آيات من القرآن الكريم

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ
ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ

كَمَا كَفَرْتُمْ، فَلَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ فِي إِيرَادِهِ نَفْيَ الْإِشْرَاكِ وَإِثْبَاتَ التَّوْحِيدِ، إِذِ الْكَلَامُ فِي الْإِهْلَاكِ وَالْإِنْجَاءِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ ب رَحِمَنا [الْملك: ٢٨] فَجِيءَ بِجُمْلَةِ آمَنَّا عَلَى أَصْلٍ مُجَرَّدٍ مَعْنَاهَا دُونَ قَصْدِ الْاخْتِصَاصِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لِأَنَّ التَّوَكُّلَ يَقْتَضِي مُنْجِيًا وَنَاصِرًا،
وَالْمُشْرِكُونَ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى أَصْنَامِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَقِيلَ: نَحْنُ لَا نَتَّكِلُ عَلَى مَا أَنْتُم متكلون عَلَيْهِ، بل على الرحمان وَحْدَهُ تَوَكُّلُنَا.
وَفِعْلُ فَسَتَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِمَجِيءِ الْاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَسَتَعْلَمُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا أُمِرَ بِقَوْلِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِيَاءِ الْغَائِبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأَنَّهُ سَيُعَاقِبُهُمْ عِقَاب الضالّين.
[٣٠]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٣٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)
إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُهُمْ عَذَابُ الْجُوعِ بِالْقَحْطِ وَالْجَفَافِ فَإِنَّ مَكَّةَ قَلِيلَةُ الْمِيَاهِ وَلَمْ تَكُنْ بِهَا عُيُونٌ وَلَا آبَارٌ قَبْلَ زَمْزَمَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ خَبَرُ تَعَجُّبِ الْقَافِلَةِ مِنْ (جُرْهُمَ) الَّتِي مَرَّتْ بِمَوْضِعِ مَكَّةَ حِينَ أَسْكَنَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَاجَرَ بِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ فَفَجَّرَ اللَّهُ لَهَا زَمْزَمَ وَلَمَحَتِ الْقَافِلَةُ الطَّيْرَ تَحُومُ حَوْلَ مَكَانِهَا فَقَالُوا: مَا عَهِدْنَا بِهَذِهِ الْأَرْضِ مَاءً، ثُمَّ حَفَرَ مَيْمُونُ بْنُ خَالِدٍ الْحَضْرَمِيُّ بِأَعْلَاهَا بِئْرًا تُسَمَّى بِئْرُ مَيْمُونٍ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ قُبَيْلَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَتْ بِهَا بِئْرٌ أُخْرَى تُسَمَّى الْجَفْرُ (بِالْجِيمِ) لِبَنِيِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةٍ، وَبِئْرٍ تُسَمَّى الْجَمُّ ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ وأهملها «الْقَامُوس» و «تاجه»، وَلَعَلَّ هَاتَيْنِ الْبِئْرَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ لَمْ تَكُونَا فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَمَاءُ هَذِهِ الْآبَارِ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِأَنَّهُ يُصْبِحُ غَوْرًا، وَهَذَا الْإِنْذَارُ نَظِيرُ الْوَاقِعِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [١٧- ٣٣] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَى قَوْلِهِ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
وَالْغَوْرُ: مَصْدَرُ غَارَتِ الْبِئْرُ، إِذَا نَزَحَ مَاؤُهَا فَلَمْ تَنَلْهُ الدِّلَاءُ.
وَالْمرَاد: مَاء الْبِئْر كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فِي ذِكْرِ جَنَّةِ سُورَةِ الْكَهْفِ

صفحة رقم 55

وَأَصْلُ الْغَوْرِ: ذَهَابُ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ، مَصْدَرُ غَارَ الْمَاءُ إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنِ الْمَاءِ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: عَدْلٍ وَرِضًى. وَالْمَعِينُ:
الظَّاهِرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْبِئْرُ الْمَعِينَةُ: الْقَرِيبَةُ الْمَاءِ على وَجه التَّشَبُّه.
وَالْاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَأْتِيكُمْ أَحَدٌ بِمَاءٍ مَعِينٍ: أَيْ غَيْرَ اللَّهِ وَأَكْتَفِي عَنْ ذِكْرِهِ لِظُهُورِهِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَمِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الْملك: ٢٠] الْآيَتَيْنِ.
وَقَدْ أُصِيبُوا بِقَحْطٍ شَدِيدٍ بَعْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ انْحِبَاسَ الْمَطَرِ يَتْبَعُهُ غَوْرُ مِيَاهِ الْآبَارِ لِأَنَّ اسْتِمْدَادَهَا مِنَ الْمَاءِ النَّازِلِ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: ٢١] وَقَالَ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ [الْبَقَرَة: ٧٤].
وَمِنَ النَّوَادِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» مَعَ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي «بَيَانِهِ» : ، قَالَ: وَعَنْ بَعْضِ الشُطَّارِ (هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ الطَّبِيبُ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ) أَنَّهَا (أَيْ هَذِهِ الْآيَةِ) تُلِيَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ: تَجِيءُ بِهِ (أَي المَاء) الفؤوس وَالْمَعَاوِلُ، فَذَهَبَ مَاءُ عَيْنَيْهِ. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى آيَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

صفحة رقم 56

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٦٨- سُورَةُ الْقَلَمِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» سُورَةَ ن وَالْقَلَمِ عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَوَّلِهَا، أَيْ سُورَةُ هَذَا اللَّفْظِ.
وَتَرْجَمَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سُورَةَ ن بِالْاقْتِصَارِ عَلَى الْحَرْفِ الْمُفْرَدِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ مِثْلُ مَا سُمِّيَتْ سُورَةُ ص وَسُورَةُ ق.
وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ سُمِّيَتْ سُورَةُ الْقَلَمِ وَكَذَلِكَ رَأَيْتُ تَسْمِيَتَهَا فِي مُصْحَفٍ مَخْطُوطٍ بِالْخَطِّ الْكُوفِيِّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا: أَوَّلُهَا مَكِّيٌّ، إِلَى قَوْلِهِ:
عَلَى الْخُرْطُومِ [الْقَلَم: ١٦] وَمِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إِلَى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْقَلَم:
١٧- ٣٣] مَدَنِيٌّ، وَمِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الْقَلَم: ٣٤- ٤٧] مَكِّيٌّ

صفحة رقم 57

وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ [الْقَلَم:
٤٨- ٥٠] مَدَّنِيٌّ، وَمِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْقَلَم: ٥١] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مَكِّيٌّ.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ السَّخَاوِيِّ: أَنَّ الْمَدَنِيَّ مِنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إِلَى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْقَلَم: ١٧- ٣٣] وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ [الْقَلَم: ٤٨- ٥٠] فَلَمْ يَجْعَلْ قَوْلَهُ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الْقَلَم:
٣٤- ٤٧] مَدَنِيًّا خِلَافًا لِمَا نَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ عَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ثَانِيَةَ السُّورِ نُزُولًا قَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَبَعْدَهَا سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ ثُمَّ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، وَالْأَصَحُّ حَدِيثُ عَائِشَةَ «أَنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ
سُورَةُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ»
.
وَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ» يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : أَنَّ مُعْظَمَ السُّورَةِ نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلٍ.
وَاتَّفَقَ الْعَادُّونَ عَلَى عَدِّ آيِهَا ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ.
أَغْرَاضُهَا
جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِيمَاءُ بِالْحَرْفِ الَّذِي فِي أَوَّلِهَا إِلَى تَحَدِّي الْمُعَانِدِينَ بِالتَّعْجِيزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَوَّلُ التَّحَدِّي الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ إِذْ لَيْسَ فِي سُورَةِ الْعَلَقِ وَلَا فِي الْمُزَّمِّلِ وَلَا فِي الْمُدَّثِّرِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَدِّي وَلَا تَصْرِيحٌ.
وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَدِّي بِمُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [الْقَلَم: ١].
وَابْتُدِئَتْ بِخِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْنِيسًا لَهُ وَتَسْلِيَةً عَمَّا لَقِيَهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ.
وَإِبْطَالُ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِثْبَاتُ كَمَالَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَدْيِهِ وَضَلَالِ مُعَانَدِيهِ وَتَثْبِيتِهِ.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِمَا هُوَ مِنْ مَظَاهِرِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ

صفحة رقم 58
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية