الخالية من اللذائذ أي الحقيقية وهي أيام الدنيا أيضا، وقيل أي التي أخليتموها من الشهوات النفسانية وحمل عليه ما روي عن مجاهد وابن جبير ووكيع من تفسير هذه الأيام بأيام الصيام.
وأخرج ابن المنذر عن يعقوب الحنفي قال: بلغني أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: «يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ»
والظاهر أن ما على تفسير الأيام الخالية بأيام الصيام غير محمولة على العموم والعموم في الآية هو الظاهر.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ لما يرى من قبح العمل وانجلاء الحساب عما يسوءه يا لَيْتَها أي الموتة التي متّها في الدنيا كانَتِ الْقاضِيَةَ أي القاطعة لأمري ولم أبعث بعدها ولم أخلق ما ألقى فالضمير للموتة الدال عليها المقام وإن لم يسبق لها ذكر، ويجوز أن يكون لما شاهده من الحالة أي ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي لما أنه وجدها أمر من الموت فتمناه عندها وقد قيل أشد من الموت ما يتمنى الموت عنده. وقد جوز أن يكون للحياة الدنيا المفهومة من السياق أيضا والمراد بالقاضية الموتة فقد اشتهرت في ذلك أي يا ليت الحياة الدنيا كانت الموتة ولم أخلق حيا وبتفسير الْقاضِيَةَ بما ذكر اندفع ما قيل أنها تقتضي تجدد أمر ولا تجدد في الاستمرار على العدم نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي ما أغنى عني شيئا الذي كان لي في الدنيا من المال ونحوه كالاتباع على أن ما في ما أَغْنى نافية. وما في ماليه موصولة فاعل أَغْنى ومفعوله محذوف و (ليه) جار ومجرور في موضع الصلة ويجوز أن يجعل مالِيَهْ عبارة عن مال مضاف إلى ياء المتكلم والأول أظهر شمولا للإتباع ونحوها إذ لا يتأتى اعتبار ذلك على الثاني إلا باعتبار اللزوم ويجوز أن تكون ما في ما أَغْنى استفهامية للإنكار ومالِيَهْ على احتمالية أي أي شيء أغنى عني مالي هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا وبه فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي وأكثر السلف أو ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا أو تسلطي على القوى والآلات التي خلقت لي فعجزت عن استعمالها في الطاعات. يقول ذلك تحسرا وتأسفا وإلى هذا ذهب
قتادة مشيرا إلى وجه اختياره دون الثاني أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال: أما والله ما كل من دخل النار كان أمير قرية ولكن الله تعالى خلقهم وسلطهم على أبدانهم وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وبما أشار إليه رجح الأول على الثاني أيضا لكن قيل ما بعد أشد مناسبة له وستطلع إن شاء الله تعالى على ذلك. وعن ابن عباس أنها نزلت في الأسود بن عبد الأشد ويحكى عن فناخسرو الملقب بعضد الدولة ابن بويه أنه لما أنشد قوله:
ليس شرب الكأس إلا في المطر | وغناء من جوار في سحر |
غانيات سالبات للنهى | ناعمات في تضاعيف الوتر |
مبرزات الكأس من مطلعها | ساقبات الراح من فاق البشر |
عضد الدولة وابن ركنها | ملك الأملاك غلاب القدر |
ويجوز أن يراد به التكثير فقد كثر السبعة والسبعون في التكثير والمبالغة ورجح بأنه أبلغ من إبقائه على ظاهره والذراع مؤنث قال ابن الشحنة وقد ذكره بعض عكل فيقال الثوب خمس أذرع وخمسة أذرع والمراد بها المعروفة عند العرب وهي ذراع اليد لأن الله سبحانه إنما خاطبهم بما يعرفون وقال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر ذراع الملك وأخرج ابن المبارك وجماعة عن نوف البكالي أنه قال وهو يومئذ بالكوفة الذراع سبعون باعا والباع ما بينك وبين مكة ويحتاج إلى نقل صحيح وقال الحسن الله تعالى أعلم بأي ذراع هي والسلسلة حلق تدخل في حلق على سبيل الطول كأنها من تسلسل الشيء اضطرب وتنوينها للتفخيم وروي عن ابن عباس أنه قال لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص فَاسْلُكُوهُ أي فادخلوه كما في قوله تعالى فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: ٢١] وإدخاله فيها بأن تلف على جسده وتلوى عليه من جميع جهاته فيبقى مرهقا فيما بينها لا يستطيع حراكا ما وعن ابن عباس أن أهل النار يكونون فيها كالتعلب في الجبة والتعلب طرف خشبة الرمح والجبة الزج. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريح قال قال ابن عباس إن السلسلة تدخل في استه ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى.
وفي رواية أخرج عنهم أنها تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه ومن هنا قيل إن في الآية قلبا والأصل صفحة رقم 56
فاسلكوها فيه والجمهور على الظاهر والفاء جزائية كما في قوله تعالى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: ٣] والتقدير مهما يكن من شيء فاسلكوه في سلسلة إلخ فقدم الظرف وما معه عوضا عن المحذوف ولتتوسط الفاء كما هو حقها وليدل على التخصيص كأنه قيل لا تسلكوه إلّا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق من الجحيم ويجوز أن يكون التقدير هكذا ثم مهما يكن من شيء ففي سلسلة ذرعها سبعون ذراعا اسلكوه ففيه تقديمان تقديم الظرف على الفعل للدلالة على التخصيص وتقديمه على الفاء بعد حذف حرف الشرط للتعويض وتوسيط الفاء وثُمَّ في الموضعين لتفاوت ما بين أنواع ما يعذبون به من الغل والتصلية والسلك على ما اختاره جمع، وجوز بعضهم كونها على ظاهرها من الدلالة على المهلة ورجح الأول بأنه أنسب بمقام التهديد، وزعم بعض أن ثُمَّ الثانية لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل خُذُوهُ إشعارا بتفاوت ما بين الأمرين وفاء فَاسْلُكُوهُ لعطف المقول على المقول لئلا يتوارد حرفا عطف على معطوف واحد ويلزمه أن يكون تقديم السلسلة على الفاء بعد حذف القول لئلا يلزم التوارد المذكور ومبنى هذا التكلف البادر الغفلة عما ذكرناه فلا تغفل ويعلم منه وهن ما قيل إنه ليس في الآية ما يفيد التخصيص لأن فِي سِلْسِلَةٍ ليس معمولا لاسلكوه لئلا يلزم الجمع بين حرفي عطف بل هو معمول لمحذوف فيقدر مقدما على الأصل على أن تقديم الجحيم كالقرينة على كون فِي سِلْسِلَةٍ مقدما على عامله إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ تعليل على طريقة الاستئناف للمبالغة كأنه قيل لم استحق هذا قيل لم استحق هذا فقيل لأنه كان في الدنيا مستمرا على الكفر بالله تعالى العظيم وقيل أي كان في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر أنه لا يتصف بالإيمان به عزّ وجلّ والأول هو الظاهر، وذكر الْعَظِيمِ للإشارة إلى وجه عظم عذابه، وقيل للإشعار بأنه عزّ وجلّ المستحق للعظمة فحسب فمن نسبها إلى نفسه استحق أعظم العقوبات وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي ولا يحث على بذل طعامه الذي يستحقه في مال الموسر ففيه مضاف مقدر لأن الحث إنما يكون على الفعل، والطعام ليس به ويجوز أن يكون الطعام بمعنى الإطعام بوضع الاسم موضع المصدر كالعطاء بمعنى الإعطاء أي ولا يحث على إطعام المسكين فضلا عن أن يبذل ما له فليس هناك مضاف محذوف. وقيل ذكر الحض للإشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل.
وما أحسن قول زينب الطثرية ترثي أخاها يزيد:
إذا نزل الأضياف كان عذورا | على الحي تستقل مراجله |
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي صفحة رقم 57
سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا
وجعله بعضهم متحدا مع الضريع. وقال بعضهم: هما متباينان وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى ولَهُ خبر (ليس) قال المهدوي ولا يصح أن يكون هاهنا ولم يبين ما المانع من ذلك وتبعه القرطبي في ذلك. وقال لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ولا يصح ذلك لأن ثم طعاما غيره وهاهُنا متعلق بما في لَهُ من معنى الفعل انتهى.
