وقد ابتدأت بأمره صلّى الله عليه وسلّم بقيام الليل إلا قليلا منه، وبترتيل القرآن لتقوية روحه: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [١- ٤] فكان ذلك بيانا لمقدار ما يقوم به في تهجده الذي أمره الله به بقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء ١٧/ ٧٩].
ثم أخبرت عن ثقل الوحي وتبعة رسالته العظمى التي كلّف بها، وأمره بذكر ربه ليلا ونهارا، وإعلان توحيده، واتخاذه وكيلا في كل أموره: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [الآيات ٥- ٩].
وأردفت ذلك بالأمر بالصبر على أذى المشركين، من القول فيه بأنه ساحر أو شاعر، أو في ربه بأن له صاحبة وولدا، وبالهجر الجميل إلى أن ينتصر عليهم وبتهديدهم بسوء العاقبة: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ.. [الآيات ١٠- ١٩].
وختمت السورة بإعلان تخفيف القيام لصلاة الليل عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى مقدار الثلث وجعله الحد الأدنى رحمة به وبأمته ليتمكن هو وأصحابه من الراحة والتفرغ في النهار لشؤون الدعوة والتبليغ، والاكتفاء بتلاوة ما تيسر من القرآن، وأداء الصلاة المفروضة، وإيتاء الزكاة، ومداومة الاستغفار: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ.. [الآية ٢٠].
إرشاد النبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء الدعوة
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) صفحة رقم 188
الإعراب:
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أصله (المتزمل) إلا أنه أبدلت التاء زايا، وأدغمت الزاي في الزاي، وذلك أولى من إبدالها تاء لأن الزاي فيها زيادة صوت، وهي من حروف الصفير، وهي أبدا يدغمون الأنقص في الأزيد.
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ.. الليل في رأي الكوفيين مفعول به، وفي رأي البصريين:
ظرف لفعل القيام، ولو استغرقه الحدث، أي إرادة جميع أجزاء الليل حتى يصح الاستثناء بقوله:
إِلَّا قَلِيلًا فإن الاستثناء معيار العموم، ونِصْفَهُ: بدل من الليل، أو ظرف آخر، وقَلِيلًا: استثناء منه، وقد قدّم المستثنى على المستثنى منه، وهو قليل، وتقديره: قم الليل نصفه إلا قليلا.
أَشَدُّ وَطْئاً تمييز منصوب.
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا تَبْتِيلًا: منصوب على المصدر من غير فعله لأن تَبْتِيلًا تفعيل إنما تجيء في مصدر فعّل، مثل رتّل ترتيلا، وقتّل تقتيلا، وهنا جاء ل (تفعّل) وقياسه أن يجيء على وزن التفعل وهو التبتل، إلا أنهم قد يجرون المصدر على غير فعله، لمناسبة بينهما.
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ رَبُّ: يقرأ بالجر على البدل من رَبِّكَ وبالرفع على تقدير مبتدأ محذوف تقديره: هو رب المشرق.
البلاغة:
انْقُصْ.. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ بينهما طباق، وكذا بين النَّهارِ واللَّيْلَ وبين الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ.
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا فيهما تأكيد الفعل بالمصدر.
المفردات اللغوية:
الْمُزَّمِّلُ المتزمل: المتلفف بثيابه. قُمِ اللَّيْلَ أي قم إلى الصلاة، أو داوم عليها.
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أي انقص من النصف قليلا إلى الثلث، والمراد به التخيير بين قيام النصف والناقص منه والزائد عليه. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ إلى الثلثين، وأَوْ للتخيير. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا اقرأه على تؤده وتثبت في تلاوته، مع تبيين الحروف بحيث يتمكن السامع من عدّها.
قَوْلًا ثَقِيلًا قرآنا شاقا شديدا أو مهيبا، لما فيه من التكاليف الشاقة، لكن مشقة معتادة مألوفة، لا مشقة زائدة غير معتادة. ناشِئَةَ اللَّيْلِ ما ينشأ فيه ويحدث ويتجدد، وهو القيام إلى الصلاة بعد النوم. أَشَدُّ وَطْئاً أي مواطأة وموافقة، يوافق السمع فيها القلب على تفهم القرآن. وَأَقْوَمُ قِيلًا أبين وأسد مقالا، أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات. سَبْحاً طَوِيلًا تقلبا في مهامك واشتغالا بها، فعليك بالتهجد لأن مناجاة الحق تستدعي فراغا، ولا تفرغ في أثناء النهار لتلاوة القرآن والعبادة. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي دم على ذكره ليلا ونهارا، وذكر الله يتناول كل ما يذكر به من تسبيح وتهليل وتمجيد وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم. وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي انقطع إلى الله بالعبادة، وجرّد نفسك عما سواه. فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا فوض كل أمورك إليه. وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ اصبر على أذى كفار مكة. وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بأن بجانبهم وتداريهم ولا تعاتبهم وفوض أمرهم إلى الله، فالهجر الجميل: هو ما لا عتاب معه.
سبب النزول: نزول الآية (١- ٢) :
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا: أخرج الحاكم عن عائشة قالت: لما أنزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا قاموا سنة حتى ورمت أقدامهم، فأنزلت: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ. وأخرج ابن جرير مثله عن ابن عباس غيره.
وقال ابن عباس: كان هذا في ابتداء الوحي إليه، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه، أخذته الرّعدة، فأتى أهله، فقال: «زمّلوني زمّلوني».
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي، فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت (فزعت) منه رعبا، فرجعت فقلت: دثّروني دثّروني».
وفي رواية: «فجئت أهلي، فقلت: زمّلوني زمّلوني»، فأنزل الله:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وقال جمهور العلماء: وعلى إثرها نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ.
وعلى هذا يكون سبب النزول هو ما عراه صلّى الله عليه وسلّم من الرعب والفزع عند رؤية الملك، وتكون حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها.
وقيل: إن تزمله صلّى الله عليه وسلّم كان لأسفه وحزنه، لمّا بلغه ما كان من المشركين وما دبروه من القول السيء يدفعون به دعوته، فقد أخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش في دار الندوة، فقالوا: سمّوا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه، فقالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر، قالوا: يفرق بين الحبيب وحبيبه، فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
التفسير والبيان:
خاطب الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالآيات التالية حينما كان يتزمل بثيابه أول ما جاءه جبريل بالوحي خوفا منه، فإنه لما سمع صوت الملك، ونظر إليه أخذته الرعدة، فأتى أهله،
وقال: «زمنوني، دثّروني»
ثم بعد ذلك خوطب بالنبوة والرسالة وأنس بجبريل.
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي يا أيها النبي المتزمل المتلفف بثيابه انقض لصلاة الليل وهي صلاة التهجد بمقدار نصف الليل، بزيادة قليلة أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك. وهذا تخيير بين الثلث والنصف والثلثين. والليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وفيه دليل على أن أكثر المقادير الواجبة كان الثلثين.
أخرج أحمد ومسلم عن سعد بن هشام قال: «قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: ألست تقرأ هذه السورة: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟
قلت: بلى. قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه حولا، حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خلقتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضه».
وبعد الأمر بقيام الليل أمره تعالى بترتيل القرآن قائلا:
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أي اقرأ القرآن على تمهل، مع تبيين الحروف، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. وقوله: تَرْتِيلًا تأكيد في الإيجاب، وأنه لا بد للقارئ منه، ليستحضر المعاني. والترتيل: هو أن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع. وكذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يقرأ، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقرأ السورة، فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كانت مدا، ثم قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم.
ووردت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة، منها
ما رواه الحاكم وغيره عن البراء: «زيّنوا القرآن بأصواتكم»
وحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»
وحديث البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى «لقد أعطيت هذا مزمارا من مزامير آل داود»
يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي لحبّرته لك تحبيرا.
وروى البغوي عن ابن مسعود قال: لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذّوه (لا تسرعوا به) هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة. وروى العسكري في كتابه المواعظ عن علي كرم الله وجهه مثل هذه العبارة. وسئلت عائشة عن قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها «١».
ثم نبّه الله تعالى إلى عظمة القرآن وما جاء فيه من تكاليف لتأكيد الأمر بالترتيل، فقال:
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أي إننا سنوحي إليك القرآن وسننزله عليك، وفيه التكاليف الشاقة على البشر، والأوامر والنواهي الصعبة على النفس، من الفرائض والحدود، والحلال والحرام، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزيّنة بالتوحيد. وقد يراد أنه ثقيل في الوحي،
ففي الموطأ والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عائشة أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول»،
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقا.
ثم أبان الله تعالى علة الأمر بقيام الليل (التهجد) فقال:
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا أي إن قيام الليل، وهو الذي يقال له: ناشئة إذا كان بعد نوم، أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص وتوافق القلب واللسان، فذلك يتجلى في هدوء الليل أكثر من أي وقت آخر، وهو أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها، وأسدّ مقالا وأثبت قراءة، لحضور القلب فيها وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب لأن الأصوات فيها هادئة، والدنيا ساكنة، أما النهار فهو وقت الانشغال بالأعمال، كما قال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي إن لك في وقت النهار تقلبا وتصرفا في حوائجك ومصالح الحياة، فلا تتفرغ فيه للعبادة، فصل بالليل.
ولكن لا ينبغي الانشغال عن ذكر الله بأي حال نهارا أو ليلا، فقال تعالى:
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي أكثر من ذكر الله، وداوم عليه إن استطعت ليلا ونهارا، وأخلص العبادة لربك، وانقطع إلى الله انقطاعا بالاشتغال بعبادته، والتماس ما عنده إذا فرغت من أشغالك وحوائجك الدنيوية، كما قال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الانشراح ٩٤/ ٧- ٨] أي إذا فرغت من أشغالك فأتعب نفسك في طاعة ربك وعبادته، لتكون فارغ البال، واجعل رغبتك إلى الله وحده.
ثم أبان الله تعالى سبب الأمر بالعبادة، والباعث على التبتل، فقال:
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي إن ربك الذي تذكره، وتتفرغ لعبادته هو الجدير بالعبادة، فهو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا هو، وكما أفردته بالعبادة، فأفرده بالتوكل، واجعله وكيلا لك في جميع الأمور، كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
هود ١١/ ١٢٣ وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة ١/ ٥]. وقوله:
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إشارة إلى كماله تعالى في ذاته، والكمال محبوب لذاته. وفيه دليل على أن من لم يفوض كل الأمور إلى ربه لم يكن راضيا بألوهيته، ولا معترفا بربوبيته. وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الدين.
ثم أمره ربه بالصبر على الأذى فقال:
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أي اصبر أيها الرسول على أذى قومك وما ينالك من السب والاستهزاء، ولا تجزع من ذلك، ولا تتعرض لهم ولا تعاتبهم ودارهم، كما جاء في آيات أخرى منها: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا [النجم ٥٣/ ٢٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- فرضية التهجد:
يدل ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وأمره بقيام الليل، ووصفه بالتزمل أن التهجد كان فريضة عليه، وأن فرضيته كانت خاصة به. وهذا رأي أكثر العلماء لأن الندب والحضّ لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء ١٧/ ٧٩] فإن قوله: نافِلَةً لَكَ بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم. وليس معنى النافلة في هذه الآية: التطوع، فإنه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام، بل معناه أنه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة.
وقيل: كان التهجد فرضا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته، ثم نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.
وقيل: إن التهجد كان نافلة، لا مفروضا، لقوله تعالى: نافِلَةً لَكَ ولأن حمل الأمر: قُمِ اللَّيْلَ على الندب أولى لأنه متيقن، فإن أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب، وتارة تفيد الندب، فلا بد من دليل آخر على الوجوب كالتوعد على الترك ونحوه، وليس هذا متوفرا هنا. ويرد عليه بأن المختار في علم الأصول في الأوامر حملها على الوجوب أو الإلزام إلا بقرينة تصرفه عن ذلك إلى الندب أو الإباحة. ولأنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وخيره بين النصف أو أقل منه أو أكثر، ومثل هذا لا يكون في الواجبات. ويرد عليه بأنه قد يكون الواجب مخيرا بين أمور ثلاثة كالكفارة.
والراجح هو أن التهجد نسخ عن الأمة وحدها، وبقي وجوبه على النبي صلّى الله عليه وسلّم، بدليل آية الإسراء: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ. وربما كان العمل بحديث سعد بن هشام بن عامر السابق صحيحا: وهو نسخ الوجوب مطلقا وصيرورة التهجد (أو قيام الليل) تطوعا، تخفيفا وتيسيرا، والناسخ هو الصلوات الخمس، وأما آخر سورة المزمل الذي نزل بعد أولها بنحو عام كما في بعض الآثار، فقد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها، دون نسخ أصل وجوب التهجد.
والمقدار المذكور في أول السورة: هو نصف الليل أو أنقص منه قليلا إلى الثلث، أو الزيادة عليه إلى الثلثين.
٢- وجوب ترتيل القرآن:
لا خلاف في أنه يقرأ القرآن بترتيل على مهل، وتبيين حروف، وتحسين مخارج، وإظهار مقاطع، مع تدبر المعاني. والترتيل:
التنضيد والتنسيق وحسن النظام.
والخلاف في التغني به وتلحينه فقال بكراهته جماعة منهم الإمامان مالك وأحمد، وأجازه جماعة آخرون منهم الإمامان أبو حنيفة والشافعي، ولكل فريق أدلة «١».
استدل المجيزون بما يأتي.
أولا-
ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم».
ثانيا-
ما أخرجه مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن».
ثالثا-
ما رواه البخاري عن عبد الله بن مغفّل قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته، فرجّع في قراءته.
رابعا- ما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استمع لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك قال: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سمعه: «إن هذا أعطي مزمارا من مزامير داود».
خامسا-
ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أذن الله لشيء كإذنه- استماعه «٢» - لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن».
سادسا- إن الترنم بالقرآن من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء، وهو أوقع في النفس وأبلغ في التأثير.
واحتج المانعون بما يأتي:
أولا-
ما رواه الترمذي في نوادر الأصول عن حذيفة بن اليمان عن
(٢) أذن له: استمع، وباب طرب.
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق، فإنه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم»
فهذا نعي على الترجيع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح.
ثانيا-
ما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر أشراط الساعة، وذكر أشياء، منها: أن يتخذ القرآن مزامير، وقال: «يقدّمون أحدهم، ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ليغنيهم غناء».
ثالثا-
أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذن يطرب، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا، وإلا فلا تؤذن»
فقد كره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطرب المؤذن في أذانه، مما يدل على كراهة التطريب في القراءة بالأولى.
رابعا- أنكر أنس بن مالك على زياد النميري حينما قرأ ورفع صوته وطرب، وقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون.
خامسا- إن التغني والتطريب يؤدي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه لأنه يقتضي مد ما ليس بممدود، وهمز ما ليس بمهموز، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة، وهو لا يجوز. كما أن التلحين يلهي النفس بنغمات الصوت، ويصرفها عن تدبر معاني القرآن.
والحق التوسط في الأمر، فإذا كان التلحين والتطريب يغير من ألفاظ القرآن، ويخل بطرق الأداء، أو كان تكلّفا وتصنعا يشبه توقيعات الموسيقى، فهو ممنوع وحرام. أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا يؤدي إلى اتعاظ القارئ، وكمال تأثره بمعاني القرآن، فلا دليل على المنع، بل الأدلة تجيزه.
٣- ثقل القرآن والوحي:
القرآن ثقيل شديد بما اشتمل عليه من تكاليف شاقة على النفس، وفرائض وحدود صعبة على الإنسان. والوحي أيضا ذو تأثير كبير على القلب والنفس، كما جاء في خبر عائشة رضي الله عنها المتقدم، وأخرج أحمد وابن جرير وغيرهما عن عائشة أيضا: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوحي إليه، وهو على ناقته، وضعت جرانها- يعني صدرها- على الأرض، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه» أي الوحي.
٤- ناشئة الليل:
إن أوقات الليل وساعاته أو العبادة الناشئة في الليل، أو النفس الناشئة في الليل الناقضة من مضاجعها للعبادة أشد وطأ، أي أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب واللسان، وأكثر مصادفة للخشوع والإخلاص وأسدّ مقالا وأثبت قراءة، بسبب سكون الليل، وراحة النفس من الضوضاء والعناء، والبعد عن الرياء والمباهاة، أو حبّ اطلاع الآخرين على الطاعة والعبادة، وشدة الاستقامة والاستمرار على الصواب لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلّي ما يقرؤه.
٥- مشاغل النهار:
الإنسان مشغول عادة بحاجاته ومصالحه المعيشية في النهار، فلا يتفرغ عادة للعبادة، وإنما الفراغ موجود في الليل.
٦- ذكر الله والتبتل:
المؤمن مأمور بالاستكثار من ذكر الله وأسمائه الحسنى، وبالمداومة على التسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن، دون أن يشغله شاغل في الليل والنهار، وهو مطالب أيضا بأن يجعل همه كله في إرضاء ربه، وتجريد نفسه عن التعلق بغيره، والاستغراق في مراقبته في جميع أعماله.
ويكون أشرف الأعمال عند قيام الليل: ذكر اسم الرب، والتبتل إليه، وهو الانقطاع إلى الله بالكلية.
وليس المراد الانقطاع عن أعمال النهار، والعكوف على الذكر والعبادة، فهذا يتنافى مع قوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا بل المراد التنبيه إلى أنه ينبغي ألا يشغله السّبح في أعمال النهار عن ذكر الله تعالى.
والتبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل، أي انقطاع الإنسان بعبادته إلى ربه، دون أن يشرك به غيره، وليس المعنى الانقطاع عن مشاغل الحياة لكسب المعيشة من طرق عزيزة كريمة، لا يكون فيها الإنسان عالة على غيره.
فقد ورد في الحديث النهي عن التبتل بمعنى الانقطاع عن الناس والجماعات.
وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة ٥/ ٨٧] وهذا يدل على كراهة من تبتّل، وانقطع عن الناس، وسلك سبيل الرهبانية.
والخلاصة: التبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة كما قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البيّنة ٩٨/ ٥]. والتبتل المنهي عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع.
٧- إفراد الله بالتوكل عليه:
كما أن المؤمن مطالب بإفراد الله بالعبادة، مطالب أيضا بإفراده بالتوكل عليه، فمن علم أن الله رب المشارق والمغارب، انقطع بعمله وأمله إليه، وفوّض جميع أموره إليه، فهو القائم بأمور العباد، الكفيل بما وعد.
٨- الصبر على الأذى في سبيل الدعوة:
أمر الله نبيه بأن يصبر من أجل دعوته على الأذى والسب والاستهزاء من سفهاء قومه الذين كذبوه، وبألا يتعرض لهم، ولا يعاتبهم ويداريهم. قال قتادة وغيره: وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك.
وأرى أن هذا من منهج الدعوة الدائم وسياستها الثابتة التي يحتاج إليها الدعاة في