بِتَجَرُّدِهِ مِنْهَا مَثَلًا. كَأَنْ تَقُولَ لِبَعْضِ أَحْفَادِ الْخِدِيوِي تَوْفِيقٍ يَا ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، أَوْ هَذَا ابْنُ إِسْمَاعِيلَ فِي مَقَامِ السَّخَاءِ وَسَعَةِ الْعَطَاءِ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا. وَلَوْ قُلْتَ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَا ابْنَ تَوْفِيقٍ كَانَ خَطَأً؛ فَإِنَّ تَوْفِيقًا لَمْ يَشْتَهِرْ بِصِفَةِ السَّخَاءِ وَكَثْرَةِ الْهِبَاتِ. وَتَسْمِيَةُ النَّاسِ أَبْنَاءَ آدَمَ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَفِي كُلٍّ مِنْهَا تَدُلُّ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ أَحَدُ الْأَجْدَادِ وَلَيْسَ هُوَ الْأَبُ. فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِالنِّدَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ بِدَلَالَةِ اللُّغَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ.
وَالْفِتْنَةُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِذَا عَرَضَهُمَا
عَلَى النَّارِ لِيَعْرِفَ الزَّيْفَ مِنَ النُّضَارِ. وَحَجَرُ الصَّائِغِ الَّذِي يَخْتَبِرُهُمَا بِهِ يُسَمَّى الْفَتَّانَةَ، وَالْفِتْنَةُ تَكُونُ بِالْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ غَالِبًا، وَقَدْ تَكُونُ بِالِاسْتِمَالَةِ بِالشَّهَوَاتِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنِ الشَّهَوَاتِ قَدْ يَكُونُ أَعْسَرَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ.
وَمَعْنَى (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) : لَا تَغْفُلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَوَسْوَسَتِهِ لَكُمْ فَتُمَكِّنُوهُ بِذَلِكَ مِنْ خِدَاعِكُمْ بِهَا وَإِيقَاعِكُمْ فِي الْمَعَاصِي، كَمَا وَسْوَسَ لِأَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ فَزَيَّنَ لَهُمَا مَعْصِيَةَ رَبِّهِمَا. فَفَتَنَهُمَا حَتَّى عَصَيَاهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا عَنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَا يَتَمَتَّعَانِ بِنَعِيمِهَا، وَدَخَلَا فِي طَوْرٍ آخَرَ مِنَ الْحَيَاةِ يُكَابِدُونَ فِيهَا شَقَاءَ الْمَعِيشَةِ وَهُمُومَهَا وَأَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي تَحْرِمُ الْمَفْتُونَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَسْهَلُ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تُخْرِجُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَفَاوَتَ نَعِيمُ الْجَنَّتَيْنِ وَمُدَّةُ اللُّبْثِ فِيهِمَا.
(يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) أَيْ أَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَالَ كَوْنِهِ نَازِعًا عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا - أَيْ سَبَبًا لِنَزْعِ مَا اتَّخَذَاهُ لِبَاسًا لَهُمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ لِأَجْلِ أَنْ يُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا أَوْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ إِرَاءَتَهُمَا سَوْآتِهِمَا دَائِمًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ أَنَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا عُرْيَانَيْنِ إِذْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ ثِيَابٌ تُصْنَعُ وَمَا ثَمَّ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَيْثُ يُوجَدُ.
وَلَا نَعْلَمُ أَكَانَ يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ ذُو وَرَقٍ عَرِيضٍ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ الَّتِي أُخْرِجَا مِنْهَا؟ وَجَمِيعُ الْبَاحِثِينَ فِي طَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَعَادِيَّاتِ الْبَشَرِ وَآثَارِهِمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الصِّنَاعَاتِ يَعِيشُونَ عُرَاةً، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا اكْتَسَوْا بِهِ وَرَقُ الشَّجَرِ وَجُلُودُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَصْطَادُونَهَا، وَلَا يَزَالُ فِي الْمُتَوَحِّشِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَعِيشُ كَذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَعْلُهُمْ (يَنْزِعُ) حَالًا مِنْ فَاعِلِ يُخْرِجُ، وَمِثْلُهُ جَعَلَهُ حَالًا (مِنْ أَبَوَيْكُمْ) الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ يُخْرِجُ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ مَا هَنَا عَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظُهُورِ سَوْآتِهِمَا لَهُمَا عَقِبَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ، الَّذِي كَانَ بَعْدَ سَتْرِهِمَا سَوْآتِهِمَا بِمَا خَصَفَا عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِهَا، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ فَنُزِعَ، وَإِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ مُوَارًى فَظَهَرَ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ وَمِنَ الْآخَرِ مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى.
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا اللِّبَاسُ حِسِّيًّا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْنَوِيًّا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ لِبَاسَهُمَا كَانَ الظُّفْرُ، وَأَنَّهُ نُزِعَ عَنْهُمَا بِسَبَبِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَتُرِكَتِ الْأَظْفَارُ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ تَذْكِرَةً وَزِينَةً، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ السَّوْءَتَيْنِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِلِبَاسِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا
هُنَالِكَ أَنَّ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) قَالَ: التَّقْوَى. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللِّبَاسُ غَيْرَهَا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ خَبَرٌ تَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَاخْتَارَ التَّفْوِيضُ وَتَرْكُ تَعْيِينِ ذَلِكَ اللِّبَاسِ.
وَهَذَا مَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْهِ هُنَالِكَ فِي رَدِّ الرِّوَايَاتِ؛ فَإِنَّ التَّعْيِينَ فِي مِثْلِهَا لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِخَبَرٍ صَحِيحٍ مِنَ الْمَعْصُومِ. وَأَمَّا مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ، فَأَخَذْنَاهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْوِينِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى كَرَاهَةِ رُؤْيَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَوْءَةَ الْآخَرِ حَتَّى فِي خَلْوَةِ الْمُبَاعَلَةِ الزَّوْجِيَّةِ. وَإِنَّمَا الْقِصَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِ الْفِطْرَةِ وَلَيْسَ فِيهَا حُكْمُ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. هَلْ هُوَ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْإِبَاحَةُ؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقَوْلَ بِكَرَاهَةِ مَا ذُكِرَ حَرَجٌ شَدِيدٌ وَتَحَكُّمٌ فِي الْفِطْرَةِ، وَحَجْرٌ عَلَيْهَا فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ الْحَلَّالِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا بِمَا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُبَاحِ وَلَا حَجْرَ فِيهِ وَلَا حَرَجَ. وَمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ السُّنَّةِ فَآدَابٌ إِرْشَادِيَّةٌ لِلْخَوَاصِّ يَسْتَفِيدُ كُلٌّ مِنْهَا بِقَدْرِ سَلَامَةِ فِطْرَتِهِ، وَدَرَجَةِ أَدَبِهِ وَفَضِيلَتِهِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى مِنْهَا وَلَا رَأَتْ مِنْهُ. وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَعْلَ رُؤْيَةِ السَّوْءَةِ وَلَا سِيَّمَا بَاطِنُهَا مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا فَلَا يَحْسُنُ التَّمَادِي فِيهَا - مِمَّا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ تَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ؛ فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْعِنَانِ فِي الْمُبَاحَاتِ كُلِّهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى الْإِسْرَافِ الضَّارِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ صَاحِبُهُ زِيَادَةَ اللَّذَّةِ فَيَصْدُقُ قَوْلُ الْأَمْثَالِ: مَنْ طَلَبَ الزِّيَادَةَ وَقَعَ فِي النُّقْصَانِ. وَرُبَّ أَكْلَةٍ هَاضَتِ الْآكِلَ وَحَرَمَتْهُ مَآكِلَ، وَمَا جَاوَزَ حَدَّهُ جَاوَرَ ضِدَّهُ. وَلَكِنَّ هَذِهِ حِكْمَةٌ عَالِيَةٌ لَا يَفْقَهُهَا إِلَّا حَكِيمٌ خَبِيرٌ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى نَفْسَهُ مُنْتَهَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّذَّةِ - وَإِنْ مُبَاحَةً - فَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ أَدَبٍ شَرْعِيٍّ وَلَا فِطْرِيٍّ وَلَا طِبِّيٍّ آلَ أَمْرُهُ فِي الْإِسْرَافِ إِلَى إِضْعَافِ هَذِهِ اللَّذَّةِ، حَتَّى يَحْتَاجَ فِي إِثَارَتِهَا إِلَى الْمُعَالَجَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ثُمَّ لَا تَكُونُ إِلَّا نَاقِصَةً وَيُكَرِّرُ إِضْعَافَهَا بَعْدَ إِثَارَتِهَا بِسُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ حَتَّى تَكُونَ مَرَضًا. وَيَكُونُ صَاحِبُهَا حَرَضًا أَوْ يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَلِهَذَا تَرَى أَكْثَرَ الْمُتْرَفِينَ سَيِّئِي الْهَضْمِ شَدِيدِي الْإِقْهَاءِ وَالطَّسِّيِّ يُكْثِرُونَ حَتَّى فِي سِنِّ الشَّبَابِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْمُحَرِّضَاتِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمَعَاجِينِ وَالْحُبُوبِ السَّامَّةِ
الَّتِي تُقَوِّي الْبَاهَ فَتَنْتَابُهُمُ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْهَرَمُ إِذَا لَمْ يُسْرِعِ الْحِمَامُ.
(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِمَّا يَبْغِي مِنَ الْفِتْنَةِ، وَتَأْكِيدٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ وَالتَّذْكِيرِ بِعَدَاوَتِهِ وَضَرَرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَرَانَا هُوَ وَقَبِيلُهُ أَيْ جُنُودُهُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَلَا نَرَاهُمْ (وَأَصْلُ الْقَبِيلِ: الْجَمَاعَةُ كَالْقَبِيلَةِ وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْقَبِيلَةَ بِمَنْ كَانَ لَهُمْ أَبٌ وَاحِدٌ وَالْقَبِيلُ أَعَمُّ) وَ (حَيْثُ) ظَرْفُ مَكَانٍ، أَيْ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُونَ غَيْرَ مَرْئِيِّينَ مِنْكُمْ، وَالضَّرَرُ إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يُرَى كَانَ خَطَرُهُ أَكْبَرَ، وَوُجُوبُ الْعِنَايَةِ بِاتِّقَائِهِ أَشَدَّ، كَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ بَعْضِ الْأَدْوَاءِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تَثْبُتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنَيْنِ بِالْمِجْهَرِ - أَيِ الْمِرْآةِ أَوِ النَّظَّارَةِ الْمُكَبِّرَةِ لِلْمَرْئِيَّاتِ - وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ دَاءٍ مِنْهَا جِنَّةً مِنَ الدِّيدَانِ أَوِ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ تَنْفُذُ إِلَى الْبَدَنِ بِنَقْلِ الذُّبَابِ أَوِ الْبَعُوضِ أَوِ الْقَمْلِ أَوِ الْبَرَاغِيثِ، أَوْ مَعَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ أَوِ الْهَوَاءِ، فَتَتَوَالَدُ وَتُنَمَّى بِسُرْعَةٍ عَجِيبَةٍ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَى الْمَرْءِ رِئَتَهُ فِي دَاءِ السُّلِّ، وَأَمْعَاءَهُ فِي الْهَيْضَةِ الْوَبَائِيَّةِ، وَدَمَهُ فِي الطَّاعُونِ وَالْحُمَّيَاتِ الْخَبِيثَةِ، وَقَدْ أُشِيرَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى سَبَبِ الطَّاعُونِ فِيمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ، وَإِلَى دَاءِ السُّلِّ فِيمَا وَرَدَ مِنْ تَحَوُّلِ الْغُبَارِ فِي الصَّدْرِ إِلَى نَسَمَةٍ.
وَفِعْلُ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ كَفِعْلِ هَذِهِ الْجِنَّةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الْمَيَكْرُوبَاتِ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَجْسَامِ الْأَحْيَاءِ: تُؤَثِّرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى فَتُتَّقَى. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا فِي اتِّقَاءِ ضَرَرِهَا بِنَصَائِحِ أَطِبَّاءِ الْأَبْدَانِ - وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْأَوْبِئَةِ - كَاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرَاتِ الطِّبِّيَّةِ وَالتَّوَقِّي مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْمُلَوَّثِ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمُصَابِينَ بِالْهَيْضَةِ أَوِ الْحُمَّى التَّيْفُوئِيدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يُغْلَى ثُمَّ يُحْفَظَ فِي آنِيَةٍ نَظِيفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ تِلْكَ الْجِنَّةَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يَرَاهَا الْأَطِبَّاءُ بِمُجَاهَرِهِمْ لَاتَّقَوْهَا مِنْ غَيْرِ تَوْصِيَةٍ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَالْوِقَايَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا اتِّخَاذُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ طُرُوءَهَا مِنَ الْخَارِجِ، كَالَّذِي تَفْعَلُهُ الْحُكُومَاتُ فِي الْمَحَاجِرِ الصِّحِّيَّةِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ وَمَدَاخِلِهَا، أَوْ فِي أَمْكِنَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا كَجَزَائِرِ الْبِحَارِ لِلْوِقَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْبِلَادِ كُلِّهَا. أَوْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِثْلُهُ مَا يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْبُيُوتِ لِوِقَايَةِ بُيُوتِهِمْ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: تَقْوِيَةُ الْأَبْدَانِ بِالْأَغْذِيَةِ الْجَيِّدَةِ وَالنَّظَافَةِ التَّامَّةِ لِتَقْوَى عَلَى مَنْعِ فَتْكِ هَذِهِ الْجِنَّةِ فِيهَا إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهَا، كَمَا يُتَّقَى تَوَلُّدُ السُّوسِ فِي حَبِّ الْحَصِيدِ بِتَجْفِيفِهِ وَوَضْعِ بَعْضِ الْمَوَادِّ
الْوَاقِيَةِ فِيهِ، وَكَمَا يُتَّقَى وُصُولُ الْعُثِّ إِلَى الثِّيَابِ الصُّوفِيَّةِ بِمَنْعِ وُصُولِ الْغُبَارِ إِلَيْهَا، أَوْ بِوَضْعِ الدَّوَاءِ الْمُسَمَّى بِالنَّفْتَالِينِ بَيْنَهَا، وَهُوَ يَقْتُلُ الْعُثَّ بِرَائِحَتِهِ.
كَذَلِكَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِإِرْشَادِ طِبِّ الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ فِي وِقَايَتِهَا مِنْ فَتْكِ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِيهَا بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لِلنَّاسِ الْأَبَاطِيلَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ فِي هَذَا الطِّبِّ لِشِدَّةِ ضَرَرِهَا - وَلَمْ يُحَرِّمِ الدِّينُ شَيْئًا عَلَى النَّاسِ إِلَّا لِضَرَرِهِ وَإِفْسَادِهِ - فَإِنَّ مَدَاخِلَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَتَأْثِيرَهَا فِي
قُلُوبِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ، كَدُخُولِ تِلْكَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَعْضَائِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى وَاتِّقَاؤُهَا كَاتِّقَائِهَا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْوِيَةُ الْأَرْوَاحِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ حَتَّى تَرْسُخَ فِيهِ مَلَكَاتُ الْخَيْرِ، وَحُبُّ الْحَقِّ، وَكَرَاهَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ - فَحِينَئِذٍ تَبْعُدُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتَبْعُدُ عَنْهَا، وَلَا تُطِيقُ الدُّنُوَّ مِنْهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُثِّ مَعَ الثَّوْبِ الْمُشَبَّعِ بِرَائِحَةِ النَّفْتَالِينِ، بَلِ الْجُعَلِ مَعَ عِطْرِ الْوَرْدِ أَوِ الْيَاسَمِينِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُتَّقُونَ هُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُخْلَصُونَ، الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْفِطْرِيَّةِ الْوَارِدَةِ بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (١٥: ٣٩ - ٤٢) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ، وَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الْآيَةِ هُوَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْخِلْقَةِ الرُّوحِيَّةِ بِأَنَّ الرُّوحَ الْكَامِلَ الْمُهَذَّبَ بِالتَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى نَفْيِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْمَيُكْرُوبَاتِ وَالْهَوَامَّ لَا تَجِدُ لَهَا مَأْوًى فِي الْأَجْسَادِ النَّظِيفَةِ الطَّاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي - مِنْ هَذِهِ التَّقْوَى - مَا يُعَالَجُ بِهِ الْوَسْوَاسُ بَعْدَ طُرُوئِهِ، كَمَا يُعَالَجُ الْمَرَضُ بَعْدَ حُدُوثِهِ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ فِيهِ، بِالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَقْتُلُهَا وَتَمْنَعُ امْتِدَادَ ضَرَرِهَا. وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذَكُّرِ لِمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْوَسْوَسَةِ مِنْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، أَنْ تُتْرَكَ الْمَعْصِيَةُ وَيُؤَدَّى الْوَاجِبُ وَيَتُوبُ الْعَاصِي كَمَا تَابَ أَبُونَا آدَمُ وَزَوْجُهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَالتَّضَرُّعِ
إِلَيْهِ بِاللِّسَانِ كَمَا فَعَلَ أَبَوَانَا بِقَوْلِهِمَا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) (٢٣) الْآيَةَ. وَفَاقَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَأْثِيرِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فِي مُعَالَجَةِ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَفْكَارِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُحْدِثُهَا هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠٠، ٢٠١) وَمِنْهُ مَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي فَضْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ فِرَارِ الشَّيْطَانِ، وَكَوْنِهِ مَا سَلَكَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَهُ.
قَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ مِثْلِ هَذَا التَّشَابُهِ بَيْنَ تَأْثِيرِ الْأَحْيَاءِ الْخَفِيَّةِ الْمُجْتَنَّةِ فِي الْأَجْسَادِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَقَدْ أَعَدْنَاهُ هُنَا مُفَصَّلًا لِقُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَقْوَى مَا يَرُدُّونَ بِهِ شُبَهَاتِ بَعْضِ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْجِنَّةِ وَالشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُمْ؛ أَوْ لِأَنَّ وَجُودَهُمْ بَعِيدٌ عَنِ النَّظَرِيَّاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّ أَرْوَاحَهُمُ الْخَبِيثَةَ الَّتِي يُنْكِرُونَ وَجُودَهَا أَيْضًا هِيَ أَوْسَعُ الْأَوْطَانِ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهِ صَحِيحًا وَأَصْلًا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لَمَّا بَحَثَ عَاقِلٌ فِي الدُّنْيَا عَمَّا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْقُوَى الْمَجْهُولَةِ، وَلَمَا كُشِفَتْ هَذِهِ الْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي ارْتَقَتْ بِهَا عُلُومُ الطِّبِّ وَالْجِرَاحَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا، وَلَا تَزَالُ قَابِلَةً لِلِارْتِقَاءِ بِكَشْفِ أَمْثَالِهَا، وَلَمَّا عُرِفَتِ الْكَهْرَبَاءُ الَّتِي أَحْدَثَ كَشْفُهَا هَذَا التَّأْثِيرَ الْعَظِيمَ فِي الْحَضَارَةِ، وَلَوْ لَمْ تُكْشَفْ هَذِهِ الْمَيْكُرُوبَاتُ وَأَخْبَرَ أَمْثَالَهُمْ بِهَا مُخْبِرٌ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ لِعَدُّوهُ مَجْنُونًا، وَجَزَمُوا بِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ أَحْيَاءٍ لَا تُرَى يُوجَدُ فِي نُقْطَةِ الْمَاءِ الصَّغِيرَةِ أُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْهَا، وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَبْدَانِ مِنْ خُرْطُومِ الْبَعُوضَةِ أَوِ الْبُرْغُوثِ إِلَخْ. كَمَا أَنَّ مَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَهْرَبَاءِ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي تَكْوِينِ الْعَالَمِ، وَمَا تَعْرِفُهُ الشُّعُوبُ الْكَثِيرَةُ الْآنَ مِنْ تَخَاطُبِ النَّاسِ بِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِآلَاتِ التِّلِغْرَافِ وَالتِّلِيفُونِ اللَّاسِلْكِيَّةِ - كُلُّهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَتَصَوَّرُهُ عَقْلٌ وَقَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ.
فَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ فِي اتِّقَاءِ مَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ وَفِي الْمُعَالَجَةِ وَالتَّدَاوِي مِنْهَا إِلَّا إِذَا رَآهَا كَمَا يَرَوْنَهَا وَثَبَتَ عِنْدَهُ ضَرَرُهَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ - فَإِنَّنَا نَعْذُرُهُمْ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ أَطِبَّاءِ الْأَرْوَاحِ وَهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَوَرَثَتُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْهَادِينَ الْمُرْشِدِينَ فِي اتِّقَاءِ تَأْثِيرِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ، وَفِي التَّوْبَةِ مِنْ سُوءِ
تَأْثِيرِهَا بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ - وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْعَقْلُ الْمَادِّيُّ الْمَأْلُوفُ قَاضِيًا عَلَى أَصْحَابِهِ الْمَسَاكِينِ بِفَسَادِ أَبْدَانِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَطِبَّاءَ قَدْ ثَبَتَتْ فَائِدَةُ طِبِّهِمْ وَأَدْوِيَتِهِمْ بِالتَّجْرِبَةِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ وَالتَّسْلِيمُ لَهُمْ بِمَا يَقُولُونَ - قُلْنَا: إِنَّ فَائِدَةَ طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ فِي هِدَايَةِ النَّاسِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ وَصَلَاحِ أَعْمَالِهِمْ أَشَدُّ ثُبُوتًا، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا يَقُولُهُ الْأَطِبَّاءُ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا بِنَظَرِيَّاتِ الْفِكْرِ، فَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي حِفْظِ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ مَا يَجْنِي عَلَيْهِمْ كُفْرُهُمْ بِالطِّبِّ الرُّوحِيِّ الدِّينِيِّ فِي أَرْوَاحِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ جَمِيعًا، فَإِنَّ هَذَا الْكُفْرَ يَحْصُرُ هَمَّهُمْ فِي التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَيُسْرِفُونَ فِيهَا بِمَا يُضْعِفُ أَبْدَانَهُمْ مَهْمَا تَكُنِ الْعِنَايَةُ بِهَا عَظِيمَةً، دَعْ إِفْسَادَ أَخْلَاقِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ وَمَا يَجْنِيهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ وَعَلَى الْبَشَرِ جَمِيعًا، وَنَاهِيكَ بِمَضَارِّ مَا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ السُّكْرِ وَالزِّنَا وَالْقُمَارِ وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنَ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، فَلَوْ كَانَ الْخَوَنَةُ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمُ الْأَجَانِبُ
أَعْوَانًا لَهُمْ عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ مُؤْمِنِينَ، مُعْتَصِمِينَ بِتَقْوَى اللهِ وَهَدْيِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ بِالْبَاطِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، لَمَا خَانُوا اللهَ وَخَانُوا أَمَانَةَ أُمَّتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمُ اتِّبَاعًا لِشَهَوَاتِهِمْ، وَطَمَعًا فِي تَأَثُّلِ الْأَمْوَالِ وَالِادِّخَارِ لِأَوْلَادِهِمْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٨: ٢٧، ٢٨).
بَلْ قَالَ أَعْظَمُ فَيْلَسُوفٍ يَحْتَرِمُونَ عَقْلَهُ وَعِلْمَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ الَّتِي تَغَلَّبَتْ فِي أُورُبَّةَ عَلَى الْفَضَائِلِ قَدْ مَحَتِ الْحَقَّ مِنْ عُقُولِ أَهْلِهَا، فَلَا يَعْقِلُونَ مِنْهُ إِلَّا تَحْكِيمَ الْقُوَّةِ، وَسَتَتَخَبَّطُ بِهِ الْأُمَمُ وَيَتَخَبَّطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ هُوَ الْأَقْوَى فَيَكُونُ سُلْطَانَ الْعَالَمِ. هَذَا مَا سَمِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الْفَيْلَسُوفِ هِرْبِرْتِ سِبِنْسَرْ (فِي١٠ أَغُسْطُسَ سَنَةَ ١٩٠٣) وَكَتَبَهُ عَنْهُ، وَقَدْ زَادَنَا فِي رِوَايَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ لَهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ هَذِهِ الْحَرْبَ الْعَامَّةَ الْوَحْشِيَّةَ، وَيُعِدُّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ وَضِعْفِ الْفَضِيلَةِ. وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ بِالْمَعْنَى مِنْ فَوَائِدَ أُخْرَى فِي رِحْلَتِنَا الْأُورُبِّيَّةِ (ج ٣ م ٢٣ مِنَ الْمَنَارِ).
وَمِنَ الْمَصَائِبِ عَلَى الْبَشَرِ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِطِبِّ الدِّينِ الرُّوحِيِّ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ لَا يَقِفُونَ فِيهَا عِنْدَ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَمَا فَهِمَهُ مِنْهُ حَمَلَتُهُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، بَلْ زَادُوا وَمَا زَالُوا يَزِيدُونَ فِيهِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، مَا جَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ وَفِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يُنَفِّرُونَهُمْ مِنْهُ - فَتَرَاهُمْ لَا يَتَّقُونَ الْوَسْوَاسَ الضَّارَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي خَوَاطِرِهِمْ كَمَا يَجِبُ،
وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِي الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ تَضْلِيلَ الدَّجَّالِينَ وَالدَّجَّالَاتَ، كَزَعْمِهِمْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُمْرِضُونَ الْأَجْسَادَ وَيَخْطِفُونَ الْأَطْفَالَ. وَأَنَّ لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ صِلَةً بِهِمْ وَتَأْثِيرًا فِي حَمْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ الضَّرَرِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى النَّفْعِ بِشِفَاءِ الْمَرْضَى وَرَدِّ الْمَفْقُودِينَ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَالْعُشَّاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ الزَّارُ الَّذِي يُخْرِجُونَ بِهِ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْأَجْسَادِ بِزَعْمِهِمْ، وَلِهَذِهِ الْخُرَافَاتِ مَضَارٌّ وَرَزَايَا كَثِيرَةٌ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ. فَهِيَ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ كَبِيرَةٌ لِلْمَادِّيِّينَ عَلَى الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْجُهَّالِ وَالدَّجَّالِينَ. وَالدِّينُ لَمْ يُثْبِتْ لِلشَّيَاطِينِ مَا يَزْعُمُهُ الدَّجَّالُونَ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى لِلشَّيَاطِينِ وَسْوَسَةً هِيَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لِلتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهَا كَتَأْثِيرِ جِنَّةِ الْهَوَامِّ فِي الْأَجْسَادِ الْمُسْتَعِدَّةِ. وَأَنَّ مُقَاوَمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي اسْتِطَاعَةِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الشَّيَاطِينَ يَرَوْنَ النَّاسَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ، وَهَؤُلَاءِ الدَّجَّالُونَ يَنْفُونَ مَا أَثْبَتَ كِتَابُ اللهِ وَيُثْبِتُونَ مَا نَفَاهُ. وَيَقُولُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى الْجِنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْهُ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) (٧٢: ١) وَلَكِنْ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَآهُمْ، وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الشَّيَاطِينَ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ يَرَى أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَاصَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ عَنْ صَاحِبِهِ الرَّبِيعِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا.
وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِرُؤْيَتِهِمْ عَلَى صُورَتِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفَتْ فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَشَكُّلِهِمْ بِالصُّوَرِ، فَالْجُمْهُورُ يُثْبِتُونَهُ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمْرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ تَخْيِيلٌ كَتَخْيِيلِ سَحَرَةِ الْإِنْسِ - وَتَقَدَّمَ نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي بَحْثِ اسْتِهْوَاءِ الشَّيَاطِينِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِيهَا - وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَيُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ تَخَيَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَا يَصُدَّنَّ عَنْهُ وَلْيَمْضِ قُدُمًا فَإِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَشَدُّ فَرَقًا مِنْكُمْ مِنْهُمْ " إِلَخْ. وَهُوَ صَحِيحٌ فِي كَوْنِ الشَّيَاطِينِ وَسَائِرِ الْجِنِّ الْعَاقِلَةِ تَخَافُ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَرْقَى مِنْهُمْ، كَجِنِّ الْحَشَرَاتِ الَّذِينَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يَطِيرُ وَمِنْهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيمَا وَرَدَ فِي الْجِنِّ وَمَا قِيلَ فِيهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَمِنَ
الْمَنَارِ وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ جَهَلَةِ الْعَوَامِّ بِالْبَاطِلِ، بِوِلَايَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ وَوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، وَقَدْ خَوَّفُوا النَّاسَ مِنْهُمْ حَتَّى أَوْقَعُوا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَوْقَعُوهُمْ فِي ضَلَالَاتٍ كَثِيرَةٍ.
إِنَّ مَفَاسِدَ (الزَّارِ) كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقَدْ وَصَفْنَاهَا مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ. وَسَبَبُهَا اعْتِقَادُ الْكَثِيرَاتِ مِنَ النِّسَاءِ الْمَرِيضَاتِ بِأَمْرَاضٍ عَادِيَّةٍ - وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ عَصَبِيَّةً - أَنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ دَخَلَتْ فِي أَجْسَادِهِنَّ. وَأَنَّ صَانِعَاتِ الزَّارِ يُخْرِجْنَهُمْ مِنْهَا بِإِرْضَائِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالْقَرَابِينِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ عِبَادَةِ الْجِنِّ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَزَالَهَا الْإِسْلَامُ بِإِصْلَاحِهِ، وَلَمَّا جُهِلَ الْإِسْلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ وَقَبَائِلِ الْبَدْوِ عَادَتْ إِلَى أَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنْ حَسَنَاتِ تَأْثِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمُجَدِّدِ لِلْإِسْلَامِ فِي نَجْدٍ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْجِنِّ وَغَيْرِ الْجِنِّ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا أَهْلُ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ عُلَمَاءَ الْأَزْهَرِ هُنَا لَا يُعْنَوْنَ أَقَلَّ عِنَايَةٍ بِمُقَاوَمَةِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَا الْمَعَاصِي الْفَاشِيَةِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعَةً وَقَفْنَا عَلَيْهَا مِنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْتِينَا بِاللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ مِنْ رِيفِ الْجِيزَةِ. وَهِيَ أَنَّ وَلَدَهَا غَرِقَ فِي النِّيلِ فَسَأَلَتْ عَنْهُ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ فَأَخْبَرَهَا بِأَنَّ أَحَدَ الْأَسْيَادِ (أَيْ عَفَارِيتِ الْجِنِّ) أَنْقَذَهُ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ يَعِيشُ فِي ضِيقٍ وَشَظَفٍ، وَأَنَّهُ هُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِ مَا تَجُودُ بِهِ وَالِدَتُهُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ تُعْطِيهِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَمَامِ الْمَقْلِيِّ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ أُجْرَةً لِنَقْلِهِ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَصِلُ إِلَى وَلَدِهَا عِنْدَ الْعِفْرِيتِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا يُطْلِقُهُ بَعْدُ، وَمَا زَالَ أَهْلُ بَيْتِنَا يَنْصَحْنَ
لَهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ الدَّجَّالِ الْمُفْتَرِي الْمُحْتَالِ حَتَّى أَقْنَعْنَهَا بِكَذِبِهِ بَعْدَ أَنْ خَسِرَتْ كُلَّ مَا كَانَتْ تَرْبَحُهُ مِنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي سَبِيلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْأَنَاجِيلَ أَثْبَتَتْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ وَتَصْرَعُهُمْ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخْرِجُ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَفِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (٢: ٢٧٥) وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ تَمْثِيلٌ حَكَى بِهِ مَا كَانَ مَأْلُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ دُونَ الْخُرَافِيِّينَ وَقَائِعُ فِيهِ كَوَقَائِعِ الْإِنْجِيلِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ أُسْتَاذِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَهَلْ تُنْكِرُ كُلَّ ذَلِكَ أَمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟
فَالْجَوَابُ: إِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ لِهَذِهِ الْأَنَاجِيلِ أَسَانِيدَ صَحِيحَةً مُتَّصِلَةً، وَقَدْ أُمِرْنَا أَلَّا نُصَدِّقَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ فِيمَا لَا حُجَّةَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِنَا - وَإِنْ كَانَ شَيْخَا الْإِسْلَامِ مِنْ أَجَلِّ الثِّقَاتِ عِنْدَنَا فِيمَا يَرْوِيَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَعَنْ غَيْرِهِمَا بِالْجَزْمِ - فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيهَا إِجْمَالٌ، هِيَ بِهِ قَابِلَةٌ لِأَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الِاحْتِمَالِ. عَلَى أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَلَى ظَاهِرِهِ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الدَّجَّالِينَ الَّتِي يُنْكِرُهَا الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، وَأَيْنَ دَجَلُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الْمُحْتَالِينَ مِنْ مُعْجِزَةٍ أَوْ كَرَامَةٍ يُكْرِمُ اللهُ بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا أَوْ وَلِيًّا صَالِحًا، فَيَشْفِي عَلَى يَدَيْهِ مَصْرُوعًا أَلَمَّ بِهِ الشَّيْطَانُ أَمْ لَمْ يُلِمَّ، وَمَا إِلْمَامُ الشَّيْطَانِ بِبَعْضِ النَّاسِ بِالْمُحَالِ عَقْلًا حَتَّى نَحَارَ فِي فَهْمِ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَنَا بَلْ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُصْرَعُ أَصْحَابُهَا لَابَسَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهَا أَمْ لَا لَتُشْفَى بِتَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ وَبِتَأْثِيرِ إِرَادَةِ الْأَرْوَاحِ الْقَوِيَّةِ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى اللهِ تَعَالَى سَائِلَةً شِفَاءَهَا، وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينَ يُدَارُونَ الْمَادِّيِّينَ أَوْ يُبَالُونَ بِإِنْكَارِهِمْ لِكُلِّ مَا لَا يُثْبِتُهُ الْحِسُّ لَهُمْ، بَلْ نَرَى أَنَّ جُمْلَةَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَمَا اشْتَهَرَ عِنْدَ كُلِّ الْأُمَمِ يُفِيدُ فِي مَجْمُوعِهِ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمَا لَنَا لَا نَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يُعِدُّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا عَظِيمًا وَيَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَلَتَاتِ الِاتِّفَاقِ وَنَوَادِرِ الْمُصَادَفَاتِ. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَلَدِنَا (القلمون) فِي سُورِيَّةَ رَجُلٌ صَيَّادٌ اسْمُهُ (عُمَرُ كَسِنْ) رَمَى شَبَكَتَهُ لَيْلَةً فِي الْبَحْرِ فَسَمِعَ صَوْتًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ فَمَا لَبِثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ يُصْرَعُ، وَيُخَيَّلُ هُجُومُ فِئَةٍ مِنَ الْجِنِّ عَلَيْهِ يَضْرِبُونَهُ مُتَّهِمِينَ إِيَّاهُ بِإِصَابَةِ فَتَاةٍ مِنْهُمْ، وَرَآنِي وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْحِسِّ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي كُنْتُ أَخْلُو فِيهَا لِلْعِبَادَةِ وَذِكْرِ اللهِ فِي حُجْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَبِيَدِي مِخْصَرَةٌ قَصِيرَةٌ مِنَ الْأَبَنُوسِ كُنْتُ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا - وَلَمْ يَكُنْ رَأَى ذَلِكَ قَطُّ - رَآنِي أَطْرُدُ الْجِنَّ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِخْصَرَةِ، وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ ذَكَرُوا لِي أَمْرَهُ، ثُمَّ دَعَوْنِي إِلَى رُؤْيَتِهِ وَرُقْيَتِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، فَذَهَبْتُ فَأَلْفَيْتُهُ مُغْمًى عَلَيْهِ لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ مِمَّنْ
حَوْلَهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ كَانَ يَقُولُ: جَاءَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ رَشِيدٌ.... وَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَوَجَّهْتُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصٍ وَخُشُوعٍ وَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى رَأْسِهِ وَقُلْتُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَامَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ هَذَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ لَا أَذْكُرُهُ وَشَفَاهُ تَعَالَى وَأَذْهَبَ عَنْهُ الرَّوْعَ ثَانِيَةً بِنَحْوِ مِمَّا أَذْهَبَهُ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّنِي
لَمْ أَرَ أُولَئِكَ الْجِنَّ الَّذِينَ كَانَ يَرَانِي أُجَادِلُهُمْ وَأَذُودُهُمْ عَنْهُ، وَالْوَاقِعَةُ تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ عِنْدِي، وَلَا أُعِدُّهَا دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى كَوْنِ صَرْعِهِ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّهُ لَا مَانِعَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لِشُهْرَتِهَا عِنْدَنَا فِي الْبَلَدِ وَكَثْرَةِ مَنْ شَهِدَهَا.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّنِي كُنْتُ أُعَاشِرُ بَعْضَ أَصْحَابِ هَذَا الصَّرَعِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَحْدُثُ لَهُمْ وَأَنَا مَعَهُمْ قَطُّ، وَمِنْهُمْ حَمُّودَهْ بِكْ أَخُو شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، كُنْتُ أَكْثَرَ النَّاسِ مُعَاشَرَةً لَهُمْ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ يُكْثِرُ زِيَارَتَهُمْ إِلَّا وَرَأَى حَمُّودَهْ يُصْرَعُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اشْتِدَادِ النَّوْبَاتِ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِ الشَّيْخِ وَبَعْدِهِ، حَتَّى كَانَتْ رُبَّمَا تَتَعَدَّدُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أَمْكُثُ عِنْدَهُمْ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمَامِي. وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ صَدِيقُنَا مُحَمَّد شَرِيف الْفَارُوقِيُّ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى - وَلَا أَسْتَبْعِدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْأَرْوَاحِ تَأْثِيرٌ فِي بَعْضٍ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا أَنْفِي عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَوَادِرِ الِاتِّفَاقِ، وَكَانَ شُيُوخُ بَلَدِنَا يَنْقُلُونَ عَنْ جَدِّي الثَّالِثِ غَرَائِبَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَإِنَّنِي لَمْ أَذْكُرْ هَذَا إِلَّا لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنِّي أَمِيلُ فِي تَشَدُّدِي فِي كَشْفِ غِشِّ الدَّجَّالِينَ إِلَى آرَاءِ الْمَادِّيِّينَ وَثَانِيهِمَا: أَلَّا يَجْعَلَ أَحَدٌ مَا نُقِلَ عَنْ مِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِرْسَالِهِ رَسُولًا إِلَى الْمَصْرُوعِ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّيْطَانَ حُجَّةً عَلَى مَنْ يُنْكِرُ دَجَلَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ مِنْ عِبَادِ الشَّيَاطِينِ أَوِ الدُّعَاةِ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، بِتَخْوِيفِ النَّاسِ مِمَّا لَا يُخِيفُ مِنْهُمْ، أَوِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِمَا يُعَدُّ عِبَادَةً لَهُمْ، كَمَا يَعْبُدُ الْيَزِيدِيَّةُ إِبْلِيسَ جَهْرًا بِدَعْوَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَّقُونَ شَرَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى. فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ:
(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ قَدْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَجَانِسَةِ وَالْمُتَشَاكِلَةِ، أَنْ يَكُونَ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ هُمْ شِرَارُ الْجِنِّ أَوْلِيَاءَ لِشِرَارِ الْإِنْسِ،