
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: ٢٩] الْآيَةَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ، وَهُوَ كَثْرَةُ الشُّهُبِ فِي السَّمَاءِ وَالرَّمْيُ بِهَا، هَالَ ذَلِكَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَانْزَعَجُوا لَهُ وَارْتَاعُوا لِذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لِخَرَابِ الْعَالَمِ، كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ أَوْ دِينٌ لِلَّهِ ظَاهِرٌ، فَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اتَّخَذَتِ الْمَقَاعِدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، يَسْتَمِعُونَ مَا يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ مِنْ أَمْرٍ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا رسولا رُجِمُوا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ الطَّائِفِ فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ لَمَّا رَأَوْا مِنْ شِدَّةِ النَّارِ فِي السَّمَاءِ وَاخْتِلَافِ الشُّهُبِ، فَجَعَلُوا يُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ وَيُسَيِّبُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عبد يا ليل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ: وَيْحَكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الطَّائِفِ أَمْسِكُوا عَنْ أَمْوَالِكُمْ وَانْظُرُوا إِلَى مَعَالِمِ النُّجُومِ، فَإِنْ رَأَيْتُمُوهَا مُسْتَقِرَّةً فِي أَمْكِنَتِهَا فَلَمْ يَهْلِكْ أَهْلُ السَّمَاءِ، إِنَّمَا هَذَا مِنْ أَجْلِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وسلّم، وإن نظرتم فلم تَرَوْهَا فَقَدْ هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ.
فَنَظَرُوا فَرَأَوْهَا فكفوا عن أقوالهم وَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَتَوْا إِبْلِيسَ فَحَدَّثُوهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ أَشُمُّهَا، فَأَتَوْهُ فَشَمَّ فَقَالَ:
صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ، فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نُصَيْبِينَ فَقَدِمُوا مَكَّةَ فَوَجَدُوا نبي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ «١» تُصِيبُهُ، ثُمَّ أَسْلَمُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُمْ عَلَى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ مُسْتَقْصًى فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ مِنْ (كِتَابِ السِّيرَةِ) الْمُطَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١١ الى ١٧]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥)
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧)
يقول تعالى مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا مُخْبِرِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أَيْ غَيْرُ ذَلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَيْ طَرَائِقَ مُتَعَدِّدَةً مُخْتَلِفَةً وَآرَاءَ مُتَفَرِّقَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَيْ مِنَّا الْمُؤْمِنُ وَمِنَّا الْكَافِرُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَادُ فِي أَمَالِيهِ: حَدَّثَنَا أَسْلَمُ بْنُ سَهْلٍ بَحْشَلُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بن سليمان وهو أَبُو الشَّعْثَاءِ الْحَضْرَمِيُّ شَيْخُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ تَرَوَّحَ إِلَيْنَا جِنِّيٌّ فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالَ الْأُرْزَ، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ بِهِ فَجَعَلْتُ أَرَى اللُّقَمَ تُرْفَعُ وَلَا أَرَى أَحَدًا، فَقُلْتُ فِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي فِينَا؟ قَالَ: نَعَمْ فقلت فما الرافضة فيكم؟

قَالَ: شَرُّنَا. عَرَضْتُ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَى شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ فَقَالَ هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الْأَعْمَشِ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَحْمَدَ الدِّمَشْقِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ بَعْضَ الْجَنِّ وَأَنَا فِي مَنَزَلٍ لِي بالليل ينشد: [الطويل]
قُلُوبٌ بَرَاهَا الْحُبُّ حَتَّى تَعَلَّقَتْ | مَذَاهِبُهَا فِي كُلِّ غَرْبٍ وَشَارِقِ |
تَهِيمُ بِحُبِّ اللَّهِ وَاللَّهُ ربها | معلّقة بالله دون الخلائق |
أَيْ وَقُودًا تُسَعَّرُ بهم.
وقوله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ: [أَحَدُهُمَا] وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامَ الْقَاسِطُونَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَعَدَلُوا إِلَيْهَا وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهَا لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً أَيْ كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ سِعَةُ الرِّزْقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: ٦٦] وكقوله تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: ٩٦] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أَيْ لِنَخْتَبِرَهُمْ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لِنَفْتِنَهُمْ لِنَبْتَلِيَهُمْ مَنْ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْهِدَايَةِ مِمَّنْ يَرْتَدُّ إِلَى الْغَوَايَةِ.
[ذِكْرُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ] قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يَعْنِي بِالِاسْتِقَامَةِ الطَّاعَةَ «١»، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ قَالَ: الْإِسْلَامُ وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يَقُولُ: لَوْ آمَنُوا كُلُّهُمْ لَأَوْسَعْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ أَيْ: طَرِيقَةِ الْحَقِّ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أَيْ لِنَبْتَلِيَهُمْ بِهِ.
وقال مقاتل: نزلت فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَ مُنِعُوا الْمَطَرَ سَبْعَ سنين.