آيات من القرآن الكريم

وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا
ﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆ

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يَبْدَأُ بِدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، وَبَعْدَهَا بِدَلَائِلِ الْآفَاقِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِنْسَانِ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ بَدَأَ بِالْأَقْرَبِ، وَتَارَةً يَبْدَأُ بِدَلَائِلِ الْآفَاقِ، ثُمَّ بِدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ إِمَّا لِأَنَّ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَبْهَرُ وَأَعْظَمُ، فَوَقَعَتِ الْبِدَايَةُ بِهَا لِهَذَا السَّبَبِ، أَوْ لِأَجْلِ/ أَنَّ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ حَاضِرَةٌ، لَا حَاجَةَ بِالْعَاقِلِ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا، إِنَّمَا الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيهِ دَلَائِلُ الْآفَاقِ، لِأَنَّ الشُّبَهَ فِيهَا أَكْثَرُ، فَلَا جَرَمَ تَقَعُ البداية بها، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً يَقْتَضِي كَوْنَ بَعْضِهَا مُنْطَبِقًا عَلَى الْبَعْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهَا فُرَجٌ، فَالْمَلَائِكَةُ كَيْفَ يَسْكُنُونَ فِيهَا؟ الْجَوَابُ: الْمَلَائِكَةُ أَرْوَاحٌ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهَا طِبَاقًا كَوْنُهَا مُتَوَازِيَةً لَا أَنَّهَا مُتَمَاسَّةٌ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَالْقَمَرُ لَيْسَ فِيهَا بِأَسْرِهَا بَلْ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟
وَالْجَوَابُ: هَذَا كَمَا يُقَالُ السُّلْطَانُ فِي الْعِرَاقِ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَاتَهُ حَاصِلَةٌ فِي جَمِيعِ أَحْيَازِ الْعِرَاقِ بَلْ إِنَّ ذَاتَهُ فِي حَيِّزٍ مِنْ جُمْلَةِ أَحْيَازِ العراق فكذا هاهنا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: السِّرَاجُ ضَوْءُهُ عَرَضِيٌّ وَضَوْءُ الْقَمَرِ عَرَضِيٌّ مُتَبَدِّلٌ فَتَشْبِيهُ الْقَمَرِ بِالسِّرَاجِ أَوْلَى مِنْ تَشْبِيهِ الشَّمْسِ بِهِ الْجَوَابُ: اللَّيْلُ عِبَارَةٌ عَنْ ظِلِّ الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِزَوَالِ ظِلِّ الْأَرْضِ كَانَتْ شَبِيهَةً بِالسِّرَاجِ، وَأَيْضًا فَالسِّرَاجُ لَهُ ضَوْءٌ وَالضَّوْءُ أَقْوَى مِنَ النُّورِ فَجَعَلَ الْأَضْعَفَ لِلْقَمَرِ وَالْأَقْوَى لِلشَّمْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس: ٥].
[سورة نوح (٧١) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨)
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: عَلَى التَّوْحِيدِ قوله تعالى:
واعلم أنه تعالى رجع هاهنا إِلَى دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ وَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح: ١٤] فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ يَرُدُّهُمْ إِلَيْهَا ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ أَنْبَتْ أَبَاكُمْ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩]. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْبَتَ الْكُلَّ مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْلُقُنَا مِنَ النُّطَفِ وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ النَّبَاتِ الْمُتَوَلِّدِ مِنَ الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: أَنْبَتَكُمْ إِنْبَاتًا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ قَالَ: أَنْبَتَكُمْ نَبَاتًا، وَالتَّقْدِيرُ أَنْبَتَكُمْ فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أنبتكم إنباتا كان المعنى أنبتكم إنباتا عجيبا غَرِيبًا، وَلَمَّا قَالَ:
أَنْبَتْكُمْ نَبَاتًا كَانَ الْمَعْنَى أَنْبَتَكُمْ فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا عَجِيبًا، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِفَةُ اللَّهِ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ لَنَا، فَلَا نَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْبَاتَ إِنْبَاتٌ عَجِيبٌ كَامِلٌ إِلَّا/ بِوَاسِطَةِ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامُ

صفحة رقم 654
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية