيا من الشوائب، والطهور: صيغة مبالغة في طهارته ونظافته، خلافا لخمر الدنيا.
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً أي يقال لهم: إن ما أعدّ لكم من الثواب جزاء أعمالكم الصالحة.
مَشْكُوراً مجازي عليه، غير مضيّع.
سبب النزول: نزول الآية (٢٠) :
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ..:
أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن

صفحة رقم 295

الخطاب على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو راقد على حصير من جريد، وقد أثّر في جنبه، فبكى عمر فقال: ما يبكيك؟ قال: ذكرت كسرى وملكه، وهرمز، وصاحب الحبشة وملكه، وأنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير من جريد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما ترضى أن لهم الدنيا، ولنا الآخرة، فأنزل الله تعالى:
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً.
المناسبة:
بعد بيان طعام أهل الجنة ولباسهم، ذكر الله تعالى أوصاف مساكنهم وكيفية جلوسهم فيها وأشربتهم وأوانيهم وخدمهم واعتدال هوائهم، ثم أشار إلى تجملهم بمحاسن الثياب والحلي، وذكر في النهاية أن هذه النعم جزاء عملهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أوضاع أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم، وما أسبغ عليهم من الفضل العظيم، فقال تعالى:
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ، لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أي جزاهم الله جنة، متكئين فيها على الأسرة المظللة بالحجال أو الكلل، لا يرون فيها حرّ الشمس، ولا برد الزمهرير، بل إن هواءها معتدل،
جاء في الحديث: «هواء الجنة سجسج، لا حرّ ولا قرّ»
والسجسج: الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس «١».
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي وإن ظلال الأشجار قربة منهم، مظللة عليهم، زيادة في نعيمهم، وإن كان لا شمس هناك، وسخرت وأدنيت ثمارها لمتناوليها تسخيرا، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك. فقوله: وَدانِيَةً أي وجزاهم جنة أخرى

(١) تفسير القرطبي: ١٩/ ١٣٨ [.....]

صفحة رقم 296

دانية عليهم ظلالها.
ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح عليه في الدنيا، وهو الضوء النوراني، فإنه لا شمس هناك، فمعنى دنوّ الظلال: أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس، لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة، وقد أكّد هذا المعنى بقوله: وَذُلِّلَتْ.. أي لا تمتنع على قطّافها كيف شاؤوا «١».
ثم أخبر الله تعالى عن شرابهم وأوانيهم التي فيها يشربون، فقال:
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام، وهي من فضة، وبأكواب الشراب: وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم، وهي أيضا من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير وهي الزجاج، حتى يرى داخلها، من خارجها، وجاءت في الشكل والحجم كما يريدون لا تزيد ولا تنقص.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة».
وجاء في آية أخرى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ [الزخرف ٤٣/ ٧١]. وهذا يدل على أنهم تارة يسقون بأكواب الفضة، وتارة بأكواب الذهب. والصحاف: هي القصاع. والفرق بين الآنية والأكواب: أن الأكواب كما تقدم هي الكيزان التي لا عرى لها، والآنية هي ما له عرى، كالقدح.
ثم وصف الله تعالى مشروبهم نفسه قائلا:
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا أي ويسقى الأبرار أيضا في هذه الأكواب في الجنة خمرا ممزوجة بالزنجبيل، فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور

(١) غرائب القرآن: ٢٩/ ١٢٤

صفحة رقم 297

كما تقدم وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل. أما المقرّبون فإنهم يشربون من كلّ منهما صرفا.
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا أي ويسقون من عين في الجنة تسمى السلسبيل، سميت بذلك لسلاسة مائها، وسهولة جريها وانحدارها وإساغتها في حلوقهم. قال ابن الأعرابي عن السلسبيل: لم أسمعه إلا في القرآن.
وقال ابن عباس: وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة، فليس منه في الدنيا إلا الاسم.
والفائدة في تسمية العين بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته، ولكن ليس فيها اللذع الذي هو مناف للسلاسة.
ثم وصف خدمهم بقوله:
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أي ويطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة، يبقون فيها على حالة واحدة من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون ولا يتغيرون ولا يموتون، إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج غيرهم وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، ظننتهم كاللؤلؤ المنثور، قال ابن كثير: ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.
شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين، فإنه شبّههن باللؤلؤ المكنون لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة.
ثم أجمل نعيمهم لأنه أعلى وأعظم مما سبق، ولأنه مما لا يحصر ولا يخطر ببال أحد، ما دام في الدنيا، فخاطب نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أو كل راء قائلا:
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ، رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أي وإذا نظرت نظرا بعيدا

صفحة رقم 298

في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور، رأيت نعيما لا يوصف، وسلطانا وملكا عظيما لا يقدر قدره.
جاء في الحديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه، كما ينظر إلى أدناه» «١».
ثم وصف ملابسهم وحليهم بقوله:
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ أي لباسهم الذي يعلوهم هو الحرير الرفيع الرقيق الأخضر، والديباج الغليظ، وحلوا بأساور من فضة، وفي آية أخرى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف ١٨/ ٣١، فاطر ٣٥/ ٣٣] أي تارة تكون حليهم الفضة، وتارة الذهب.
ثم ذكر الله تعالى شرابا آخر لهم غير الممزوج بالكافور أو بالزنجبيل، فقال:
وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أي وسقاهم ربّهم بشراب غير ما سبق يطهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة، كما روي عن علي رضي الله عنه. والطهور مبالغة طاهر، والمراد أنها ليست بنجسة، ولا مستقذرة طبعا، ولا تؤول إلى النجاسة، ولكنها ترشح عرقا من أبدانهم، له ريح كريح المسك.
قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي: يؤتون بالطعام، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور، فيشربون، فتضمر بطونهم من ذلك، ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك.
ثم ذكر الله تعالى علة هذا الفضل والنعيم، فقال:
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً، وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي ويقال لهؤلاء الأبرار الممتعين بالجنان، تكريما لهم وإحسانا إليهم: إن هذا المذكور من أنواع النعم،

(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٤٥٧

صفحة رقم 299

كان لكم جزاء بأعمالكم، أي ثوابا لها، وجزاكم الله تعالى على القليل بالكثير، ويقبل طاعتكم، فشكر الله سبحانه لعمل عبده: هو قبوله لطاعته.
ونظير الآية قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة ٦٩/ ٢٤]، وقوله سبحانه: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف ٧/ ٤٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- يكون الأبرار أهل الجنة في غاية النعيم والراحة، فهم متكئون على الأرائك أي السرر في الحجال، ولا يرون في الجنة شدة حرّ كحر الشمس، ولا بردا مفرطا، وظلال الأشجار في الجنة قريبة منهم، فهي مظلّة عليهم، زيادة في نعيمهم، وإن كان لا شمس ولا قمر، كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثمّ.
وتسخر لهم الثمار تسخيرا، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك، كما قال قتادة.
ويدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة أو من ذهب، وبقوارير في صفاء الزجاج وبياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة، وقد قدّر أقدارها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم.
ويسقون في الجنة خمرا في آنية، ممزوجة بالزنجبيل تطييبا لرائحتها وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، فرغّبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب.
ويشربون أيضا في الجنة من عين تسمى السلسبيل: وهو الشراب اللذيذ.

صفحة رقم 300

ويطوف عليهم بالآنية للخدمة ولدان يبقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مرّ الأزمنة، فإذ شاهدتهم ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم لؤلؤا مفرقا في ساحات المجلس، واللؤلؤ إذا نثر على بساط كان أحسن منه منظوما. والمراد دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة.
وهناك في الجنة إذا رأيت ببصرك، رأيت نعيما لا يوصف، وملكا عظيما لا يقدر قدره.
وثيابهم الحرير الأخضر الرقيق والديباج الغليظ، ويحلون في الجنة بحلي وأساور من ذهب أو فضة، حسبما يروق لهم، وإن كانوا رجالا.
ويشربون من شراب آخر غير ما ذكر موصوف بغاية الطهر والنقاء، إما لإذهاب آثار الطعام وجعله يتفصد من الجسد عرقا، أو للترفع عن اللذات الحسية والتخلص من مفاسد الأخلاق الرديئة، كالحسد والحقد والبغض وغير ذلك.
٢- يقال لهؤلاء الأبرار في الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها، تكريما لهم وإحسانا إليهم: إنما هذا المذكور من النعم ثواب عملكم، وكان عملكم مشكورا من قبل الله، وشكره للعبد: قبول طاعته، وثناؤه عليه، وإثابته إياه.

صفحة رقم 301
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية