
لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً»
(٩) لئلا يعزم المحتاجون على مكافتهم وتكون طيبة أنفسهم ويتأثمون من المن والأذى بنفقاتهم قائلين «إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً» وجه أهله المفرطين بدنياهم «قَمْطَرِيراً» (١٠) شديد الا كفهرار تتغير فيه الوجوه حتى لا تكاد تعرف وعليه قوله:
واصطليت الحروب في كلّ يوم | باسل الشّر قمطرير الصّباح |
«فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ» جزاء إطعامهم واعتقادهم وإحسانهم للوقاية من هوله وحسن ظنهم بالله والله عند حسن ظن عبده «وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً» بهاء وبهجة في وجوههم «وَسُرُوراً» (١١) في قلوبهم أشرق لمعانه على وجوههم، لأن فرح القلب يبعث الانطلاق على الوجه فيظهر الابتسام عليه وهو نوره «وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا» على إيثار الفقراء على أنفسهم وعلى فعل الطّاعات والكف عن المعاصي وأذى النّاس إليهم «جَنَّةً وَحَرِيراً» (١٢) يلبسونه في تلك الجنّة «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» الأسرة الجميلة خلال الحجال، ولا تسمى أريكة إلّا وهي فيها «لا يَرَوْنَ فِيها» أي تلك الجنّة «شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» (١٣) لا حرا ولا بردا مزعجين وليسوا بحاجة إلى ضوء الشّمس والقمر لأن الجنّة مضيئة بنفسها بنور ربها المشرق عليها قال تعالى وأشرقت الأرض (أي أرض الجنّة) بنور ربها الآية ٦٩ من سورة الزمر ج ٢، والزمهرير هو القمر على لغة طيء وعليه قولهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر | قطعتها والزمهرير ما زهر |

شفافة لطيفة ليست بجام بل هي «قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ» جامعة بين بياض الفضة وحسنها وصفاء الجام ولطافته بحيث يرى الشّراب من خارجها وتتلون بلون ما فيها «قَدَّرُوها تَقْدِيراً» (١٦) لدى الرّجل الواحد بلا زيادة ولا نقص وهذا يكون في غاية اللّذة، وهكذا كلّ ما في الجنّة كامل طيب «وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً» ملأي خمرا لم تمزج بماء بل «كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» (١٧) اسم لعين ماء خاص لمزج شراب الأبرار، ولهذا أبدل منه «عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» (١٨) كانت العرب تضع الزنجبيل في شرابهم لما فيه من الرّائحة واللّذع، قال المسيب ابن علس:
وكأن طعم الزنجبيل... إذا ذقته وسلافة الخمر
وقال الأعشى:
كان القرنفل والزنجبيل... باتا بقيها وأره مشورا
الأرى العسل، والمشور المستخرج من بيوت النّحل. وقد ذكره الله تعالى لأنه كان مستطابا عند العرب، والآن يضعون اليانسون في شرابهم قبح الله شاربيه إذا ماتوا مدمنين عليه، وسميت هذه العين سل سبيلا كأنها تقول لأهل الجنّة اختاروا أي طريق تريدون أن أجري فيه إلى قصوركم وخيامكم. وقدمنا وصف خمرة الآخرة في الآية ١٨ من سورة الواقعة في ج ١ والآية ٢٥ من المطففين في ج ٢ فراجعهما «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ» راجع الآية ١٧ من سورة الواقعة المذكورة في معنى مخلدون، لأن معنى الخلد هنا لا يتم عن كبير معنى، لأن الخلود في الجنّة لمن فيها محقق وكلّ ما فيها خالد فلا حاجة لذكر خلود خدمها وهي دار الخلد، بل معناه مقرطون، وقيل مسوّرون أي لابسون أقراطا وأسورة من ذهب كالمخدومين، راجع الآية ٢٤ من سورة الحج الآتية فيشابهون أسيادهم من هذه الجهة، وان إلباس العبيد يشير إلى عظمة الأسياد في الدّنيا، لأنا نرى بعض الشيوخ يلبسون عبيدهم أحسن منهم، فلأن يكون في الآخرة من باب أولى «إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً» (١٩) في البياض والحسن والكثرة و «إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ» هناك يا سيد الرّسل في تلك الجنان الباهرة «رَأَيْتَ نَعِيماً»