
قال تعالى «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ» أيها الناس «فِي الْأَرْضِ» وأقدرناكم على التصرف فيها وملكناكم إياها «وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ» من كل ما تحتاجون في حياتكم من مشرب ومطعم وملبس ومسكن وغيره، ومع هذا أراكم «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ١٠» صنيعي فيكم وانعامي عليكم حق شكره، وذلك أن الآية تفيد أنهم يشكرون نوعا أي قليلا جدا بالنسبة لعظم أفضال الله عليهم وان حق الشكر تصور النعمة دائما وإظهارها والثناء على المنعم، وضده الكفر وهو نسيان النعم وكتمها وكان غاية شكرهم ذكرهم النعمة عند حضورها فقط وهذا لا يخلو منه إنسان
«وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ» أيها الناس من نطفة وخلقنا أباكم من تراب «ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ» في الأرحام على صورة أبيكم الذي صورناه على الأرض «ثُمَّ» أعلمناكم على لسان رسولنا بأنا «قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ» عند تمام خلقه «اسْجُدُوا لِآدَمَ» «هذا الذي خلقته بيدي» «فَسَجَدُوا» له كلهم إذعانا لأمرنا «إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ١١» له استكبارا عليه وأنفة منه ومخالفة لنا «قالَ» تعالى يا إبليس «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» مع الملائكة ومن قال لك لا تسجد! ولا هنا ليست بزائدة لعدم جواز وجود زائد في القرآن ولا يقال إنها لا معنى لها لأن كل حرف في كتاب الله له معنى وهنا جيء بها للتأكيد أي أي شيء منعك أن تسجد، يؤيد هذا الآية في سورة ص، وهي ما منعك أن تسجد بدون لا، وقد سبق أن ذكرنا ما يتعلق بمثلها أول سورة القيمة وسورة البلد المارتين فراجعهما وسنأتي على تفنيد الاستناد الى الآيات المحتج بها على قولهم بأن لا فيها زائدة عند تفسيرها بحالها إن شاء الله «إِذْ أَمَرْتُكَ» بالسجود الأمر هنا للوجوب والسؤال للتوبيخ ولإظهار عناده وكفره وافتخاره بأصله وبيان حسده لآدم وتحقير أصله المبين بقوله «قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ١٢» حجة قاصرة تقدم تفنيدها في الآية ٧٦ من ص المارة إذ من المعلوم ان جوهر الطين الرزانة والهناءة والصبر والحلم والحياء والتثبت والمودة، وهذا ما دعا آدم وذريته إلى التوبة والندم والاستغفار، وجوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب والعجلة.

مطلب مقاييس إبليس:
وهذا ما حمل إبليس على العناد والاستكبار والافتخار، والطين عدة المسالك ومظنة الأمانة والإنماء، والنار عدة المهالك وخطة الخيانة والإفناء، والطين يطفىء النار ويتلفها وهي تصلحه وتقويه، فقد غفل اللعين عن هذه الفضائل وزل بفاسد المقاييس فأخطأ وهو أول من قاس فأخطأ، قال ابن سيرين ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، على ان الأفضلية ليست بفضيلة الأصول والجوهر بل لمن يجعله الله فضلا، لأن المؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي، وان آدم اختصه الله فجعله صفيه وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه اسماء الأشياء كلها وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية، والاستثناء في هذه الآية منقطع لأن إبليس ليس من جنس الملائكة وانما استثناه منهم لأمره بالسجود معهم ولما لم يسجد أخبر الله عنه انه لم يكن من الساجدين لا انه من الملائكة وقد ثبت انه من الجان.
قال تعالى: (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية ٥٠ من الكهف في ج ٢ وانه خلق من النار والملائكة من النور. قال تعالى «فَاهْبِطْ» أيها اللعين المتخلف عن أمرنا «مِنْها» أي الجنة «فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها» وتتجبر لأنها لم تخلق للمتكبرين ولا ينبغي أن يسكنها متجبر «فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ١٣» الأذلاء المهانين المحقّرين لعدم امتثالك أمري. وان التعظيم في الأصل لله لا لآدم.
قال ظافر الاسكندري:
أنت المراد بنظم كل قصيدة | بنيت على الأفهام في تبجيله |
كسجود أملاك السماء لآدم | وسجودهم لله في تأويله |

«قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦» أي لأعترضن لهم على طريق الإسلام القويم كما يعترض قطاع الطريق وكما يكمن العدوّ لعدوه وأردنّهم عن طاعتك وأزيننّ لهم عصيانك «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ» فأوقع الشك في قلوبهم بأمر الآخرة «وَمِنْ خَلْفِهِمْ» فأرغبنّهم في الدنيا وإنما كانت خلفهم لأنهم تاركوها لا محالة وبما أنهم قادمون للآخرة حتما فتكون بين أيديهم أي أمامهم «وَعَنْ أَيْمانِهِمْ» أشبه عليهم أمر دينهم لإبطال حسناتهم التي يكتبها ملك اليمين «وَعَنْ شَمائِلِهِمْ» أشهى لهم المعاصي لتزداد خطاياهم التي يدونها عليهم ملك الشمال، ذكر الخبيث الجهات الأربع لتأكيد إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم من كل الجهات والوجوه الممكنة، ومن تتمة كلام هذا الغضيب ما حكاه الله عنه «وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ١٧» قال هذا القول على سبيل الظن ولكنه أصاب، قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الآية ٢٠ من سبأ في ج ٢ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
مطلب مناظرة إبليس وقول سيف الدولة:
أخرج النسائي عن سيرة ابن ابي الفاكهة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، قعد له في طريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجرة فقال:
تهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول (أي محجر عليه) فعصاه وهاجر، وقعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال، فعصاه فجاهد. قال: فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان عليه أن يدخله الجنة، أو وقصته (رفسته) دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة. قال شقيق البلخي ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع، أما من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) الآية ١٨ من سورة طه الآتية، وأما من خلفي فيخوفني وقوع أولادي

في الفقر فأقرأ: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الآية ٦ من هود في ج ٢ وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ: (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) الآية ١٣٢ من طه الآتية، وأما من قبل الشمال فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) الآية ٥٤ من سبأ في ج ٢. وذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة مناظرة إبليس والملائكة وهي مذكورة في التوراة أيضا (قال للملائكة إني أسلّم أن لي إلها خالقا وموجدا لي وللخلق أجمع، ولكن ١- ما الحكمة في الخلق لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار.
٢- ما الفائدة في التكليف مع أنه لا نفع له به ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف.
٣- هب أنه كلّفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلّفني بالسجود لآدم مع علمه أني أمتنع.
٤- لما عصيته فلم لعنني وأوجب عقابي مع عدم الفائدة له ولغيره ولي فيه الضرر العظيم.
٥- إنه لما فعل ذلك لم سلطني ومكنني من إغواء الخلق.
٦- لما استمهلته لم أمهلني ويعلم أن العالم إذا كان خاليا من الشر فهو أحسن؟
قال شارح الأناجيل فأوحى الله من سرادق عظمته وكبريائه يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أن لا اعتراض عليّ في شيء، فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل. هذا، وان هذه الشبهات ليصعب على القائلين بالحسن والقبيح العقليين الجواب عنها. قال الإمام: لو اجتمع الأولون والآخرون وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا، ولهذا تجد أكثر أهل الزيف يسألون أسئلة من هذا القبيل اقتداء بسيدهم إبليس، ولو عرفوا أنه تعالى علاه لا يسأل لما سألوا. ويحكى أن سيف الدولة قال لجماعته علمت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا، فقال أبو فراس ما هو؟ قال:
لك جسمي تعلّه... فدمي لم تطلّه
فابتدره أبو فراس قائلا:
أنا إن كنت مالكا... فلي الأمر كله
رحم الله الاثنين. وعليه فمن عرف أن الأمر كله لله وعرف أن الله لا يسأل عما

يفعل ولا يرد ما حكم عرف أن الخير برضاه والشر بقضاه واعتقد هو أن ما وقع مراد الله. واعلم أن قصة إبليس المذكورة بوضوح آخر سورة ص المارة كررت في القرآن كثيرا وذلك لأن اعجاز القرآن بالتحدي والبلاغة، فتجيء مرة موجزة وأخرى مطنبة وكل منها يؤدي المعنى المطلوب منها والغرض المقصود في الفصاحة ليعلم أن القرآن ليس كلام البشر وأنه خارج عن قدرتهم الإتيان بمثله، لأن الألفاظ لا يقدر أن يستعملها أحد مختصرة ومطنبة مع المحافظة على بلاغتها وأدائها تمام الغرض المقصود إلا الذي خلقها وأن حضرة الرسول كان يضيق صدره من جفاء قومه المرة بعد المرة فيكرر الله تعالى عليه ما لاقى الرسل إخوانه من أقوامهم وما لاقاه آدم من إبليس ليخفف عنه بعض مابه، وان المسلمين أيضا كان يحصل لهم الأذى من الكفرة، فينزل الله تعالى ما لاقى إخوانهم أنصار الأنبياء السابقين، فيهون عليهم بعض ما هم فيه، ولأن القصة الواحدة تشتمل على أمور كثيرة فقد كر تارة ويقصد بها بعض الأمور قصدا، وبعضها تبعا وتعكس مرة أخرى، فتكرر عند كل مناسبة وكل منها تفي بالمقصود الموجزة والمطنبة. وهذا من الإعجاز الذي يكل عنه طوق البشر وقد بينا في سورة الكافرين المارة ما يتعلق بهذا فراجعه وله صلة في كل قصة تكرر في السورة الآتية. ونذكر أيضا ما يلائم المقام من الأحاديث والحكايات كما هنا «قالَ» تعالى علمه لإبليس «اخْرُجْ مِنْها» لأنك لم تقدرها حق قدرها، ولم تقدر الإله العظيم الذي أسكنك فيها لأنك خلقت مذموما «مَذْؤُماً» الذأم أشد العيب وأقبحه وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن «مَدْحُوراً» مطرودا مبعدا من رحمة الله ثم أقسم جل قسمه فقال: وعزتي وجلالي «لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» أي من ذرية آدم وجواب القسم «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ» أنت وذريتك ومن تبعكم من بني آدم، وفي هذه الآية تغليب ضمير المخاطب على الغائب «أَجْمَعِينَ ١٨» تأكيد لضمير منكم ثم التفت جل شأنه فقال: «وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» واتخذها مسكنا ومثوى لكما. والفعل على إضمار قلنا وجئن بضمير أنت لصحة العطف إذ لا يجوز العطف على المستتر «فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما» مما فيها. جاء هنا فعل كلا مقرونا
صفحة رقم 335
بالفاء لإفادتها الجمع على سبيل التعقيب. ولم يأت بالواو لإفادتها مطلق الجمع، والمفهوم في الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا منافات بين النوع والجنس المفهوم من الواو، فذكر في هذه السورة النوع وسيذكر في البقرة في ج ٣ في الآية ٣٥ الجنس تأمل «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» ولا تدنوا منها أي لا تأكلوا.
فقد نهاهما عن جنس الشجرة، ولم يعينها لهما، فليس لنا أن نعينها، إذ لا طائل تحتها، لأن القصد امتثال الأمر بكف المأمور عما نهي عنه، لذلك حصل الاختلاف في نوعها، فمن قائل أنها الحنطة، ومن قائل أنها التين أو التفاح، والله أعلم بمراده فيها «فَتَكُونا» إذا أكلتما منها «مِنَ الظَّالِمِينَ ١٩» أنفسهم وتكونا قد فعلتما فعلا مخالفا لأمري مما هو خلاف الأولى والأفضل ولا شك أن هذا كان قبل النبوة وسيأتي أيضا ج هذه القضية في الآية ١١٥ من طه الآتية «فَوَسْوَسَ لَهُمَا» له ولزوجته حواء «الشَّيْطانُ» بحديث مكرر مهموس ومطلي مزخرف ألقاه في قلبهما بقوة من الله تعالى يقذفها في قلب الموسوس له مثل الهواجس والخواطر التي تقضي إلى ما يقضي عنه في بني آدم، يؤيد هذا ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلم (إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) وهو محمول عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وهذا أحسن ما قيل في معنى إيصال الوسوسة من إبليس لآدم، مع إنه هبط إلى الأرض وآدم في الجنة، وما قيل إنه دخل جوف الجنة فأدخلته وقال لهما ما قال مما ذكره القصاص والأخباريون، فلا قيمة له. كما أن ما قيل إنه قام على بابها فكلمهما أو تمثل لهما بصورة دابة أو أرسل أتباعه إليهما وأتاهما بصورة طاووس من الجنة فكلمها أقاويل مجردة عن الدليل، وكذلك ما قيل إنه منع من دخول الجنة على جهة التقريب والتكريم لا على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وزوجته لا عبرة به أيضا وإنما تحرش بهما «لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما» ليكشف ما غطى وستر «مِنْ سَوْآتِهِما» سمي الفرج سوأة لاستياء الإنسان بظهوره.