آيات من القرآن الكريم

وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا
ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑ

فإن التزمتم العبادة والخوف من الله والطاعة لأوامره، غفر لكم بعض الذنوب، وهو ما لا يليق بحقوق المخلوقين، وينسئ في أعماركم. والمعنى: أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا، بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب.
٣- إذا جاء الموت المحتم وقوعه لا يؤخر، بعذاب كان أو بغير عذاب. ولو كنتم أيها الناس تعلمون، لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخّر. وهذا زجر لهم عن حب الدنيا، والإعراض عن أحكام الدين أوامره ونواهيه.
مناجاة نوح ربه وشكواه إليه
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٥ الى ٢٠]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠)

صفحة رقم 138

الإعراب:
جِهاراً منصوب على المصدر ب دَعَوْتُهُمْ لأن الجهار أحد نوعي الدعاء، فنصب به، مثل قعدت القرفصاء، أو صفة لمصدر دعا أي دعاء جهارا، أو حال، أي مجاهرا.
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً يُرْسِلِ: مجزوم لأنه جواب الأمر، بتقدير إن، أي إن تستغفروا ربكم يرسل السماء عليكم مدرارا. ومِدْراراً: حال من السماء، ولم تؤنث مدرار لأن مفعال في المؤنث يكون بغير تاء، مثل: امرأة معطار ومذكار ومئناث لأنها في معنى النسب، كقولهم: امرأة طالق وحائض وطامث، أي ذات طلاق وحيض وطمث. أَطْواراً في موضع الحال.
طِباقاً إما صفة ل سَبْعَ أو منصوب على المصدر. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ أي في إحداهن.
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً نَباتاً: منصوب على المصدر، والعامل فيه إما مقدر، تقديره: والله أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا، أو يكون مصدر أَنْبَتَكُمْ على حذف الزائد.
البلاغة:
لَيْلًا ونَهاراً بينهما طباق، وكذا بين جِهاراً وإِسْراراً وبين أَعْلَنْتُ وأَسْرَرْتُ وبين يُعِيدُكُمْ ويُخْرِجُكُمْ.
جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مجاز مرسل، إذ المراد رؤوس أصابعهم، من إطلاق الكل وإرادة الجزء.
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً استعارة تبعية في أَنْبَتَكُمْ شبه إنشاءهم وخلقهم أطوارا بالنبات الذي ينمو تدريجيا.
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً ذكر المصدر للتأكيد، وهو ما يسمى بالإطناب. وبين يُعِيدُكُمْ ويُخْرِجُكُمْ طباق.
مِدْراراً، أَنْهاراً، وَقاراً، أَطْواراً إلخ سجع مرصع مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
دَعَوْتُ قَوْمِي أي إلى الإيمان. لَيْلًا وَنَهاراً أي دائما متصلا. إِلَّا فِراراً هربا عن الإيمان والطاعة وتفلتا منهما. وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان والطاعة. جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ

صفحة رقم 139

فِي آذانِهِمْ
سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة. وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي. والتعبير بصيغة الدعوة أو الطلب للمبالغة. وَأَصَرُّوا وأكبوا على الكفر والمعاصي.
وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان واتباعي. اسْتِكْباراً عظيما.
جِهاراً بأعلى صوتي. أَعْلَنْتُ لَهُمْ صوتي. وَأَسْرَرْتُ الكلام، أي دعوتهم مرة بعد أخرى، وكرة بعد أولى، على أي وجه أمكنني. وكلمة ثُمَّ لتفاوت الوجوه والتفنن في الأسلوب والدعوة. اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا المغفرة من الكفر أو الشرك، بالتوبة من ذلك.
إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً للتائبين. يُرْسِلِ السَّماءَ أي المطر، وكان قد حبس الله عنهم المطر أربعين سنة، وأعقم أرحام نسائهم، فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه، ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. مِدْراراً غزيرا متتابعا كثير الدور.
جَنَّاتٍ بساتين. ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لا تخافون أو لا تأملون. وَقاراً عظمة وإجلالا وتوقيرا، والمعنى على قوله: «لا تأملون» : مالكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. وإنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء المشتمل على أدنى الظن مبالغة. أَطْواراً جمع طور أي أحوالا وهيئات وعلى مراحل وأدوار في النمو والخلقة، كأنه قال: ما لكم لا تؤمنون بالله، والحال هذه، وهي حال موجبة للإيمان به؟! خلقكم أولا من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم خلق العظام واللحم، ثم أنشأكم خلقا آخر، من طفولة، فشباب، فكهولة.
أَلَمْ تَرَوْا تنظروا. طِباقاً متطابقة، بعضها فوق بعض. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ أي في السموات، وهو في السماء الدنيا. وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي كالسراج وهو المصباح المضيء الذي يزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أي خلقكم وأنشأكم من الأرض إنشاء، إذ خلق أباكم آدم منها، فاستعير الإنبات للإنشاء لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها مقبورين. وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً بالبعث والحشر، وأكده بالمصدر، كما أكّد به قوله: أَنْبَتَكُمْ للدلالة على أن الإعادة محققة كالبدء، وأنها تكون لا محالة.
بِساطاً ممهدة منبسطة كالبساط، تتقلبون عليها. فِجاجاً واسعة، جمع فج.
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى عن إرسال نوح عليه السلام إلى قومه، وامتثاله أمر ربه، ذكر مناجاته لربه وشكواه إليه، أنه دعاهم وأنذرهم، فعصوه وتمردوا عليه، بالرغم من تغيير أساليب الدعوة، والوعد بإنزال الأمطار، والإمداد بالأموال والبنين، وتخصيص الجنات والأنهار، وبالرغم من إقامة الأدلة على عظمة الله

صفحة رقم 140

وقدرته، من خلق الإنسان على أطوار، وخلق السموات السبع الطباق، وتزيينها بالشمس والقمر، وجعل الأرض ممهدة كالبساط.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى أنواع الشكوى من نوح عليه السلام على قومه، فقال:
- قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أي قال نوح مشتكيا إلى ربه عز وجل ما لقي من قومه وما صبر عليهم في مدة طويلة هي ألف سنة إلا خمسين عاما: إني دعوت قومي إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان، دعاء دائما متصلا في الليل والنهار، من غير تقصير، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا عما دعوتهم إليه، وبعدا عنه، أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق، فرّوا منه، وحادوا عنه. ثم ذكر أنهم عاملوه بأشياء:
- وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ، وَأَصَرُّوا، وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً أي وكلما دعوتهم إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بك، والطاعة لك، سدّوا آذانهم برؤوس أصابعهم، لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه، وغطوا بثيابهم وجوههم لئلا يروني، ولئلا يسمعوا كلامي، واستمروا على الكفر والشرك العظيم، واستكبروا عن قبول الحق استكبارا شديدا، أي استنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له.
- ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي إنني نوّعت أساليب الدعوة، فدعوتهم إلى الإيمان والطاعة جهرة بين الناس، أي مجاهرا لهم بها، ثم جمعت في الدعوة بين الإعلان بها والإسرار. والمراد بالآيات أنه كان لدعوته ثلاث مراتب:
بدأ بالمناصحة في السر ليلا ونهارا، ففروا منه.

صفحة رقم 141

ثم ثنّى بالمجاهرة لأن النصح بين الملأ تقريع وتغليظ، فلم يؤثر.
ثم جمع بين الأمرين: الإسرار والإعلان، كما يفعل المجتهد المتحير في التدبير فلم ينفع. ومعنى ثُمَّ الدلالة على تباعد الأحوال، وتفاوت درجة الأسلوب، لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.
وهذا مشابه لمراحل الدعوة التي قام بها النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكة وجزيرة العرب، فكان موقف كفار قريش مماثلا لموقف قوم نوح: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت ٤١/ ٢٦].
ثم فسر الدعوة وأبان مضمونها بقوله:
فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أي فقلت لهؤلاء القوم: سلوا ربكم غفران ذنوبكم السابقة بإخلاص النية، وتوبوا إلى الله من الكفر والمعاصي، إن ربكم الذي خلقكم وربّاكم كثير المغفرة للمذنبين.
وفيه دلالة على أن الاستغفار يوجب زيادة البركة والنماء، لأن الفقر والقحط والآلام والمخاوف بشؤم المعاصي، فإذا تابوا واستغفروا، زال الشؤم والبلاء، وعاد الخير والنماء.
ثم وعدهم على التوبة من الكفر والمعاصي بخمسة أشياء، فقال:
١- يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً أي إن استغفرتم ربكم يرسل المطر عليكم متتابعا، كثير الدرور والغزارة، فيكثر الخير والخصب والغلال والثمار، ويعم الرخاء والاطمئنان والسعادة والاستقرار، ويمددكم بالأموال الكثيرة ويعطكم الخيرات الوفيرة، ويكثر لكم الذرية والأولاد بسبب الأمن والرفاه والشعور بالاستقرار

صفحة رقم 142

والسعادة، ويجعل لكم البساتين النضرة الخضراء العامرة بالأشجار والثمار والفواكه، ويجعل لكم أنهارا جارية بالماء العذب، التي يكثر بها الزرع والثمر والغلة.
وهذا دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر وحصول أنواع الأرزاق، لذا كان مأمورا به في صلاة الاستسقاء، كما أن الآية تدل على أن الإيمان بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة، الخصب والغنى في الدنيا.
وبعد الدعوة بالترغيب، وبخهم ولجأ إلى الدعوة بالترهيب قائلا:
٢- ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي مالكم لا تخافون عظمة الله، فتوحدوه وتطيعوه، في حين أنه هو الذي خلقكم على أطوار مختلفة، بدءا من النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم العظام فاللحم، ثم تمام الخلق وإنشاؤكم خلقا آخر، تمرون في دور الطفولة، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، فكيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟
لكن لم يجز الرازي تفسير الرجاء بالخوف لأن الرجاء في اللغة ضد الخوف، ورجح تفسير الزمخشري وهو مالكم لا تأملون لله توقيرا أي تعظيما، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم. ولِلَّهِ بيان للموقر.
وهذا دليل على وجود الله سبحانه ووحدانيته، معتمد على النظر في النفس الإنسانية، ثم أتبعه بدليل آخر من العالم العلوي، فقال:
٣- أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي ألم تنظروا فوقكم كيف خلق السموات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض، وجعل القمر في السموات، وهو في السماء الدنيا منهن، منوّرا لوجه الأرض، لا حرارة فيه، وجعل الشمس كالمصباح المضيء الذي يزيل ظلمة الليل، وينشر الحرارة والضياء.

صفحة رقم 143

وقدر للقمر منازل وبروجا تدل على مضي الشهور وتدل الشمس على مرور السنين كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس ١٠/ ٥].
ثم ذكر الله تعالى دليلا من العالم الأرض السفلي، فقال:
٤- وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً أي والله أوجد أباكم آدم من التراب، وجعله ينمو ويكبر كالنبات، وجعل نموكم معتمدا على الغذاء من نتاج الأرض، وتحولها إلى نبات أو حيوان، ثم يعيدكم في الأرض، تموتون، وتتحلل أجزاؤكم، حتى تعود ترابا مندمجا في الأرض، ثم يخرجكم أحياء منها بالبعث يوم القيامة، إخراجا دفعة واحدة، لا إنباتا بالتدريج كالمرة الأولى. قال الزمخشري: أستعير الإنبات للإنشاء ليكون أدل على الحدوث.
٥- وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أي ومن نعمه تعالى على الإنسان أنه جعل لكم الأرض ممهدة كالبساط، وثبّتها بالجبال، وجعلكم تتقلبون في أنحائها بحثا عن الرزق، وأوجد لكم طرقا واسعة بين الجبال وفي الوديان والسهول.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- استمر نوح عليه السلام في دعوة قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له طوال ألف سنة إلا خمسين عاما، لم يفتر ولم يكلّ ولم يملّ ليلا ونهارا، سرا وجهرا، امتثالا لأمر الله وابتغاء لطاعته. ولكنهم بالرغم من هذه المدة الطويلة لم تزدهم دعوته للاقتراب من الحق إلا تباعدا عن الإيمان.

صفحة رقم 144

٢- ذكر الرازي أن آية: دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً.. من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره.
٣- صور الله تعالى نفور قوم نوح من دعوته إلى العبادة والتقوى والطاعة، لأجل أن يغفر الله لهم بصورة مادية محسوسة، وهي أنه كلما دعاهم إلى سبب المغفرة وهو الإيمان بالله والطاعة له، سدّوا منافذ أسماعهم، لئلا يسمعوا دعاءه وطلبه، وغطّوا بثيابهم وجوههم لئلا يروه، واستكبروا عن قبول الحق استكبارا عظيما. وهذا دليل على وجود الحجاب الكثيف والغطرسة النفسية عن سماع دعوة الحق، وتلك مبالغة تتفق مع أوضاعهم، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم مع ذلك، صار المانع من السماع أقوى.
٤- سلك نوح عليه السلام في دعوة قومه إلى التوحيد وطاعة الله تعالى مراتب ثلاثة: فبدأ بالمناصحة سرا، ثم ثنى بالمجاهرة، ثم جمع بين الإعلان والإسرار، وتلك سياسة ناجحة، وأسلوب ناجع استنفد فيه كل جهوده، إذا توافر التجاوب مع الدعوة، والتفاعل مع كلام الداعية.
٥- إن الاشتغال بطاعة الله سبب يوجب زيادة البركة والنماء، وانفتاح أبواب الخيرات، وإدرار الأمطار، وزيادة الغلال، ووفرة الثمار، وقد وعدهم الله على الطاعة بخمسة أشياء: إنزال المطر، والإمداد بالأموال، والبنين، وجعل الجنات (البساتين)، وجعل الأنهار.
عن الحسن البصري رحمه الله: أن رجلا شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا له الآية: فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ.. ،

صفحة رقم 145

ويلاحظ أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة، لذا أطمعهم نوح بالخيرات في هذه الآية، وقال تعالى: وَأُخْرى تُحِبُّونَها: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف ٦١/ ١٣].
٦- آية الاستغفار هذه دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي: خرج عمر يستسقي، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت بمجاديح «١» السماء التي يستنزل بها المطر ثم قرأ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً.
٧- رغّبهم نوح بالعباد والطاعة، فقال: ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة؟ أي فلا عذر لكم في ترك الخوف من الله، وقد جعل لكم في أنفسكم آية دالة على توحيده. ثم هددهم ووبخهم بالعذاب إن أعروضا عن دعوته، ثم استدل على وجود الله ووجوب طاعته بما يأتي.
٨- أقام نوح عليه السالم الدليل على وجود الله وتوحيده وقدرته وعظمته بالنظر في النفس البشرية، والعالم العلوي من السموات والشموس والأقمار، والعالم السفلي من التذكير بكنوز الأرض وخيراتها من معادن ونباتات وحيوانات.
فالله سبحانه هو الذي خلق الإنسان في الأصل من التراب، ثم جعل سبب بقاء نوع الإنسان بالتزاوج والتوالد، والعناية بالإنسان في أطوار حياته.

(١) المجاديح: جمع مجدح: وهو نجم من النجوم، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر، فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفونه، لا قولا بالأنواء. وجاء بلفظ الجمع ليشمل جميع الأنواء التي يزعمون أن من شأنها المطر.

صفحة رقم 146
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية