آيات من القرآن الكريم

وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ
ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦ ﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲ ﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ

الأبد، تلوح للبشر عيانا، وتلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل، ولا يستطيع أحد الفرار منها، فإن عليها خزنة تسعة عشر من الملائكة، يلقون فيها أهلها وهم مالك وثمانية عشر ملكا آخرون بأعيانهم. قال الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق، كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. والأكثرون على أن المراد تسعة عشر شخصا من الملائكة، وقيل: صنفا.
قال القرطبي: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ
وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها» «١».
الحكمة في اختيار عدد خزنة جهنم التسعة عشر
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٣١ الى ٣٧]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧)

(١) تفسير القرطبي: ١٩/ ٨٠

صفحة رقم 231

الإعراب:
إِلَّا فِتْنَةً مفعول ثان لجعلنا.
ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا مَثَلًا: حال.
نَذِيراً لِلْبَشَرِ منصوب من خمسة أوجه:
١- أن يكون منصوبا على المصدر، أي إنذارا للبشر، فيكون نذير بمعنى إنذار، كنكير بمعنى إنكار.
٢- أن يكون منصوبا على الحال من لَإِحْدَى الْكُبَرِ وذكّر لأنها بمعنى العذاب، أو لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث.
٣- أن يكون منصوبا على الحال من ضمير قُمْ في أول السورة، وتقديره: قم نذيرا للبشر.
٤- أن يكون منصوبا بتقدير فعل، أي صيرها الله نذيرا، أي ذات إنذار، على النسب.
٥- أن يكون منصوبا بتقدير: أعني، أي أعني نذيرا للبشر.
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ إِذْ: ظرف زمان ماض، أَدْبَرَ: انقضى، يراد به التعبير عن إدبار الليل فيما مضى، وقرئ «إذا» ظرف زمان مستقبل دبر: تولى. قال الفراء: دبر وأدبر بمعنى واحد، كقبل وأقبل.
البلاغة:
يُضِلُّ وَيَهْدِي بينهما طباق، وكذا بين يَتَقَدَّمَ ويَتَأَخَّرَ.
كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ سجع مرصع.
المفردات اللغوية:
إِلَّا مَلائِكَةً أي فلا يمكن مقاومتهم ولا يطاقون كما يتوهمون. عِدَّتَهُمْ عددهم المذكور. فِتْنَةً سبب ضلال واستبعاد. لِلَّذِينَ كَفَرُوا بأن يقولوا: لم كانوا تسعة عشر.
لِيَسْتَيْقِنَ ليستبين. الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود والنصارى، أي ليتبينوا صدق القرآن وصدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لما رأوا أن عددهم تسعة عشر موافق لما في كتابهم. وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً يزداد المؤمنون من أهل الكتاب وغيرهم تصديقا لموافقة ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم لما في كتابهم.
وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ من غيرهم في عدد الملائكة. مَرَضٌ

صفحة رقم 232

شك أو نفاق، وهم منافقو المدينة. وَالْكافِرُونَ بمكة. ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي ماذا أراد الله بهذا العدد حديثا. كَذلِكَ يُضِلُّ.. أي مثل ذلك المذكور من إضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه، يضل الكافرين، ويهدي المؤمنين. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي ما يعلم الملائكة في قوتهم وأعوانهم، وكذلك جموع خلقه على ما هم عليه. وَما هِيَ أي سقر.
ذِكْرى تذكرة وموعظة للناس.
كَلَّا ردع لمن أنكرها، أي حقا. أَدْبَرَ مضى وولّى. أَسْفَرَ ظهر وأضاء.
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ أي إن سقر وصفتها لإحدى الدواهي أو البلايا العظام. أَنْ يَتَقَدَّمَ إلى الخير أو الجنة بالإيمان. أَوْ يَتَأَخَّرَ إلى الشر أو النار بالكفر.
سبب النزول: نزول الآية (٣١) :
وَما جَعَلْنا..: قال ابن إسحاق وقتادة: قال أبو جهل يوما:
يا معشر قريش، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا، أفيعجز مائة رجل منكم عن رجل منهم، فأنزل الله:
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً الآية.
وقال السّدّي: لما نزلت عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قال رجل من قريش يدعى أبا الأشد بن كلدة الجمحي- وكان شديد البطش «١» -: يا معشر قريش لا يهولنّكم التسعة عشر، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، فأنزل الله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً.
وفي رواية: أن الحارث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم

(١) كان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة، لينزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه.
قال السهيلي: وهو الذي دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مصارعته، وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارا، فلم يؤمن. وصارع النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب.

صفحة رقم 233

اثنين، فنزل قوله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي لم يجعلهم رجالا تستطيعون مغالبتهم.
التفسير والبيان:
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي لم نجعل خزنة النار وزبانيتها القائمين بالتعذيب إلا ملائكة غلاظا شدادا، ولم نجعلهم رجالا تمكن مغالبتهم، ومن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟ وهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأعظمهم بطشا، وأقومهم بحق الله والغضب له تعالى.
وهذا رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل كما تقدم: يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟
فقال الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي شديدي الخلق، لا يقاومون ولا يغالبون.
ثم أبان الله تعالى حكمة اختيار عدد الخزنة، فقال:
وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر، اختبارا منا للناس، وسبب محنة وإضلال للكافرين، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم، ويكثر غضب الله عليهم. فقوله: فِتْنَةً معناه سبب فتنة، أي جعلنا تلك العدة وهي تسعة عشر سببا لفتنة الكفار، وفتنتهم: هو كونهم أظهروا مقاومتهم والطمع في مغالبتهم، وذلك على سبيل الاستهزاء، فإنهم مكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها.
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً أي إنه تعالى جعل عدة الزبانية تسعة عشر ليتيقن ويعلم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أن هذا الرسول حق، فإنه جاء ناطقا بما يطابق كتبهم السماوية المنزلة على الأنبياء

صفحة رقم 234

قبله، فإن فيها أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر، ولكي يزداد إيمان المؤمنين وتصديقهم حين يرون موافقة أهل الكتاب لهم، ويشهدون صدق إخبار نبيهم محمد- صلّى الله عليه وسلّم.
ثم أكد الله تعالى ذلك بنفي الشبهة والشك، فقال:
وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ أي ولا يشك أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمؤمنون بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في صحة وحقيقة هذا العدد، وفي دين الله. والمراد بذلك في الواقع التعريض بالمتشككين المنافقين.
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي وليقول المنافقون الذي في قلوبهم شك وريب في صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم والكافرون من أهل مكة وغيرهم: أي شيء أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟
وما الحكمة في ذكر هذا هنا؟ ومرادهم إنكار أصل هذا الكلام، وأنه ليس من عند الله «١».
ثم ذكر الله تعالى سنته في الإضلال والهداية لمن كان من أهلهما، فقال:
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل من يريد بخذلانه عن إصابة الحق، لسوء استعداده، وتوجيه نفسه لمواقع الضلال والسوء، ويهدي إلى الحق والإيمان من يريد، بتوفيقه إلى الصواب، فمثل إضلال أبي جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم، يضل الله عن الهداية والإيمان أي يخزي ويعمي من أراد إضلاله، ويهدي أي يرشد من أراد هدايته، كإرشاد أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وليس معنى الإضلال والهداية أنه تعالى يجبر كل فريق على الضلالة والهدى،

(١) البحر المحيط: ٨/ ٣٧٧

صفحة رقم 235

فذلك مناف للعدل الإلهي، ولحكمة التشريع الذي جاء بالتكليف، وإنما لإرادة المكلف واختياره دور أساسي في الاستجابة للتكليف، ولاستحقاق المؤاخذة والثواب، ولا يقع شيء قهرا عن الله، وإنما بمراده، فإن خالف العبد عصى المأمور به، والمحبوب لربه، ولم يخرج عن مشيئة الله، فالله قهر الأشياء كلها، ولكنه أرخى الزمام في أشياء لاختيار الإنسان.
ثم أكد تعالى أن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها، فقال:
وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي إن خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
وهذا رد على المشركين الذين استقلوا ذلك العدد، ملخصه: هبوا أن هؤلاء تسعة عشر، إلا أن لكل واحد من الأعوان والجنود ما لا يحصيهم إلا الله، فلا يعلم جنود الله إلا هو لفرط كثرتهم، ولا يعسر عليه تتميم الخزنة إلى عشرين وأزيد، ولكن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها.
وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي وما سقر وصفتها، وما ذكر عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للناس، ليعلموا كمال قدرة الله، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار.
ثم وجّه الله تعالى تحذيرا لمن أنكر جهنم، فقال:
كَلَّا، وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ أي أوجه تحذيرا رادعا لكم أيها الناس، فلا سبيل لإنكار وجود النار في الآخرة، وأقسم بالقمر المتلألئ، وبالليل إذا مضى وولى ذاهبا، وبالصبح إذا ظهر وتبين وأضاء، إن سقر (جهنم) لإحدى الدواهي العظام والبلايا الكبار لإنذار البشر وتخويفهم من عقاب الله على العصيان.

صفحة رقم 236

ثم عيّن الله تعالى المنذرين، فقال:
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أي إن جهنم إنذار لمن أراد أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو الجنة بالإيمان، أو يتأخر عن ذلك إلى الشر والمعصية أو النار بالكفر. ونظير الآية قوله سبحانه: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [الحجر ١٥/ ٢٤] أي المبادرين إلى الخير، والمتأخرين عنه إلى الشر.
قال ابن عباس: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلّى الله عليه وسلّم عوقب عقابا لا ينقطع «١».
وقال الحسن البصري: هذا وعيد وتهديد، وإن خرج مخرج الخبر، كقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف ١٨/ ٢٩] «٢».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- إن خزنة جهنم وزبانيتها التسعة عشر هم من الملائكة الذين لا يغالبون لا من الرجال الذين يمكن مقاومتهم بالتجمع عليهم.
٢- إن إيراد عدد التسعة عشر من الملائكة صار سببا لفتنة الكفار، أي اختبارهم، قال الزمخشري: ما جعل افتتانهم بالعدة سببا، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا، وذلك أن المراد بقوله: ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً، لِلَّذِينَ كَفَرُوا: وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، فوضع فتنة للذين كفروا موضع

(١) تفسير القرطبي: ١٩/ ٨٦
(٢) المرجع والمكان السابق.

صفحة رقم 237

تسعة عشر لأن حال هذه العدّة الناقصة واحدا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزئ، ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفي عليه وجه الحكمة، كأنه قيل: ولقد جعلنا عدتهم عدة، من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان المؤمنين، وحيرة الكافرين «١».
٣- إن ذكر هذا العدد أدى إلى زيادة يقين الذين أعطوا التوراة والإنجيل بصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم، وأدى أيضا إلى زيادة إيمان المؤمنين بذلك لأنهم كلما صدّقوا بما في كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم، وإلى نفي الشك من الذين أعطوا الكتاب والمصدّقين من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر، وأدى أيضا إلى أن الذين في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة الذين سيظهرون بعد الهجرة، والكافرين من اليهود والنصارى قالوا: ماذا أراد الله بعدد خزنة جهنم مثلا غريبا؟ والقصد من هذا التساؤل الصادر منهم استبعاد أن يكون هذا من عند الله وإنكار كونه من الله، والمعنى: أيّ شيء أراد الله بهذا العدد العجيب؟
٤- قوله عز وجل: وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، أي يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو رأي الأكثرين. وأما الذين يقولون بأن حقيقة الإيمان لا تقبل الزيادة والنقصان فيحملون الآية على ثمرات الإيمان وعلى آثاره ولوازمه. وأما نفي الارتياب عن أهل الكتاب والمؤمنين بعد إثبات الاستيقان وزيادة الإيمان لهم، فمن باب التوكيد، كأنه قيل: حصل لهم يقين جازم، بحيث لا يحصل بعده شك وريب، فإن الذي حصل له اليقين قد يغفل عن مقدّمة من مقدمات الدليل، فيعود له الشك. وفيه أيضا تعريض

(١) الكشاف: ٣/ ٢٨٨

صفحة رقم 238

بحال من عداهم، كأنه قيل: وليخالف حالهم حال المرتابين من أهل الزيغ والكفران.
٥- قوله تعالى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ لا يراد به خلافا لظاهره أن الإضلال والهداية أمران مبتدآن من الله عز وجل، ولا أنه تعالى يجبر فريقا على الضلالة، وفريقا على الهدى، وإنما المراد به تقرير سنة من سنن الله سبحانه في عباده وهي ربط الأسباب التي خلقها بالمسببات، فمن ضل فإنما يضل بنفسه واختياره، ومن اهتدى فإنما يهتدي بنفسه وإرادته واختياره، ثم يزيد الله الضالين ضلالا، فيبعدهم عن معالم الهداية، لسوء اختيارهم واستعدادهم وعنادهم، ويزيد المؤمنين إيمانا بتوفيقهم إلى سبل الهداية والرشاد، لحسن اختيارهم. ولا يقع شيء في الكون قهرا عن الله تعالى، وإنما بإرادته ومشيئته، وإن كان مخالفا لمأموره ومحبوبه.
٦- قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ إشارة إلى أن ما عليه عدد الخزنة لا يعلم حكمته ولا حكمة ما عليه كل جند من العدد إلى الأبد إلا الله سبحانه. وهو جواب لأبي جهل حين قال: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر!
أخرج الترمذي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أطّت «١» السماء، وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا».
٧- ردع الله تعالى بقوله: كَلَّا كل من ينكر وجود جهنم وصفتها، وأنها إحدى البلايا العظام والدواهي الكبار، وأنها إنذار دائم للبشر.
٨- أقسم الله تعالى بالقمر والليل والصبح تشريفا لها، وتنبيها على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته وقوام الوجود بإيجادها، والمقسم عليه: أن

(١) أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد ثقلها، حتى أطت ظهر لها صوت وحنين، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثمّ أطيط، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها.

صفحة رقم 239
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية