آيات من القرآن الكريم

مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا
ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ

نَعَمْ. فصُوِّر لَهُمْ مَثَلُهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ. فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ قَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَجْعَلَ فِي مَنْزِلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَيَكُونَ (١) لَهُ فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَثَّلَ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ، قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ، قَالَ وَتَنَاسَلُوا ودَرَس أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ، حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا عُبِدَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ: الصَّنَمُ الَّذِي سَمَّوْهُ وَدّا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ يَعْنِي: الْأَصْنَامَ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَضَلُّوا بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، فَإِنَّهُ اسْتَمَرَّتْ عِبَادَتُهَا فِي الْقُرُونِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَسَائِرِ صُنُوفِ بَنِي آدَمَ. وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي دُعَائِهِ: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٥، ٣٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا﴾ دُعَاءٌ مِنْهُ عَلَى قَوْمِهِ لِتَمَرُّدِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، كَمَا دَعَا مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَثَلِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يُونُسَ: ٨٨] وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنَ النَّبِيَّيْنِ فِي قَوْمِهِ، وَأَغْرَقَ أُمَّتَهُ بِتَكْذِيبِهِمْ لِمَا جَاءَهُمْ بِهِ.
﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا (٢٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿مِمَّا خَطايَاهُمْ﴾ وَقُرِئَ: ﴿خَطِيئَاتِهِمْ﴾ ﴿أُغْرِقُوا﴾ أَيْ: مِنْ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ أَيْ: نُقِلُوا مِنْ تَيَّارِ الْبِحَارِ (٢) إِلَى حَرَارَةِ النَّارِ، ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُعِينٌ وَلَا مُغيث وَلَا مُجير يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: ﴿قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ﴾ [هُودٍ: ٤٣].
﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ أَيْ: لَا تَتْرُكْ عَلَى [وَجْهِ] (٣) الْأَرْضِ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا تُومُريَّا (٤) وَهَذِهِ مِنْ صِيَغِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿دَيَّارًا﴾ وَاحِدًا. وَقَالَ السُّدِّي: الدَّيَّارُ: الَّذِي يَسْكُنُ الدَّارَ.
فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَأَهْلَكَ جَمِيعَ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ حَتَّى وَلَدَ نُوحٍ لِصُلْبِهِ الَّذِي اعْتَزَلَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: ٤٣].

(١) في م: "ليكون".
(٢) في م: "البحر".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) في م: "ولادومريا".

صفحة رقم 236

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُرِئَ (١) عَلَى يُونُسَ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي شَبيب بْنُ سَعْدٍ، عَنِ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا، لَرَحِمَ امْرَأَةً، لَمَّا رَأَتِ الْمَاءَ حَمَلَتْ وَلَدَهَا ثُمَّ صَعِدَتِ الْجَبَلَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ صَعِدَتْ (٢) بِهِ مَنْكِبَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ مَنْكِبَهَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَأْسَهَا رَفَعَتْ وَلَدَهَا بِيَدِهَا. فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمِ هَذِهِ الْمَرْأَةَ". (٣)
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَنَجَّى اللَّهُ أَصْحَابَ السَّفِينَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِحَمْلِهِمْ مَعَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ﴾ أَيْ: إِنَّكَ إِنْ أَبْقَيْتَ مِنْهُمْ أَحَدًا أَضَلُّوا عِبَادَكَ، أَيِ: الَّذِينَ تَخْلُقُهُمْ بَعْدَهُمْ ﴿وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ أَيْ: فَاجِرًا فِي الْأَعْمَالِ كَافِرَ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ لِخِبْرَتِهِ بِهِمْ وَمُكْثِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا.
ثُمَّ قَالَ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي: مَسْجِدِي، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ دَعَا لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَيْوَة، أَنْبَأَنَا سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ التُّجِيبِيّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -أَوْ: عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ:-أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، بِهِ (٤) ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ دُعَاءٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَذَلِكَ يَعُم الأحياءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ؛ وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ، اقْتِدَاءً بِنُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ، وَالْأَدْعِيَةِ [الْمَشْهُورَةِ] (٥) الْمَشْرُوعَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: إِلَّا هَلَاكًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا خَسَارًا، أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "نُوحٍ" [عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِلَّهِ الحمد والمنة] (٦).

(١) في هـ: "لما قرئ" والمثبت من م، أ.
(٢) في م: "فلما بلغ الماء رأسها صعدت".
(٣) وله شاهد من حديث عائشة رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٥٩١) والحاكم في المستدرك (٢/٣٤٢) من طريق سعيد بن أبي مريم، عن موسى بن يعقوب، عن فائد مولى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أخبريه أن رسول الله ﷺ قَالَ: "لَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لرحم أم الصبي" وذكره نَحْوِهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: "صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ" وتعقبه الذهبي بقوله: "إسناد مظلم، وموسى بن يعقوب المذكور في إسناده ليس بذاك".
(٤) المسند (٣/٣٨) وسنن أبي داود برقم (٤٨٣٢) وسنن الترمذي برقم (٢٣٩٥).
(٥) زيادة من م.
(٦) زيادة من أ.

صفحة رقم 237
تفسير القرآن العظيم
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي
تحقيق
سامي سلامة
الناشر
دار طيبة للنشر والتوزيع
سنة النشر
1420
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
8
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية