
الرُّسُلِ وَحِكْمَةِ
رُبُوبِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ، وَعَمُونَ جَمْعُ عَمٍ وَهُوَ ذُو الْعَمَى، وَأَصْلُهُ عَمِيَ بِوَزْنِ كَتِفَ وَقِيلَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِعَمَى الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ، وَالْأَعْمَى يُطْلَقُ عَلَى الْفَاقِدِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. قَالَ زُهَيْرٌ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ | وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ |

قِصَّةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هُودٌ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَوُلِدَ لِهُودٍ أَرْبَعَةٌ: قَحْطَانُ وَمُقْحِطٌ وَقَاحِطٌ
وَفَالِغٌ فَهُوَ أَبُو مُضَرَ، وَقَحْطَانُ أَبُو الْيَمَنِ، وَالْبَاقُونَ لَيْسَ لَهُمْ نَسْلٌ. وَأَخْرَجَا مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ رِجَالٍ سَمَّاهُمْ وَمِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ قَالُوا جَمِيعًا: إِنَّ عَادًا كَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا - وَاتَّخَذُوا أَصْنَامًا عَلَى مِثَالِ وَدٍّ وَسُوَاعَ وَيَغُوثَ وَنَسْرٍ، فَاتَّخَذُوا صَنَمًا يُقَالُ لَهُ صَمُودُ وَصَنَمًا يُقَالُ لَهُ الْهَتَّارُ فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ هُودًا، وَكَانَ هُودٌ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا الْخُلُودُ، وَكَانَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَصْبَحِهِمْ وَجْهًا وَكَانَ فِي مِثْلِ أَجْسَادِهِمْ أَبْيَضَ بَادِيَ الْعَنْفَقَةِ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ وَكَذَّبُوهُ (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) (٤١: ١٥)... وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِالْأَحْقَافِ، وَالْأَحْقَافُ الرَّمْلُ فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ بِالْيَمَنِ. وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا وَقَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ الَّتِي آتَاهُمُ اللهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ قَالَ: كَانَتْ عَادٌ مَا بَيْنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ مِثْلَ الذَّرِّ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قُبِرَ هُودٌ بِحَضْرَمَوْتَ فِي كَثِيبٍ أَحْمَرَ عِنْدَ رَأْسِهِ سُمْرَةٌ اهـ. وَسَيَأْتِي فِي السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ مَزِيدُ بَيَانٍ لِحَالِهِ وَحَالِ قَوْمِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) أَيْ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ هُودًا، كَمَا يُقَالُ فِي أُخُوَّةِ الْجِنْسِ كُلِّهِ يَا أَخَا الْعَرَبِ. وَلِلدِّينِ أُخُوَّةٌ رُوحِيَّةٌ كَأُخُوَّةِ الْجِنْسِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ. وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْقَرِيبِ أَوِ الْوَطَنِيِّ الْكَافِرِ أَخًا. وَحِكْمَتُهُ كَوْنُ رَسُولِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ أَنْ يُفْهِمَهُمْ وَيَفْهَمَ مِنْهُمْ، حَتَّى إِذَا مَا اسْتَعَدَّ الْبَشَرُ لِلْجَامِعَةِ الْعَامَّةِ، أَرْسَلَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ كَافَّةً وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ تَوْحِيدَ اللُّغَةِ لِتَوْحِيدِ الدِّينِ، الْمُرَادِ بِهِ تَوْحِيدُ الْبَشَرِ وَإِدْخَالُهُمْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً.
(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ آنِفًا وَلَكِنَّ الْجُمْلَةَ هُنَاكَ عُطِفَتْ بِالْفَاءِ وَفُصِّلَتْ هُنَا وَفِيمَا يَأْتِي مِنْ سَائِرِ الْقِصَصِ. وَالْفَرْقُ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ أَنَّ الْعَطْفَ هُنَالِكَ جَاءَ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ كَوْنُ التَّبْلِيغِ جَاءَ عَقِبَ الْإِرْسَالِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَلَمَّا صَارَ هَذَا مَعْلُومًا
كَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْقَصَصِ أَنْ يَجِيءَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ

الْبَيَانِيِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُرَاجَعَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ كَمَا تَرَاهُ فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، فَكَأَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَثَلًا يَسْأَلُ وَقَدْ عَلِمَ مِنْ أَمْرِ قِصَّةِ نُوحٍ مَا عَلِمَ: فَمَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ، وَمَاذَا قَالَ لَهُمْ فِي دَعْوَتِهِ؟ أَكَانَ أَمْرُهُ مَعَهُمْ كَأَمْرِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ أَمِ اخْتَلَفَ الْحَالُ؟
(أَفَلَا تَتَّقُونَ) أَيْ أَفَلَا تَتَّقُونَ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي لِتَنْجُوا مِنْ عِقَابِهِ؟ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَاسْتِبْعَادِ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ عِقَابِهِ تَعَالَى لِقَوْمِ نُوحٍ مَا كَانَ وَفِي سُورَةِ هُودٍ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (١١: ٥١) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ هَذَا وَذَاكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ، وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْقِصَصِ الْمُكَرَّرَةِ أَنْ يَذْكُرَ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأُخْرَى لِتَنْوِيعِ الْفَوَائِدِ وَدَفْعِ الْمَلَلِ عَنِ الْقَارِئِ، وَقَدِ اقْتَبَسَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ جَامِعِهِ الصَّحِيحِ الْمُكَرَّرَةِ فَتَحَرَّى فِي كُلِّ بَابٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَائِدَةٍ.
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ) وَصَفَ الْمَلَأَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْكُفْرِ دُونَ مَلَإِ قَوْمِ نُوحٍ، قِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ آمَنَ (كَمَرْثَدِ بْنِ سَعْدٍ) وَكَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَالسَّفَاهَةُ خِفَّةُ الْحِلْمِ وَسَخَافَةُ الْعَقْلِ وَتَنْكِيرُهَا لِبَيَانِ نَوْعِهَا أَوِ الْمُبَالَغَةِ بِعِظَمِهَا، أَيْ قَالُوا: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ غَرِيبَةٍ أَوْ تَامَّةٍ رَاسِخَةٍ تُحِيطُ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِأَنَّكَ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى دِينِ آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ، بَلْ قُمْتَ تَدْعُو إِلَى دِينٍ جَدِيدٍ تَحْتَقِرُ فِيهِ الْأَوْلِيَاءَ الصَّالِحِينَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ اتَّخَذَتِ الْأُمَّةُ لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ لِتَخْلِيدِ ذِكْرِهِمْ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِشَفَاعَتِهِمْ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَادًا كَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا، اتَّخَذُوا أَصْنَامًا عَلَى مِثَالِ أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ وَسَيَأْتِي نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ هُودًا وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا الْخُلُودُ إِلَخْ. وَمِثْلَ قَوْلِهِمْ هَذَا قَالَ وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ لِدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ: إِنَّكُمْ سُفَهَاءُ لَا ثَبَاتَ لَكُمْ، وَإِنَّكُمْ حَقَّرْتُمْ أَوْلِيَاءَكُمْ وَآبَاءَكُمْ.
(وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أَيْ فِي دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى أَكَّدُوا ظَنَّهُمُ الْآثِمَ، كَمَا أَكَّدُوا مَا قَبْلَهُ مِنْ تَسْفِيهِهِمُ الْبَاطِلَ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ كُلِّ رَسُولٍ؛ إِذْ عَبَّرُوا عَنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الدَّعْوَى بِالْكَاذِبِينَ وَجَعَلُوهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَالظَّنُّ هُنَا عَلَى مَعْنَاهُ، فَلَوْ قَالُوا إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَكَانُوا كَاذِبِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَحْكُمُونَ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ. وَأَمَّا حُكْمُهُمْ عَلَيْهِ بِالسَّفَاهَةِ فَكَانَ عَلَى اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ
مِنْهُمْ؛ وَلِذَلِكَ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ.
(قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ لَيْسَ بِي أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ ضُرُوبِ السَّفَاهَةِ وَشَوَائِبِهَا، وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَهِيَ أَمَانَةٌ عَنْهُ، فَلَا يَخْتَارُ لَهَا إِلَّا أَهْلَ الْحَصَافَةِ بِرُجْحَانِ الْعَقْلِ وَسِعَةِ الْحِلْمِ وَكَمَالِ الصِّدْقِ وَإِلَّا لَفَاتَ مَا يَقْصِدُ بِهَا مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَمْ تَقُمْ بِهَا لِلَّهِ الْحُجَّةُ.