
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا... (١٨٧) قيل: (أَيَّانَ): متى قيامها.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) أي: متى ثبوتها؛ يقال: رسا في الأرض: إذا ثبت، ورسا في الماء، ويقال للجبال: رواس؛ لثبوتها.
ثم اختلف في السؤال عما كان:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان السؤال عن الفناء وفناء الخلق وهلاكهم؛ لأنه قال في آخره: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) وونحوه قوله: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً...) الآية، وذلك يكون في الدنيا.
وقال قائلون: كان السؤال عن البعث وقيام الساعة؛ إنكارًا منهم إياها واستعجالا للعذاب؛ كقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا) وقولهم: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا...) الآية، وغير ذلك من الآيات؛ يدل على أن السؤال كان عن الساعة، وليس قوله: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) وأنه كان عن الفناء؛ إذ كانوا يعاينون الفناء؛ فلا يحتمل أن يكون السؤال عن ذلك.
ثم يحتمل بعد هذا وجهين:
أحدهما: إن كان السؤال من المكذب بها فهو سؤال استهزاء واستعجال لما ذكرنا، وإن كان من المصدق فهو سؤال استعلام وإشفاق؛ ليتأهبوا لها ويستعدوا؛ كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا)، لما سمعوا من الآيات ما يقرب وقوعها؛ كقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، وقوله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ)، وقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)، ونحوه من الآيات، وما سمعوا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " بعثت أنا والساعة كهاتين ".
وفي بعض الأخبار قال: " كادت الساعة أن تسبقني " وغير ذلك من الأخبار،

حملهم ذلك على السؤال عنها؛ ليتأهبوا لها ويستعدوا، زم أمره أن يقول: (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، أي: لا يكشفها ولا يظهر وقتها إلا هو، ليس كالأمور التي تجري على أيدي الخلق، ويكون لغيره فيها تدبير من اخراج الثمار والنبات والأمطار، وغير ذلك من الأمور التي تجري على أيدي الخلق ويكون لهم فيها تدبير، أعني الملائكة الذين سلطوا على حفظ المطر والنبات، وأما الساعة فإنها تقوم من غير أن كان لأحد من الخلائق تدبير فيها أو علم، وهو ما وصفها اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، أخبر أن أمر الساعة خارج عن تدبير الخلق؛ بل تقوم بتدبير اللَّه من غير أن يجريها على يد أحدٍ، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
قيل: ثقلت على أهل السماوات والأرض.
ثم اختلف فيه: قال قائلون: قوله: (ثَقُلَتْ) أي: خفيت على أهل السماوات والأرض، فذكر الثقل؛ لأن كل من خفي عليه شيء ثقل عليه، فذكر أنها ثقيلة عليهم؛ لخفائها عليهم.
وقال قائلون: ثقل وقوعها على أهل السماوات والأرض؛ لكثرة أهوالها وشدة وقوعها.
وأمكن أن يكون قوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على نفس السماوات والأرض؛ على ما ذكر في قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) الآْية، وذلك من شدة هولها، ولكن إن كان على نفس السماوات والأرض، أي: لو كانت هي بحيث تعرف وتميز، وبنيتها بنية من يعرف ثقل شيء لثقلت عليها، وهو ما قلنا في قوله: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) والدنيا لا تغر أحدًا، أي: ما كان منها لو كان ممن يكون منه التغرير لكان تغريرًا؛ فعلى ذلك الأول.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا).
اختلف فيه:
قال قائلون: قوله: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا)، أي: مكرم مشرف عنده ذو منزلة فيعلمك عنها، وكذلك قيل: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)، قيل: بارًّا رحيمًا.
وقال قائلون: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أي: عالم بها.
وقال قتادة: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) بهم، كأنك تحب أن يسألونك عنها.
وقال غيره: هو على التقديم والتأخير: يسألونك عنها كانك أحفي يعني كانك، استحفيت السؤال عنها حتى علمتها.
ثم قال: (قُلْ) مالي بها من علم (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أنها كائنة.
ويحتمل: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أنك لا تعلم أنها متى تكون؟ أو لا يعلمون ما عليهم وما لهم.
وقال الحسن في قوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): إذا جاءت ثقلت على أهل السماوات والأرض، وكبرت عليهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ثقل ذكرها على أهل السماوات والأرض.
وقال قتادة: أثقل علمها على أهل السماوات والأرض.
وأصله: ما ذكرنا، أي: خفي علمها على أهل السماء والأرض، وإذا خفي الشيء ثقل.
وقوله: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) ما ذكرنا من التأويل، واللَّه أعلم.