وتعقب ذلك أبو حيان فقال: إذا كان ثم غيره من الطعام وكان الأكل أكلا آخر صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين. وأما إن كان الضريع هو الغسلين كما قال بعضهم فلا تناقض بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية: ٦] إذ المحصور في الآيتين هو من شيء واحد وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره وهو إنه إذا جعلنا هاهُنا الخبر كان لَهُ والْيَوْمَ متعلقين بما تعلق به الخبر وهو العامل في هاهُنا وهو عامل معنوي فلا يتقدم معموله عليه فلو كان العامل لفظيا جاز كقوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:
٤] فله متعلق بكفوا وهو خبر ليكن اهـ. وفي إطلاق العامل المعنوي على متعلق الجار والمجرور المحذوف بحث لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أصحاب الخطايا من خطىء الرجل إذا تعمد الذنب لا من الخطأ المقابل للصواب دون المقابل للعمد والمراد بهم على ما روي عن ابن عباس المشركون. وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في رواية «الخاطيون» بياء مضمومة بدلا من الهمزة وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية أخرى ونافع بخلاف عنه «الخاطون» بطرح الهمزة بعد إبدالها تخفيفا على أنه من خطىء كقراءة من همز وعن ابن عباس ما يشعر بإنكار ذلك أخرج الحاكم وصححه من طريق أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر عنه أنه قال: ما الخاطون إنما هو الخاطئون ما الصابئون إنما هو الصائبون وفي رواية ما الخاطون كلنا نخطو كأنه يريد أن التخفيف هكذا ليس قياسا وهو ملبس مع ذلك فلا يرتكب وقيل هو من خطا يخطو فالمراد بهم الذين يتخطون من الطاعة إلى العصيان ومن الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عزّ وجلّ فيكون كناية عن المذنبين أيضا هذا وظواهر هذه الآيات أن المؤمن الطائع يؤتى كتابه بيمينه والكافر يؤتى كتابه بشماله ولم يعلم منها حال الفاسق الذي مات على فسقه من غير توبة بل قيل ليس في القرآن بيان حاله صريحا وقد اختلف في أمره فجزم الماوردي بأن المشهور أنه يؤتى كتابه بيمينه ثم حكى قولا بالوقف وقال لا قائل بأنه يؤتاه بشماله وقال يوسف بن عمر اختلف في عصاة المؤمنين فقيل يأخذون كتبهم بأيمانهم وقيل بشمالهم، واختلف الأولون فقيل: يأخذونها قبل الدخول في النار ويكون ذلك علامة على عدم خلودهم فيها. وقيل يأخذونها بعد الخروج منها ومن أهل العلم من توقف لتعارض النصوص ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والمثبت مقدم على النافي ثم إنه ليس في هذه الآيات تصريح بقراءة العبد كتابه والوارد في ذلك مختلف والذي يجمع الآيات والأحاديث على ما قال اللقاني أن من الآخذين من لم يقرأ كتابه لاشتماله على المخازي والقبائح والجرائم والفضائح فيأخذه بسبب ذلك الدهش والرعب حتى لا يميز شيئا كالكافر ومنهم من يقرؤه بنفسه ومنهم من يدعو أهل حاضره لقراءته إعجابا بما فيه وظواهر النصوص أن القراءة حقيقية وقيل مجازية عبر بها عن العلم وليس بشيء. ولفظ الحسن يقرأ كل إنسان كتابه أميا كان أو غير أمي وظواهر الآثار أن الحسنات تكتب متميزة من السيئات فقيل إن سيئات المؤمن أول كتابه وآخره هذه ذنوبك قد سترتها وغفرتها وإن حسنات الكافر أول كتابه وآخره هذه حسناتك قد رددتها عليك وما قبلتها. وقيل يقرأ المؤمن سيئات نفسه ويقرأ الناس حسناته حتى يقولوا ما لهذا العبد سيئة ويقول ما لي حسنة.
وقيل كل يقرأ حسناته وسيئاته وأول سطر من كتاب المؤمن أبيض فإذا قرأه ابيض وجهه والكافر على ضد ذلك وظواهر الآيات والأحاديث عدم اختصاص إيتاء الكتب بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء لما في بعضها مما يشعر بالاختصاص
ففي حديث رواه أحمد عن أبي الدرداء أنه عليه الصلاة والسلام قال وقد قال له رجل: كيف تعرف أمّتك
من بين الأمم فيما بين نوح عليه السلام إلى أمتك يا رسول الله: «هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم» الحديث
. وقد تقدم فتذكر والحق أن الجن في هذه الأمور حكمهم حكم الإنس على ما بحثه القرطبي وصرح به غيره نعم الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام لا يأخذون كتابا بل إن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومنهم أو بكر رضي الله تعالى عنه لا يأخذون أيضا كتابا وأول من يؤتي كتابه بيمينه فله شعاع كشعاع الشمس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما في الحديث وبعده أو سلمة بن عبد الأشد وأول من يأخذ كتابه بشماله أخوه الأسود بن عبد الأشد الذي مر ذكره غير بعيد والآثار في كيفية وصول الكتب إلى أيدي أصحابها مختلفة
فقد ورد أن الريح تطيرها من خزانة تحت العرش فلا تخطىء صحيفة عنق صاحبها
وورد أن كل أحد يدعي فيعطى كتابه وجمع بأخذ الملائكة عليهم السلام إياها من أعناقهم ووضعهم لها في أيديهم
والله تعالى أعلم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ قد تقدم الكلام في فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: ٧٥] وما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ المشاهدات والمغيبات وإليه يرجع قول قتادة هو عام في جميع مخلوقاته عزّ وجلّ. وقال عطاء ما تُبْصِرُونَ من آثار القدرة وَما لا تُبْصِرُونَ من أسرار القدرة. وقيل الأجسام والأرواح وقيل الدنيا والآخرة وقيل الإنس والجن والملائكة وقيل الخلق والخالق وقيل النعم الظاهرة والباطنة والأول شامل لجميع ما ذكر وسبب النزول على ما قال مقاتل إن الوليد قال: إن محمدا صلّى الله عليه وسلم ساحر وقال أبو جهل شاعر وقال عتبة كاهن فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه فَلا أُقْسِمُ إلخ إِنَّهُ أي القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ يبلغه عن الله تعالى فإن الرسول لا يقول عن نفسه كَرِيمٍ على الله عزّ وجلّ وهو النبي صلّى الله عليه وسلم في قول الأكثرين. وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة هو جبريل عليه السلام وقوله تعالى وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ إلخ قيل دليل لما قاله الأكثرون لأن المعنى على إثبات أنه عليه الصلاة والسلام رسول لا شاعر ولا كاهن كما يشعر بذلك سبب النزول وتوضيح ذلك أنهم ما كانوا يقولون في جبريل عليه السلام أنه كذا وكذا وإنما كانوا يقولونه في النبي صلّى الله عليه وسلم فلو أريد برسول كريم جبريل عليه السلام لفات التقابل ولم يحسن العطف كما تقول إنه لقول عالم وما هو بقول جاهل ولو قلت وما هو بقول شجاع نسبت إلى ما تكره وتعقبه بعض الأئمة بأن هذا صحيح إن سلم أن المعنى على إثبات رسول لا شاعر ويكون قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ لا قول شاعر إثباتا للرسالة على طريق الكناية أما إذا جعل المقصود من السياق إثبات حقية المنزل وأنه من الله عزّ وجلّ فإنه تذكرة لهؤلاء وحسرة لمقابليهم وهو في نفسه صدق ويقين لا يحوم حوله شك كما يدل عليه ما بعد. فللقول الثاني أيضا موقع حسن وكأنه قيل إن هذا القرآن لقول جبريل الرسول الكريم وما هو من تلقاء محمد صلّى الله عليه وسلم كما تزعمون وتدعون أنه شاعر وكاهن ويكون قد نفى عنه صلّى الله عليه وسلم الشعر والكهانة على سبيل الإدماج انتهى وهو تحقق حسن قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أي تصدقون تصديقا قليلا على أن قَلِيلًا صفة للمفعول المطلق لتؤمنون وما مزيدة للتأكيد والقلة بمعناها الظاهر لأنهم لظهور صدقه صلّى الله عليه وسلم لزم تصديقهم له عليه الصلاة والسلام في الجملة وإن أظهروا خلافه عنادا وأبوه تمردا بألسنتهم وحمل الزمخشري القلة على العدم والنفي أي لا تؤمنون البتة ولا كلام فيه سوى أنه دون الأول في الظهور. وقال أبو حيان: لا يراد بقليلا هنا النفي المحض كما زعم فذلك لا يكون إلّا في أقل نحو أقل رجل يقول كذا إلّا زيد وفي قل نحو قل رجل يقول كذا إلّا زيد وقد يكون في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين نحو ما جوزوا في قوله:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة | قليل بها الأصوات إلّا بغامها |
لأنه في قليلا ضربت منصوب بضربت ولم تستعمل العرب قليلا إذا انتصب بالفعل نفيا بل مقابلا للكثير وأما في قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فيحتاج إلى رفع قليل لأن ما المصدرية في موضع رفع على الابتداء اهـ. وأنت تعلم أن مثل ذلك لا يسمع على مثل الزمخشري بغير دليل فإن الظاهر أنه ما قال ما قال إلّا عن وقوف وهو فارس ميدان العربية وجوز كونه صفة لزمان محذوف أي زمانا قليلا تؤمنون وذلك على ما قيل إذا سئلوا من خلقهم أو من خلق السماوات والأرض فإنهم يقولون حينئذ الله تعالى. وقال ابن عطية نصب قَلِيلًا بفعل مضمر يدل عليه تُؤْمِنُونَ ويحتمل أن تكون ما نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية وما يتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي وقد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا ككون الصلة والعفاف اللذين كانا يأمر بهما عليه الصلاة والسلام حقا وصوابا اهـ. وتعقب بأنه لا يصح نصب قَلِيلًا بفعل مضمر دال عليه تُؤْمِنُونَ لأنه إما أن تكون ما المقدرة معه نافية فالفعل المنفي بما لا يجوز حذفه وكذا حذف ما فلا يجوز زيدا ما أضربه على تقدير ما أضرب زيدا ما أضربه وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفع على الفاعلية بقليلا أي قليلا إيمانكم ويرد عليه لزوم عمله من غير تقدم ما يعتمد عليه ونصبه لا ناصب له وإما في موضع رفع على الابتداء ويرد عليه لزوم كونه مبتدأ بلا خبر لأن ما قبله منصوب لا مرفوع فتأمل. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما والحسن والجحدري «يؤمنون» بالياء التحتية على الالتفات وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ كما تدعون مرة أخرى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرون تذكرا قليلا فلذلك يلتبس الأمر عليكم وتمام الكلام فيه إعرابا كالكلام فيما قبله وكذا القراءة وذكر الإيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية قيل لما أن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بيّن لا ينكره إلّا معاند فلا عذر لمدعيها في ترك الإيمان وهو أكفر من حمار بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله صلّى الله عليه وسلم ومعاني القرآن المنافية لطريق الكهانة ومعاني أقوالهم وتعقب بأن ذلك أيضا مما يتوقف على تأمل قطعا وأجيب بأنه يكفي في الغرض الفرق بينهما أن توقف الأول دون توقف الثاني تَنْزِيلٌ أي هو تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ نزله سبحانه على لسان جبريل عليه السلام. وقرأ أبو السمال «تنزيلا» بالنصب بتقدير نزله تنزيلا وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ التقول الافتراء وسمي تقولا لأنه قول متكلف والأقاويل الأقوال المفتراة وهي جمع قول على غير القياس أو جمع أقوال فهو جمع الجمع كأناعيم جمع أنعام، وأبابيت جمع أبيات. وفي الكشاف سمي الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول. وتعقبه ابن المنبر بأن أفعولة من القول غريب عن القياس التصريفي وأجيب بأنه غير وارد لأن مراده أنه جمع لمفرد غير مستعمل لأنه لا وجه لاختصاصة بالافتراء غير ما ذكر والأحسن أن يقال بمنع اختصاصه وضعا وأنه جمع على ما سمعت والتحقير جاء من السياق والمراد لو ادعى علينا شيئا لم نقله لَأَخَذْنا مِنْهُ أي لأمسكناه وقوله تعالى بِالْيَمِينِ أي بيان بيمينه بعد الإبهام كما في قوله سبحانه أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: ١] ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ أي وتينه وهو كما قال ابن عباس نياط القلب الذي إذا انقطع مات صاحبه وعن مجاهد أنه الحبل الذي في الظهر وهو النخاع. وقال الكلبي هو عرق بين العلباء وهي عصب العنق والحلقوم وقيل عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ومنه قول الشماخ بن ضرار:
إذا بلغتني وحملت رحلي | عرابة فاشرقي بدم الوتين |
بالسيف ويضرب عنقه. وعن الحسن أن المعنى لقطعنا يمينه ثم لقطعنا وتينه عبرة ونكالا والباء عليه زائدة وعن عباس أن اليمين بمعنى القوة والمراد أخذ بعنف وشدة وضعف بأن فيه ارتكاب مجاز من غير فائدة وأنه يفوت فيه التصوير والتفصيل والإجمال ويصير منه زائدا لا فائدة فيه. وقرأ ذكوان وابنه محمد «ولو يقول» مضارع قال وقرىء «ولو تقوّل» مبنيا للمفعول فنائب الفاعل بَعْضَ إن كان قد قرىء مرفوعا وإن كان قد قرىء منصوبا فهو عَلَيْنا فَما مِنْكُمْ أيها الناس مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ أي عن هذا الفعل وهو القتل حاجِزِينَ أي مانعين يعني فما يمنع أحد عن قتله واستظهر عود ضمير عَنْهُ لمن عاد عليه ضمير تَقَوَّلَ والمعنى فما يحول أحد بيننا وبينه والظاهر في حاجِزِينَ أن يكون خبرا لما على لغة الحجازيين لأنه هو محط الفائدة ومِنْ زائدة وأَحَدٍ اسمها ومِنْكُمْ قيل في موضع الحال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له فلما تقدم أعرب حالا كما هو الشائع في نعت النكرة إذا تقدم عليها ونظر في ذلك وقيل للبيان أو متعلق بحاجزين كما تقول ما فيك زيد راغبا. ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر (ما) وقال الحوفي وغيره إن حاجِزِينَ نعت لأحد وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومنه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
[البقرة: ٢٨٥] ولَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: ٣٢] فأحد مبتدأ والخبر مِنْكُمْ وضعف هذا القول بأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز مع أنه الحقيق بتسلطه عليه وَإِنَّهُ أي القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ لأنهم المنتفعون به وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ فنجازيهم على تكذييهم وقيل الخطاب للمسلمين والمعنى أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن وَإِنَّهُ أي القرآن لَحَسْرَةٌ عظيمة عَلَى الْكافِرِينَ عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين وقال مقاتل وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم فأعادا الضمير للمصدر المفهوم من قوله تعالى مُكَذِّبِينَ والأول أظهر وَإِنَّهُ أي القرآن لَحَقُّ الْيَقِينِ أي لليقين حق اليقين والمعنى لعين اليقين فهو على نحو عين الشيء ونفسه والإضافة بمعنى اللام على ما صرح به في الكشف وجوز أن تكون الإضافة فيه على معنى من أي الحق الثابت من اليقين وقد تقدم في الواقعة ما ينفعك هنا فتذكره وذكر بعض الصوفية قدست أسرارهم أن أعلى مراتب العلم حق اليقين ودونه عين اليقين ودونه علم اليقين فالأول كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه والثاني كعلمه به عند معاينة ملائكته عليهم السلام. والثالث كعلمه به في سائر أوقاته وتمام الكلام في ذلك يطلب من كتبهم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحى إليك من هذا القرآن الجليل الشأن وقد مر نحو هذا في الواقعة أيضا فارجع إليه إن أردت والله تعالى الموفق.