
التأويل متعلق بالمحذوف المقدر في قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا كأنه قال هي خالصة أو ثابتة في الحياة الدنيا للذين آمنوا، و «خالصة» بالرفع خبر بعد خبر، أو خبر ابتداء مقدر تقديره: وهي خالصة يوم القيامة، ويَوْمَ الْقِيامَةِ يراد به استمرار الكون في الجنة، وأما من نصب «خالصة» فعلى الحال من الذكر الذي في قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا، التقدير هي ثابتة أو مستقرة للذين آمنوا في حال خلوص لهم، والعامل فيها ما في اللام من معنى الفعل في قوله لِلَّذِينَ. وقال أبو علي في الحجة: ويصح أن يتعلق قوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بقوله حَرَّمَ ولا يصح أن يتعلق ب زِينَةَ لأنها مصدر قد وصف، ويصح أن يتعلق بقوله أَخْرَجَ لِعِبادِهِ ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا لأن ذلك كلام يشد القصة وليس بأجنبي منها جدا كما جاء في قوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [يونس: ٢٧] فقوله وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ معطوف على كَسَبُوا داخل في الصلة، والتعلق ب أَخْرَجَ هو قول الأخفش ويصح أن يتعلق بقوله: وَالطَّيِّباتِ. ويصح أن يتعلق بقوله: مِنَ الرِّزْقِ ويصح أن يتعلق بقوله آمَنُوا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الأخير هو أصح الأقوال على هذا التأويل الأول فيما رتبناه هنا. وأما على التأويل الآخر فيضعف معنى الآية هذه المتعلقات التي ذكر أبو علي وإنما يظهر أن يتعلق بالمحذوف المقدر في قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا. وقوله تعالى: كَذلِكَ تقدير الكلام أي كما فصلنا هذه الأشياء المتقدمة الذكر فكذلك وعلى تلك الصورة نفصل الآيات أي نبين الأمارات والعلامات والهدايات لقوم لهم علم ينتفعون به، ونُفَصِّلُ معناه نقسم ونبين لأن بيان الأمور المشبهات إنما هو في تقسيمها بالفصول.
قوله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)
لما تقدم إنكار ما حرمه الكفار بآرائهم، أتبعه ذكر ما حرم الله عز وجل وتقديره، والْفَواحِشَ ما فحش وشنع وأصله من القبح في المنظر، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش | إذا هي نصته ولا بمعطل |
قصير القميص فاحش عند بيته صفحة رقم 394

وكذلك استعمل فيما شنع وقبح في النفوس. والقبح والحسن في المعاني إنما يتلقى من جهة الشرع، والفاحش كذلك، فقوله هنا الْفَواحِشَ إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه في مواضع أخر، فكل ما حرمه الشرع فهو فاحش وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب للرجال ونحوه، وقوله: ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء، وهو لفظ عام في جميع الفواحش وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال ما ظَهَرَ الطواف عريانا، والبواطن الزنى، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال، وما بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو، وَالْإِثْمَ أيضا: لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم، هذا قول الجمهور، وقال بعض الناس: هي الخمر واحتج على ذلك بقول الشاعر: [الوافر]
شربت الإثم حتى طار عقلي
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مردود لأن هذه السورة مكية ولم تعن الشريعة لتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء، وهي في أجوافهم، وأيضا فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق، وإن صح فهو على حذف مضاف، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٩] وهو في هذه الآية قد حرم، فيأتي من هذا أن الخمر إثم والإثم محرم فالخمر محرمة.
قال القاضي أبو محمد: ولكن لا يصح هذا لأن قوله فِيهِما إِثْمٌ لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله قُلْ فِيهِما إِثْمٌ وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة.
وَالْبَغْيَ: التعدي وتجاوز الحد، كان الإنسان مبتديا بذلك أو منتصرا فإذا جاوز الحد في الانتصار فهو باغ، وقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحق فلا يسمى بغيا، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً المراد بها الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله. و «السلطان» البرهان والحجة، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه.
وقوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ الآية، يتضمن الوعيد والتهديد. والمعنى ولكل أمة أي فرقة وجماعة، وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس، أجل مؤقت لمجيء العذاب إذا كفروا وخالفوا أمر ربهم، فأنتم أيتها الأمة كذلك قاله الطبري وغيره، وقرأ الحسن «فإذا جاء آجالهم» بالجمع. وهي قراءة ابن سيرين، قال أبو الفتح هذا هو الأظهر لأن لكل إنسان أجلا فأما الإفراد فلأنه جنس وإضافته إلى الجماعة حسنت الإفراد، ومثله قول الشاعر: [الرجز]
في حلقكم عظم وقد شجينا

وقوله: ساعَةً لفظ عين به الجزء القليل من الزمن، والمراد جميع أجزائه أي لا يستأخرون ساعة ولا أقل منها ولا أكثر، وهذا نحو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: ٤٠] فإنما هي عبارة يقام الجزء فيها مقام الكل.
قال القاضي أبو محمد: وكأنه يظهر بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [إبراهيم: ١٠، نوح: ٤] تعارض لأن تلك تقتضي الوعد بتأخير إن آمنوا والوعيد بمعاجلة إن كفروا.
قال القاضي أبو محمد: والحق مذهب أهل السنة أن كل أحد إنما هو بأجل واحد لا يتأخر عنه ولا يتقدم. وقوم نوح كان منهم من سبق في علم الله تعالى أنه يكفر فيعاجل، وذلك هو أجله المحتوم، ومنه من يؤمن فيتأخر إلى أجله المحتوم وغيب عن نوح تعيين الطائفتين فندب الكل إلى طريق النجاة وهو يعلم أن الطائفة إنما تعاجل أو تؤخر بأجلها، فكأنه يقول: فإن آمنتم علمنا أنكم ممن قضى الله له بالإيمان والأجل المؤخر، وإن كفرتم علمنا أنكم ممن قضي له بالأجل المعجل والكفر.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا الحد هو دعاء محمد عليه السلام العالم إلى طريق الجنة، وقد علم أن منهم من يكفر فيدخل النار، وكذلك هو أمر الأسير يقال له إما أن تؤمن فتترك وإلا قتلت.
وقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ الآية، الخطاب في هذه الآية لجميع العالم. و «إن» الشرطية دخلت عليها «ما» مؤكدة. ولذلك جاز دخول النون الثقيلة على الفعل، وإذا لم تكن «ما» لم يجز دخول النون الثقيلة. وقرأ أبي بن كعب والأعرج «تأتينكم» على لفظ الرسل. «وجاء يقصون» على المعنى. وكأنه هذا الخطاب لجميع الأمم قديمها وحديثها هو متمكن لهم ومتحصل منه لحاضري محمد عليه السلام أن هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه. ويَأْتِيَنَّكُمْ مستقبل وضع موضع ماض ليفهم أن الإتيان باق وقت الخطاب لتقوى الإشارة بصحة النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا على مراعاة وقت نزول الآية، وأسند الطبري إلى أبي سيار السلمي قال إن الله تعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الآية، قال ثم نظر إلى الرسل فقال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: ٥٢] ثم بثهم.
قال القاضي أبو محمد: ولا محالة أن هذه المخاطبة في الأزل وقيل المراد بالرسل محمد عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد: من حيث لا نبي بعده، فكأن المخاطبين هم المراد ببني آدم لا غير، إذ غيرهم لم ينله الخطاب، ذكره النقاش. ويَقُصُّونَ معناه يسردون ويوردون. و «الآيات» لفظ جامع لآيات الكتب المنزلة وللعلامات التي تقترن بالأنبياء، وقوله: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ يصح أن تكون «من» شرطية وجوابه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وهذه الجملة هي في جواب الشرط الأول الذي هو إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ. ويصح أن تكون «من» في قوله فَمَنِ اتَّقى موصولة، وكأنه قصد بالكلام تقسيم الناس فجعل القسم الأول فَمَنِ اتَّقى. والقسم الثاني وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. وجاء هذا التقسيم بجملته جوابا للشرط في قوله إِمَّا