آيات من القرآن الكريم

وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا
ﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ

مذكور في كتبهم وفي البحر حكاية قول إنها في الخامسة ولا يكاد يصح ومما يضحك الصبيان فضلا عن فحول ذوي العرفان ما حكي فيه أيضا أنها في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة وذهب متأخرو أهل الهيئة إلى أنها مركز للسيارات وعدوا الأرض منها ولم يعدوا القمر لدورانه على الأرض وهو بينها وبين الشمس عندهم وسنعمل إن شاء الله تعالى رسالة في تحقيق الحق والحق عند ذويه أظهر من الشمس.
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أي أنشاكم منها فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكون من الأرض لكونه محسوسا وقد تكرر إحساسه وهم وإن لم ينكروا الحدوث جعلوا بإنكار البعث كمن أنكره ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية، ومِنَ ابتدائية داخلة على المبدأ البعيد ونَباتاً قال أبو حيان وجماعة مصدر مؤكد لأنبتكم بحذف الزوائد والأصل إنباتا أو نصب بإضمار فعل أن فنبتم نباتا وفي الكشف أن الإنبات والنبات من الفعل والانفعال وهما واحد في الحقيقة والاختلاف بالنسبة إلى القيام بالفاعل والقابل فلا حاجة إلى تضمين فعل آخر ولا تقديره ثم إن الإنبات إن حمل على معناه الوضعي فلا احتياج إلى التقدير إذ هو في نفسه متضمن للنبات كما أشرنا إليه فيكون نباتا نصبا بالتكتم لهذا التضمن وإن حمل على المتعارف من إطلاقه على مقدمة الإنبات من إخفاء الحب في الأرض مثلا فالوجه الحمل على أن المراد أَنْبَتَكُمْ فنبتّم نَباتاً ليكون فيه إشعار بنحو النكتة التي جرت في قوله تعالى فَانْبَجَسَتْ [الأعراف: ١٦٠] من الدلالة على القدرة وسرعة نفاذ حكمها. وجوز أن يكون الأصل أنبتكم من الأرض إنباتا فنبتم نباتا فحذف من الجملة الأولى المصدر ومن الثانية الفعل اكتفاء بما ذكر في الأخرى على أنه من الاحتباك. وقال القاضي:
اختصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية وفيه على ما قال الخفاجي الاشعار المذكورة فتأمل ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أي في الأرض بالدفن عند موتكم وَيُخْرِجُكُمْ منها عند البعث والحشر إِخْراجاً محققا لا ريب فيه وعطف يُعِيدُكُمْ بثم لما بين الإنشاء والإعادة من الزمان المتراخي الواقع فيه التكليف الذي به استحقوا الجزاء بعد الإعادة، وعطف يُخْرِجُكُمْ بالواو دون ثم مع أن الإخراج كذلك لأن أحوال البرزخ والآخرة في حكم شيء واحد فكأنه قضية واحدة ولا يجوز أن يكون بعضها محقق الوقوع دون بعض بل لا بد أن تقع الجملة لا محالة وإن تأخرت عن الإبداء وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً تتقلبون عليها كالبساط وليس فيه دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كرية كما في البحر وغيره لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحا، ثم

صفحة رقم 84

إن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بأمر لازم في الشريعة لكن كريتها كالأمر اليقيني وإن لم تكن حقيقة ووجه توسيط لَكُمُ بين الجعل ومفعوله الصريح يعلم مما مر غير مرة لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا طرقا فِجاجاً واسعات جمع فج فهو صفة مشبهة نعت لسبلا. وقال غير واحد: هو اسم للطريق الواسعة وقيل: اسم للمسلك بين الجبلين فيكون بدلا أو عطف بيان و (من) متعلقة بما قبلها لتضمنه معنى الاتخاذ وإلّا فهو يتعدى بفي أو بمضمر هو حال من سُبُلًا أي سبلا كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها قالَ نُوحٌ أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه عزّ وجلّ أي قال عليه السلام مناجيا له تعالى شاكيا إليه عزّ وجلّ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أي داموا على عصياني فيما أمرتهم به مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة والتذكير وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أي واستمروا على اتباع رؤسائهم الذين أبطرتهم أموالهم وغرتهم أولادهم وصار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة فصاروا أسوة لهم في الخسار والظاهر أن اتباع عامتهم وسفلتهم لأولئك الرؤساء وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد لا لما شاهدوا فيهم من شبهة مصححة للاتباع في الجملة. وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير أبو عمرو ونافع في رواية خارجة عنه «وولده» بضم الواو وسكون اللام فقيل هو مفرد لغة في ولد بفتحهما كالحزن والحزن وقيل جمع له كالأسد والأسد وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة والدة بكسرها وولد بالضم انتهى. وقرأ بالكسر والسكون الحسن أيضا والجحدري وقتادة وذر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية وَمَكَرُوا عطف على صلة مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار لفظها وكان فيه إشارة إلى اجتماعهم في المكر ليكون أشد وأعظم. وقيل عطف على عَصَوْنِي والأول أنسب لدلالته على أن المتبوعين ضموا إلى الضلال الإضلال وهو الأوفق بالسياق فإن المتبادر أن ما بعده من صفة الرؤساء أيضا واعتبار ذلك العطف على أن المعنى مكر بعضهم ببعض وقال بعضهم لبعض خلاف المتبادر مَكْراً كُبَّاراً أي كبيرا في الغاية فهو من صيغ المبالغة قال عيسى بن عمر: هي لغة يمانية وعليها قول الشاعر:

بيضاء تصطاد القلوب وتستبي بالحسن قلب المسلم القراء
وقوله:
والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء
وقد سمع بعض الأعراب الجفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية فقال: ما أفصح ربك يا محمد وإذا اعتبر التنوين في مكرا للتفخيم زاد أمر المبالغة في مكرهم أي كبيرا في الغاية وذلك احتيالهم في الدين وصدهم للناس عنه وإغراءهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام. وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال «كبارا» بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة أيضا إلّا أنها دون المبالغة في المشدد ومثل كبار في ذلك حسان وطوال وعجاب وجمال إلى ألفاظ كثيرة وقرأ زيد بن علي وابن محيصن فيما روى عنه وهب بن واضح «كبارا» بكسر الكاف وفتح الباء قال ابن الأنباري هو جمع كبير كأنه جعل مَكْراً مكان ذنوب أو أفاعيل يعني فلذلك وصف بالجمع وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي لا تتركوا عبادتها على الإطلاق إلى عبادة رب نوح عليه السلام وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً أي ولا تتركوا عبادة هؤلاء خصوها بالذكر مع اندراجها فيما سبق لأنها كانت أكبر أصنامهم ومعبوداتهم الباطلة وأعظمها عندهم وإن كانت متفاوتة في العظم

صفحة رقم 85

فيما بينها بزعمهم كما يومىء إليه إعادة لا مع بعض وتركها مع آخر، وقيل أفرد يعوق ونسر عن النفي لكثرة تكرار لا وعدم اللبس. وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب. أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام في العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، وكانت هذه الأسماء أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إليهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها انصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ودرس العلم عبدت وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: كان لآدم عليه السلام خمسة بنين ود وسواع إلخ فكانوا عبادا فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا فجاءهم الشيطان فقال: حزنتم على صاحبكم هذا؟ قالوا: نعم، قال: هل لكم أن أصور لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئا نصلي عليه قال: فأجعله في مؤخر المسجد، قالوا: نعم فصوره لهم حتى مات خمستهم فصور صورهم في مؤخر المسجد فنقصت الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء فبعث الله تعالى نوحا عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك عبادتها فقالوا ما قالوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أن ودا كان أكبرهم وأبرهم وكانوا كلهم أبناء آدم عليه السلام، وروي أن ودا أول معبود من دون الله سبحانه وتعالى. أخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر رضي الله تعالى عنه يزيد بن المهلب فقال: أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله تعالى ثم ذكر ودا وقال: كان رجلا مسلما وكان محببا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه فلما رأى إبليس جزعهم تشبه في صورة إنسان ثم قال: أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا: نعم، فصور لهم مثله فوضعوه في ناديهم فجعلوا يذكرونه به فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجل منكم تمثالا مثله فيكون في بيته فيذكر به؟ فقالوا: نعم، ففعل فأقبلوا يذكرونه به وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدون من دون الله تعالى فكان أول من عبد غير الله تعالى في الأرض ودا وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي عثمان النهدي أنه قال: رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد ويسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك فإذا نزلوا وقالوا قد رضي لكم المنزل فينزلون حوله ويضربون عليه بناء (١) وقيل يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام وانتقالها إلى العرب فالظاهر أنه لم يبق إلا الأسماء فاتخذت العرب أصناما وسموها بها وقالوا أيضا
عبد ود وعبد يغوث يعنون أصنامهم. وما رآه أبو عثمان منها مسمى باسم ما سلف ويحكى أن ودا كان على صورة رجل وسواعا كان على صورة امرأة ويغوث كان على صورة أسد ويعوق كان على صورة فرس ونسرا كان على صورة نسر وهو مناف لما تقدم أنهم كانوا على صور أناس صالحين وهو الأصح. وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهم «ودّا» بضم الواو وقرأ الأشهب العقيلي «ولا يغوثا ويعوقا» بتنوينهما قال صاحب اللوامح جعلهما فعولا فلذلك صرفهما وهما في قراءة الجمهور صفتان من الغوث والعوق يفعل منهما وهما معرفتان فلذلك منعا الصرف لاجتماع الثقلين اللذين هما التعريف ومشابهة

(١) (قوله وقيل يبعد إلخ) قد أخرج الإفرنج في حدود الألف والمائتين والستين أصناما وتماثيل من أرض الموصل كانت منذ نحو من ثلاثة آلاف سنة فلا تغفل اهـ منه.

صفحة رقم 86

الفعل المستقبل وتعقبه أبو حيان فقال هذا تخبيط أما أولا فلا يمكن أن يكونا فعولا لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق وأما ثانيا فليسا بصفتين لأن يفعلا لم يجىء اسما ولا صفة وإنما امتنعا من الصرف للعلمية ووزن الفعل إن كانا عربيين وللعلمية والعجمة إن كانا عجميين. وقال ابن عطية: قرأ الأعمش «ولا يغوثا ويعوقا» بالصرف وهو وهم لأن التعريف لازم وكذا وزن الفعل وأنت تعلم أن الأعمش لم ينفرد بذلك وليس بوهم فقد خرجوه على أحد وجهين أحدهما أن الصرف للتناسب كما قالوا في سلاسلا وأغلالا وهو نوع من المشاكلة ومعدود من المحسنات وثانيهما أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب وذلك لغة حكاها الكسائي وغيره لكن يرد على هذا أنها لغة غير فصيحة لا ينبغي التخريج عليها وَقَدْ أَضَلُّوا أي الرؤساء كَثِيراً خلقا كثيرا أي قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام فهم ليسوا بأول من أضلوهم ويشعر بذلك المضي والاقتران بقد حيث أشعر ذلك بأن الإضلال استمر منهم إلى زمن الإخبار بإضلال الطائفة الأخيرة، وجوز أن يراد بالكثير هؤلاء الموصين، وكان الظاهر وقد أضل الرؤساء إياهم أي الموصين المخاطبين بقوله لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ فوضع كثيرا موضع ذلك على سبيل التجريد وقال الحسن وقد أضلوا أي الأصنام فهو كقوله تعالى رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: ٣٦] وضمير العقلاء لتنزيلها منزلتهم عندهم وعلى زعمهم ويحسنه على ما في البحر عود الضمير على أقرب مذكور ولا يخفى أن عوده على الرؤساء أظهر إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن والجملة قيل حالية أو معطوفة على ما قبلها وقوله تعالى وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا قيل عطف على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد قالَ والواو النائبة عنه ومعناه قال رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وقال لا تَزِدِ إلخ أي قال هذين القولين على أن الواو من كلام الله تعالى لأنها داخلة في الحكاية وما بعدها هو المحكي وإليه ذهب الزمخشري وإنما ارتكب ذلك فرارا من عطف الإنشاء على الخبر. وقيل عطف عليه والواو من المحكي والتناسب إنشائية وخبرية غير لازم في العطف كما قاله أبو حيان وغيره وفيه خلاف وفي الكشف لك أن تجعله من باب وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: ٤٦] أي فاخذلهم ولا تزدهم وفي العدول إلى الظَّالِمِينَ إشعار باستحقاقهم الدعاء عليهم وإبداء لعذره عليه السلام وتحذير ولطف لغيرهم، وفيه أنه بعض ما يتسبب من مساوئهم وهو معنى حسن فعنده العطف على محذوف إنشائي ولعل الأولى أن يقال إن العطف على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي والواو من المحكي والتناسب حاصل. وقال الخفاجي: الظاهر أن الغرض من قوله رَبِّ إِنَّهُمْ إلخ الشكاية وإبداء العجز واليأس منهم. فهو طلب للنصرة عليهم كقوله رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [الدخان: ٢٢] ولو لم يقصد ذلك تكرر مع ما مر منه عليه السلام فحينئذ يكون كناية عن قوله اخذلهم أو انصرني أو أظهر دينك أو نحوه فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء من غير تقدير ويشهد له أن الله تعالى سمى مثله دعاء حيث قال سبحانه فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدخان: ٢٢] فتدبر وهو حسن خال عن التكلف وارتكاب المختلف فيه إلّا أن في الشهادة دغدغة والمراد بالضلال المدعو بزيادته إما الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم فيكون ذلك دعاء عليهم بعدم تيسير أمورهم وإما الضلال بمعنى الهلاك كما في قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر: ٤٧] وهو مأخوذ من الضلال في الطريق لأن من ضل فيها هلك فيكون المعنى أهلكهم. وفسره ابن بحر بالعذاب وهو قريب مما ذكر وقيل هو على ظاهره أعني الضلال في الدين والدعاء بزيادته إنما كان بعد ما أوحى إليه عليه السلام أنه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن ومآله الدعاء عليهم بزيادة عذابهم ويحتاج إلى دليل وبما سمعت ينحل ما يقال إن طلب الضلال ونحوه إما غير جائز مطلقا أو إذا دعي به على وجه الاستحسان وبدونه وإن

صفحة رقم 87

كان جائزا لكنه غير ممدوح ولا مرضي فكيف دعا بذلك نوح عليه السلام عليهم مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من أجل خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا بالطوفان لا من أجل أمر آخر فمن تعليلية وما زائدة بين الجار والمجرور لتعظيم الخطايا في كونها من كبائر ما ينهى عنه ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة وجعل خَطِيئاتِهِمْ بدلا منها. وزعم ابن عطية أن (من) لابتداء الغاية وهو كما ترى. وقرأ أبو رجاء «خطياتهم» بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء. وقرأ الجحدري وعبيد عن أبي عمرو «خطيئتهم» على الإفراد مهموزا وقرأ الحسن وعيسى والأعرج بخلاف عنهم وأبو عمرو «خطاياهم» جمع تكسير وقرأ عبد الله «من خطيئاتهم ما أغرقوا» بزيادة «ما» بين خَطِيئاتِهِمْ وأُغْرِقُوا وخرج على أنها مصدرية أي بسبب خطيئاتهم إغراقهم وقرأ زيد بن علي «غرّقوا» بالتشديد بدل الهمزة وكلاهما للنقل فَأُدْخِلُوا ناراً هي نار البرزخ والمراد عذاب القبر ومن مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير مثلا أصابه ما يصيب المقبور من العذاب وقال الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب وأنشد ابن الأنباري:

الخلق مجتمع طورا ومفترق والحادثان فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت فالله يجمع بين الماء والنار
ويجوز أن يراد بها نار الآخرة والتعقيب على الأول ظاهر وهو على هذا لعدم الاعتداد بما بين الإغراق والإدخال فكأنه شبه تخلل ما لا يعتد به بعدم تخلل شيء أصلا، وجوز أن تكون فاء التعقيب مستعارة للسببية لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع وتنكير النار إما لتعظيمها وتهويلها أو لأنه عزّ وجلّ أعدّ لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار ولا يخفى ما في أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً من الحسن الذي لا يجارى ولله تعالى در التنزيل فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أي فلم يجد أحدهم واحدا من الأنصار وفيه تعريض لاتخاذهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى وبأنها غير قادرة على نصرهم وتهكم بهم وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً عطف على نظيره السابق وقوله تعالى مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ إلخ اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلّا لأجل خطيئاتهم التي عدها نوح عليه السلام وأشار إلى استحقاقهم للهلاك لأجلها لا أنه حكاية لنفس الإغراق والإحراق على طريقة حكاية ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأحوال والأقوال وإلّا لأخر عن حكاية دعائه هذا قاله مفتي الديار الرومية عليه الرحمة. وما قيل إنه عطف على لم يجدوا أو على جملة مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ إلخ وليس المراد حقيقة الدعاء بل التشفي وإظهار الرضا بما كان من هلاكهم بعيد غاية البعد والمعروف أن هذا الدعاء كان قبل هلاكهم والديار من الأسماء التي لا تستعمل إلّا في النفي العام يقال: ما بالدار ديار أو ديور كقيام وقيوم أي ما بها أحد وهو فيعال من الدار أو من الدور كأنه قيل لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ من يسكن دارا أو لا تذر عليها منهم من يدور ويتحرك وأصله ديوار اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وليس بفعال وإلّا لكان دوارا إذ لا داعي للقلب حينئذ ومِنَ الْكافِرِينَ حال منه ولو أخر كان صفة له والمراد بالكافرين قومه الذين دعاهم إلى الإيمان والطاعة فلم يجيبوا فإن كان الناس منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها نحو انتشارهم اليوم وكانت بعثته لبعض منهم كسكان جزيرة العرب ومن يقرب منهم فذاك وإن كانوا غير منتشرين كذلك بل كانوا في الجزيرة وقريبا منها فإن كانت البعثة لبعضهم أيضا فكذلك وإن كانت لكلهم فقد استشكل بأنه يلزم عموم البعثة وقد قالوا بأنه مخصوص بنبينا صلّى الله عليه وسلم وأجيب بأن ذلك العموم ليس كعموم بعثته صلّى الله عليه وسلم بل لانحصار أهل الأرض في قطعة منها فهو انحصار ضروري وليس عموما من

صفحة رقم 88

كل وجه، وهذا نحو ما يقال في بعثة آدم عليه السلام إلى زوجته وأولاده فإنهم حينئذ ليسوا إلّا كأهل بيت واحد على أنه قيل لا إشكال ولو قلنا بانتشار الناس إذ ذاك كانتشارهم اليوم وإرساله إليهم جميعا لأن العموم المخصوص بنبينا عليه الصلاة والسلام هو العموم المندرج فيه الإنس والجن إلى يوم القيامة بل الملائكة عليهم السلام بل وبل والمشهور أنه عليه السلام كان مبعوثا لجميع أهل الأرض وأنه ما آمن منهم إلا قليل واستدل عليه بهذا الدعاء وعموم الطوفان وتعقب بأن الأرض كثيرا ما تطلق على قطعة منها فيحتمل أن تكون هنا كذلك سلمنا إرادة الجميع لكن الدعاء على الكافرين وهم من بعث إليهم فدعاهم ولم يجيبوه وكونهم من عدا أهل السفينة أول المسألة والطوفان لا نسلم عمومه وإن سلم لا يقتضي أن يكون كل من غرق به مكلفا بالإيمان به عليه السلام عاصيا بتركه، فالبلاء قد يعم الصالح والطالح لكن يصدرون مصادر شتى كما ورد في حديث خسف البيداء ويرشد إلى هذا أن أولادهم قد أغرقوا على ما قيل معهم. وقد سئل الحسن عن ذلك فقال: علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. نعم الحكمة في إهلاك هؤلاء زيادة عذاب في آبائهم وأمهاتهم إذا ابصروا أطفالهم يغرقون وزعم بعضهم أن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا ويحتاج إلى نقل صحيح وحكم الله عزّ وجلّ لا تحصى فافهم إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ أي على الأرض كلا أو بعضا يُضِلُّوا عِبادَكَ عن طريق الحق ولعل المراد بهم من آمن به عليه السلام وبإضلالهم إياهم ردهم إلى الكفر بنوع من المكر أو المراد بهم من ولد منهم ولم يبلغ زمن التكليف أو من يولد من أولئك المؤمنين ويدعى إلى الإيمان، وبإضلالهم إياهم صدهم عن الإيمان وفي بعض الأخبار أن الرجل منهم كان يأتي بابنه إليه عليه السلام ويقول: احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك قيل ومن هنا قال عليه السلام وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً أي من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه لاستحكام علمه بذلك بما حصل له من التجربة ألف سنة إلّا خمسين عاما ومثله قوله عليه السلام إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وقيل أراد من جبل على الفجور والكفر وقد علم كل ذلك بوحي كقوله سبحانه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: ٣٦] وعن قتادة ومحمد بن كعب والربيع وابن زيد أنه عليه السلام ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله تعالى كل مؤمن من الأصلاب وأعقم أرحام نسائهم وأيّا ما كان فقوله إِنَّكَ إلخ اعتذار مما عسى أن يقال من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن مما لا يليق بشأن الأنبياء عليهم السلام رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ أراد أباه لمك بن متوشلخ (١) وقد تقدم ضبط ذلك وأمه شمخي بالشين والخاء المعجمتين بوزن سكرى بنت أنوش بالإعجام بوزن أصول وكانا مؤمنين ولولا ذلك لم يجز الدعاء لهما بالمغفرة وقيل أراد بهما آدم وحواء وقرأ ابن جبير والجحدري «ولوالدي» بكسر الدال وإسكان الياء فإما أن يكون قد خص أباه الأقرب أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام ولم يكفر كما قال ابن عباس لنوح أب ما بينه وبين أدم عليه السلام وقرأ الحسين بن عليّ كرم الله وجههما ورضي عنهما وزيد بن عليّ بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري «ولولديّ» تثنية ولد يعني ساما وحاما على ما قيل وفي رواية أن ساما كان نبيا وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ قيل أراد منزله وقيل سفينته وقال الجمهور وابن عباس: أراد مسجده وفي رواية عن الحبر أنه أراد شريعته استعار لها اسم البيت كما قالوا قبة الإسلام وفسطاط الدين والمتبادر

(١) قوله وقد تقدم ضبط ذلك لكن قيل في لمك أنه بفتحتين ويقال فيه لا مك كهاجر ومتوشلخ على ما في جامع الأصول بضم الميم وفتح الفوقية وفتح الواو وبسكون الشين المعجمة وكسر اللام وبالخاء المعجمة اهـ منه.

صفحة رقم 89

المنزل وتخرج امرأته وابنه كنعان بقوله مُؤْمِناً وقيل يمكن أنه لم يجزم بخروج كنعان إلا بعد ما قيل له أنه ليس من أهلك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي من كل أمة إلى يوم القيامة وهو تعميم بعد التخصيص واستغفر ربه عزّ وجلّ إظهارا لمزيد الافتقار إليه سبحانه وحبا للمستغفر لهم من والديه والمؤمنين وقيل إنه استغفر لما دعا على الكافرين لأنه انتقام منهم ولا يخفى أن السياق يأباه وكذا قوله وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكا وقال مجاهد خسارا والأول أظهر وقد دعا عليه السلام دعوتين دعوة على الكافرين ودعوة للمؤمنين وحيث استجيبت له الأولى فلا يبعد أن تستجاب له الثانية والله تعالى أكرم الأكرمين ومعظم آيات هذه السورة الكريمة وغيرها نص في أن القوم كفرة هالكون يوم القيامة فالحكم بنجاتهم كما يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه مما يبرأ إلى الله تعالى منه كزعم أن نوحا عليه السلام لم يدعهم على وجه يقتضي إيمانهم مع قوله سبحانه اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام:
١٢٤] وقصارى ما أقول رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات.

صفحة رقم 90
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية