حديث مسلم عن صهيب أن رؤية الله عز وجل هي الزيادة في قوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس ١٠/ ٢٦].
٥- تكون وجوه الكفار الفجار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة، مستيقنة أنه سيحل بها عذاب شديد، وداهية عظيمة.
تفريط الكافر في الدنيا وإثبات البعث
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٦ الى ٤٠]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
الإعراب:
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى أي لم يصدق ولم يصل، كقوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد ٩٠/ ١١] أي لم يقتحم.
يَتَمَطَّى أصله يتمطط، أي يتبختر، من المطيطاء (اسم مشية بني مخزوم في الجاهلية ومنهم أبو جهل) فأبدل من الطاء الآخرة ياء، مثل تظنيت وأصله: تظننت، وأمليت وأصله:
أمللت، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أَوْلى مبتدأ، ولَكَ خبره، وحذف خبر أَوْلى الثاني، اجتزاء بخبر الأول عنها وأولى: ممنوع من الصرف للتعريف ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَنْ يُتْرَكَ سد مسد مفعولي. يَحْسَبُ وسُدىً حال من ضمير يُتْرَكَ. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى الذَّكَرَ وَالْأُنْثى منصوبان على البدل من الزَّوْجَيْنِ.
عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى لا يجوز إدغام إحدى الياءين في الأخرى لأن الحركة في الثانية حركة إعراب.
البلاغة:
بَلَغَتِ التَّراقِيَ كناية عن الإشفاء على الموت.
صَدَّقَ وكَذَّبَ بينهما طباق.
السَّاقُ والْمَساقُ بينهما جناس ناقص. وقوله: الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ كناية عن الشدة.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً استفهام إنكاري بقصد التوبيخ والتقريع.
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى التفات من الغيبة إلى المخاطب، تقبيحا له وتهجينا.
المفردات اللغوية:
التَّراقِيَ جمع ترقوة، وهي العظام الممتدة من الحلق إلى العاتق من اليمين والشمال، والمراد بلوغ الروح أعالي الصدر. وَقِيلَ
قال من حوله. مَنْ راقٍ
من يرقيه وينجيه ليشفى، كما يرقى المريض، والمراد: هل من طبيب يشفي حينئذ. الْفِراقُ فراق الدنيا، أي وظن المحتضر أن الذي نزل به فراق الدنيا وأحبائها وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التوت إحدى ساقيه بالأخرى عند الموت، فلا يقدر تحريكها. الْمَساقُ السوق إلى الله تعالى وحكمه، والمعنى: إذا بلغت الروح الحلقوم، تساق إلى حكم ربها. فَلا صَدَّقَ الإنسان. وَلا صَلَّى أي لم يصدق بما يجب تصديقه، أو لم يصدّق ماله، بأن لم يؤد زكاته، ولم يؤد صلاته المفروضة. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة. يَتَمَطَّى يتبختر في مشيته إعجابا وافتخارا.
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي ويل لك، من الولي، فهو دعاء وأصله: أولاك الله ما تكرهه أو أولى لك الهلاك، واللام مزيدة كما في رَدِفَ لَكُمْ أو للتبيين. وقوله: فَأَوْلى أي فهو أولى بك من غيرك. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تأكيد، أي أنت أولى بتكرر ذلك عليك مرة بعد أخرى، وتكون الجملة الأولى دعاء عليه بقرب المكروه، والثانية دعاء عليه بأن يكون أقرب إلى المكروه من غيره.
أَيَحْسَبُ يظن. سُدىً مهملا لا يكلف بالشرائع ولا يجازى ولا يحاسب، وهو
يتضمن تكرار إنكاره للحشر لأن جزاء التكليف قد لا يكون إلا في الآخرة، وهذا دليل على إثبات البعث لأنه لا بد من الجزاء على الأعمال، حتى لا يتساوى الطائع مع العاصي.
نُطْفَةً ماء قليلا، وتجمع على نطف ونطاف. يُمْنى يصب في الرحم، وقرئ:
«تمنى». ثُمَّ كانَ المني. عَلَقَةً قطعة دم جامد. فَخَلَقَ أي أوجد الله تعالى منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة. فَسَوَّى أي فسوّاه شخصا مستقلا، بأن قدّره وعدّله وعدل أعضاءه.
فَجَعَلَ مِنْهُ من المني الذي صار علقة (قطعة دم) ثم مضغة (قطعة لحم). الزَّوْجَيْنِ الصنفين أو النوعين من البشر. الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بأن يرزق النوعان تارة، أو ينفرد أحدهما عن الآخر تارة، وهو استدلال آخر بالإبداء على الإعادة والبعث. أَلَيْسَ ذلِكَ الفعال لهذه الأشياء. بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قال صلّى الله عليه وسلّم: بلى.
سبب النزول: نزول الآية (٣٤، ٣٥) :
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى..: أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر ٧٤/ ٣٠] قال أبو جهل لقريش:
ثكلتكم أمهاتكم، يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدّهم (العدد) والشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، فأوحى الله تعالى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتي أبا جهل، فيقول له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى.
وأخرج النسائي عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن قوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أشيء قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبل نفسه، أم أمره الله به؟ قال:
بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى تعظيم أحوال الآخرة وهي القيامة العظمى، ووصف ما فيها من أهوال، وما عليه حال السعداء وحال الأشقياء، بيّن أن الدنيا لا بد
لها من نهاية ووصول إلى تجرع مرارة الموت وهو القيامة الصغرى لأن الموت أول منزلة من منازل الآخرة، فإذا لم يؤمن الكافر بأمر القيامة، لا يمكنه أن يتخلص من الموت، وتجرع آلامه، وتحمل آفاته.
ثم استدل الله تعالى لإثبات البعث بأمرين:
الأول- أن العدل يقضي بأنه لا بد من الجزاء على الأعمال، حتى لا يتساوى الطائع والعاصي، وذلك لا يكون إلا في الآخرة.
الثاني- أنه تعالى كما قدر على بدء الخلق، فهو قادر على الإعادة والبعث، بل إن الإعادة أهون في تقدير البشر.
التفسير والبيان:
كَلَّا، إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ، وَقِيلَ: مَنْ راقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ كَلَّا إذا كانت رادعة، فالمعنى: لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به، بل صار ذلك عندك عيانا، وإذا كانت بمعنى حقا، فالمراد: حقا إذا انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك، والتراقي: جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق. والضمير في بَلَغَتِ للنفس لدلالة قرينة الحال أو المقال، كما في قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة ٥٦/ ٨٣].
والظاهر المعنى الأول، قال الزجاج: كَلَّا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل: لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة، وعرفتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي به تنتهي العاجلة، وتنتقلون إلى الآجلة دار الخلود.
وعلى هذا يكون المعنى العام: ارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة،
وتنبهوا إذا بلغت الروح أو النفس أعالي الصدر، كناية عن الاحتضار وأهواله والموت وقال من حضر المحتضر: هل من يرقيه ويشفيه، وهل من طبيب شاف؟ ولكن لن يغنوا عنه من قضاء الله شيئا وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنها ساعة الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد.
وعبر عن اليقين بالظن لأن الروح ما دامت في البدن، يطمع صاحبها في الحياة، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، كما ذكر الرازي.
والآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه، باق بعد موت البدن لأنه تعالى سمى الموت فراقا، وهو يدل على أن الروح باقية فإن الفرق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف «١».
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التوت ساقه على ساقه عند نزول الموت به، فلا يقدر على تحريكها، فماتت رجلاه، ويبست ساقاه ولم تحملاه، وقد كان جوّالا عليهما، واجتمع عليه أمران: الناس يجهّزون جسده، والملائكة يجهزون روحه.
ويصح أن يكون ذلك كناية عن الشدة، كما في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم ٦٨/ ٤٢] والمراد: اتصلت شدة فراق الدنيا، وترك الأهل والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك، بشدة الإقبال على أحوال الآخرة وأهوالها.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي تساق الأرواح بعد قبضها من الأجساد إلى خالقها، ويكون المرجع والمآب إلى حكم ربك، فتصير إما إلى جنة وإما إلى نار.
فقوله: إِلى رَبِّكَ أي إلى حكمه خاصة. والْمَساقُ السوق، فحكمه هو المسوق إليه. وقيل: السوق إلى الله لا إلى غيره، فهو السائق يسوقه إلى الجنة أو إلى النار.
ثم أوضح الله تعالى كيفية عمل هذا المحتضر فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه وبالدنيا، فقال:
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي لم يصدق بالرسالة النبوية ولا بالقرآن، ولا صلى لربه الصلاة المطلوبة منه فرضا، بل كذب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى أهله جذلان أشرا بطرا، يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك، كسلانا لا همة له ولا عمل، كما قال تعالى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ، انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين ٨٣/ ٣١].
لقد جمع بين ترك العقيدة أو أصول الدين في أنه ما صدق بالدين، ولكن كذب به، وبين إهمال فروع الدين في أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض، وبين الإساءة لطبيعة الدنيا وسلوكها في أنه ذهب إلى أهله يتمطى، ويتبختر، ويختال في مشيته.
والآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة، كما يستحقهما بترك الإيمان.
ثم هدد الله تعالى هذا الكافر وتوعده ودعا عليه بقوله:
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي وليك الويل، ويتكرر عليك هذا الدعاء، والمعنى: ويل لك وأهلكك الله، وليتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى، فأنت الجدير بهذا.
وهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به، المتبختر في مشيه، يقصد
به أنه يحق لك أن تمشي هكذا، وقد كفرت بخالقك وبارئك، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد، وهو كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان ٤٤/ ٤٩] وقوله سبحانه: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات ٧٧/ ٤٦] وقوله عز وجل: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر ٣٩/ ١٥] وقوله عز من قائل: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠].
قال قتادة والكلبي ومقاتل: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد أبي جهل، ثم قال:
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
توعده، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي، ثم انسلّ ذاهبا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام. ولما كان يوم بدر أشرف على القوم فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقتل إذ ذاك شرّ قتلة.
ثم أقام الله تعالى دليلين على صحة البعث لتأكيد ما جاء في أول السورة:
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ:
الأول- أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي أيظن أن يترك الإنسان في الدنيا مهملا، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف، ولا يحاسب ولا يعاقب بعمله في الآخرة؟ وهذا خلاف مقتضى العدل والحكمة، فلا بد من الجزاء حتى لا يتساوى المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، واقتضت الحكمة الإلهية تأجيل الجزاء إلى عالم الآخرة، وترك تعجيله، ليتسنى وجود الفرصة المواتية الكافية في أثناء العمر والحياة للإيمان والصلاح، كما قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه ٢٠/ ١٥]. وقال سبحانه: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص ٣٨/ ٢٨].
ونظير الآية: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٥].
الثاني- أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي أما كان ذلك الإنسان قطرة أو نطفة ضعيفة من مني يراق في الرحم، ثم صار بعد ذلك علقة، أي قطعة دم، ثم مضغة أي قطعة لحم، ثم شكّل ونفخ فيه الروح، فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؟ أليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه بقادر على أن يعيد خلق الأجسام من جديد بالبعث، كما كانت عليه في الدنيا؟ بلى، فإن الإعادة أهون من الابتداء.
وقوله: فَخَلَقَ أي فقدّر بأن جعلها مضغة مخلّقة، وقوله فَسَوَّى أي فعدّل أركانه وكمل نشأته ونفخ فيه الروح، وجعل من المني بعد تخليقه صنفي الإنسان: الرجل والمرأة.
وهذا استدلال بالخلق الأول على الإعادة، فإن الخالق الأول هو الخالق الآخر، والأمران سواء عليه.
روى ابن أبي حاتم وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال:
«سبحانك اللهم وبلى».
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه، والحاكم وصححه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ منكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين ٩٥/ ١] وانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [التين ٩٥/ ٨] فليقل: بلى، وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة ٧٥/ ١] فانتهى إلى قوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة ٧٥/ ٤٠] فليقل: بلى، ومن قرأ المرسلات، فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ [المرسلات ٧٧/ ٥٠] فليقل: آمنا بالله».
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- ذكّر الله تعالى الناس قاطبة بشدة الحال وصعوبة الأمر عند نزول الموت، فعند الاحتضار يجتمع على الإنسان أمران: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، ويجتمع عليه أيضا شيئان محزنان: فراق الدنيا والأهل والولد حين معاينة الملائكة، واتصال شدة الدنيا بشدة أول الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله، أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع على الآخرة.
٢- يكون الشّوق في يوم القيامة إلى الخالق، ويكون المرجع والمآب إلى حكم الله، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
٣- يكون الكافر أولى وأجدر بالعذاب والهلاك لفساد العقيدة والعمل والخلق، فلم يصدّق بالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا بالقرآن ولم يصلّ الصلاة المفروضة التي أمره الله بها، وتجرد عن إنسانيته بالتكبر والتبختر، افتخارا بالمال والولد، واعتزازا بالقوة الجسدية أو الجاه، لذا جاء التهديد بعد التهديد، والوعيد بعد الوعيد في قوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فهو وعيد أربعة لأربعة، أي وعيد بأربعة أنواع من العذاب لأربعة أنواع من الأمور: ترك الإيمان والصلاة وتكذيب الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، والتبختر.
٤- أعاد الله تعالى في آخر السورة ما ذكر في أولها بقوله: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وقد ذكر هذا لإثبات الحشر والبعث والقيامة بدليلين:
الأول- لا بد في الحياة من التكليف لتنظيم الحياة وتهذيب الأنفس ودرء
المفاسد، والتكليف لا يحسن، ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة.
الثاني- الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة، فمن قدر على بدء الخلق وإيجاد الإنسان، فهو أقدر على إعادته إلى الحياة مرة أخرى.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإنسان، أو: الدّهرمدنيّة وهي إحدى وثلاثون آية.
تسميتها:
سميت سورة الإنسان لافتتاحها بالتنويه بخلق الإنسان وإيجاده، بعد أن لم يكن شيئا موجودا، ثم صار خليفة في الأرض، وخلق له جميع ما في الأرض من خيرات ومعادن وكنوز.
مناسبتها لما قبلها:
تتعلق السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة:
١- ذكر الله تعالى في آخر السورة السابقة مبدأ خلق الإنسان من نطفة، ثم جعل منه الصنفين: الرجل والمرأة، ثم ذكر في مطلع هذه السورة خلق آدم أبي البشر، وجعله سميعا بصيرا، ثم هدايته السبيل، وما ترتب عليه من انقسام البشر إلى نوعين: شاكر وكفور.
٢- أجمل في السورة المتقدمة وصف حال الجنة والنار، ثم فصل أوصافهما في هذه السورة، وأطنب في وصف الجنة.
٣- ذكر سبحانه في السورة السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار في يوم القيامة، وذكر في هذه السورة ما يلقاه الأبرار من النعيم. صفحة رقم 279
ما اشتملت عليه السورة:
بالرغم من كون هذه السورة مدنية في قول الجمهور، فإنها عنيت بالحديث عن أحوال الآخرة، ولا سيما تنعم الأبرار في دار الخلد والنعيم، أما من قال بأنها مكية فرأيه متفق مع موضوعها.
وقد افتتحت بالكلام عن مبدأ خلق الإنسان، وتزويده بطاقات السمع والبصر، وهدايته السبيل، ثم انقسامه إلى فئتين: شاكر وكفور، والإخبار عن جزاء الشاكرين والجاحدين ووصف الجنة والنار: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ...
[الآيات: ١- ٦].
ثم أشادت بأعمال الشاكرين من الوفاء بالنذر، وإطعام الطعام لوجه الله، والخوف من عذاب الله: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ.. [الآيات: ٧- ١١].
وأردفت ذلك بوصف ما لهم عند ربهم من الجنان والثواب والفضل والإكرام:
وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الآيات: ١٢- ٢٢].
ثم أبانت مصدر تنزيل القرآن، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر الجميل، وذكر الله، وقيام الليل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا.. [الآيات: ٢٣- ٢٦].
ونوّهت بشيء تضمنته السورة السابقة وهو حب الدنيا العاجلة وترك الآخرة، وتهديدهم بتبديل أمثالهم إن داموا على الكفر والعناد وإمعان الأذى:
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ.. [الآيات: ٢٧- ٢٨].
وختمت السورة الكريمة بإعلان أن القرآن تذكرة وعظة لجميع البشر وندبهم إلى الإيمان والعمل بما جاء فيه: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ.. [الآيات: ٢٩- ٣١].