
كذب مأخوذ من أساطير الأولين كقوله تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: ١١- ٢٦].
وقال تعالى هاهنا: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : سَنَبِينُ أَمْرَهُ بَيَانًا وَاضِحًا حَتَّى يَعْرِفُوهُ وَلَا يَخْفَى عليهم كما لا تخفى عليهم السِّمَةُ عَلَى الْخَرَاطِيمِ، وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ:
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ شَيْنٌ لَا يُفَارِقُهُ آخِرَ مَا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. سِيمَا عَلَى أَنْفِهِ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ يُقَاتِلُ يَوْمَ بَدْرٍ فَيُخْطَمُ بِالسَّيْفِ فِي الْقِتَالِ.
وَقَالَ آخَرُونَ سَنَسِمُهُ سِمَةَ أَهْلِ النَّارِ يَعْنِي نُسَوِّدُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَبَّرَ عَنِ الْوَجْهِ بِالْخُرْطُومِ. حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَمَالَ إِلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ اجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي سُورَةِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: ١] حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ حدثني خالد بن سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ يُكْتَبُ مُؤْمِنًا أَحْقَابًا ثُمَّ أَحْقَابًا ثُمَّ يَمُوتُ وَاللَّهُ عَلَيْهِ سَاخِطٌ، وَإِنَّ الْعَبْدَ يُكْتَبُ كَافِرًا أَحْقَابًا ثُمَّ أَحْقَابًا ثُمَّ يَمُوتُ وَاللَّهُ عَلَيْهِ رَاضٍ، وَمَنْ مَاتَ هَمَّازًا لَمَّازًا مُلَقِّبًا لِلنَّاسِ كَانَ عَلَامَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَسِمَهُ اللَّهُ على الخرطوم من كلا الشفتين».
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ فِيمَا أَهْدَى إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَأَعْطَاهُمْ من النعم الجسيمة، وهو بِعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَابَلُوهُ بِالتَّكْذِيبِ والرد والمحاربة، ولهذا قال تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ وهي البستان المشتمل على

أَنْوَاعِ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ أَيْ حَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ لَيَجُذُّنَّ ثَمَرَهَا لَيْلًا لِئَلَّا يَعْلَمَ بِهِمْ فَقِيرٌ وَلَا سَائِلٌ لِيَتَوَفَّرَ ثَمَرُهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَصَدَّقُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ وَلا يَسْتَثْنُونَ أَيْ فِيمَا حَلَفُوا بِهِ، وَلِهَذَا حَنَّثَهُمُ الله في أيمانهم فقال تعالى: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ أَيْ أَصَابَتْهَا آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ.
قَالَ ابن عباس كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ مِثْلَ الزَّرْعِ إِذَا حُصِدَ أَيْ هَشِيمًا يَبَسًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الصَّبَّاحِ أنبأنا بشير بْنُ زَاذَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ صُبْحٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْمَعَاصِيَ إِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ بِهِ رِزْقًا قَدْ كَانَ هُيِّئَ لَهُ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ قَدْ حُرِمُوا خَيْرَ جَنَّتِهِمْ بِذَنْبِهِمْ.
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَيْ لَمَّا كَانَ وَقْتُ الصُّبْحِ نَادَى بعضهم بعضا ليذهبوا إلى الجذاذ أي القطع أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أَيْ تُرِيدُونَ الصِرَامَ قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ حَرْثُهُمْ عِنَبًا فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَيْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُسْمِعُونَ أَحَدًا كَلَامَهُمْ. ثُمَّ فسر الله سبحانه وتعالى عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى مَا كَانُوا يَتَخَافَتُونَ بِهِ فقال تعالى: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تُمَكِّنُوا الْيَوْمَ فَقِيرًا يَدْخُلُهَا عَلَيْكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ أَيْ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ أَيْ جِدٍّ، وقال عكرمة: على غَيْظٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَلى حَرْدٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَلى حَرْدٍ أَيْ كَانَ اسْمُ قريتهم حرد فَأَبْعَدَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ هَذَا قادِرِينَ أَيْ عَلَيْهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ وَيَرُومُونَ فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أَيْ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا وَأَشْرَفُوا عَلَيْهَا وَهِيَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اسْتَحَالَتْ عَنْ تِلْكَ النَّضَارَةِ وَالزَّهْرَةِ وَكَثْرَةِ الثِّمَارِ إِلَى أَنْ صَارَتْ سَوْدَاءَ مُدْلَهِمَّةً لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَخْطَئُوا الطَّرِيقَ وَلِهَذَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أَيْ قَدْ سَلَكْنَا إِلَيْهَا غَيْرَ الطَّرِيقِ فَتُهْنَا عَنْهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ رَجَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ وَتَيَقَّنُوا أَنَّهَا هِيَ فَقَالُوا بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي بل هي هذه وَلَكِنْ نَحْنُ لَا حَظَّ لَنَا وَلَا نَصِيبَ.
قالَ أَوْسَطُهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ: أَيْ أَعْدَلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أَيْ لَوْلَا تَسْتَثْنُونَ قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ تَسْبِيحًا وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أَيْ هَلَّا تُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ.