
وروى أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفى عنها فى حجة الوداع وهى حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما، فاختضبت واكتحلت وتزينت تريد الزواج، فأنكر ذلك عليها، فسئل النبي ﷺ فقال: «إن تفعل فقد خلا أجلها».
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي ومن يخف الله ويرهبه، فيؤدى فرائضه ويجتنب نواهيه- يسهل عليه أموره، ويجعل له من كل ضيق فرجا، وينر له طريق الهدى فى كل ما يعرض له من المشكلات، فإن فى قلب المؤمن نورا يهديه إلى حلّ عويصات الأمور.
وفى الآية إيماء إلى فضيلة التقوى فى أمور الدنيا والآخرة، وأنها المخرج من كل ضيق يعرض للمرء فيهما.
(ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي هذا الذي شرع لكم من الأحكام السالفة فى الطلاق والسكنى والعدة- هو أمر الله الذي أمركم به وأنزله إليكم لتأتمروا به، وتعملوا وفق نهجه.
ثم كرر الأمر بالتقوى لأنها ملاك الأمر وعماده فى الدنيا والآخرة فقال:
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي ومن يخف الله فيؤدّ فرائضه ويجتنب نواهيه- يمح عنه ذنوبه كما وعد بذلك فى كتابه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» ويجزل له الثواب على يسير الأعمال.
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٦ الى ٧]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)

شرح المفردات
من وجدكم: أي من وسعكم، وقال الفراء: أي على قدر طاقتكم، ولا تضاروهن:
أي فى النفقة والسكنى، لتضيقوا عليهن: أي لتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه، ائتمروا: أي تآمروا وتشاوروا، بمعروف: أي بجميل فى الأجر والإرضاع، فلا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة، وإن تعاسرتم: أي ضيق بعضكم على بعض بالمشاقة فى الأجر أو يطلب الزيادة، قدر عليه:
أي ضيق، آتاه الله: أي أعطاه، ما آتاها: أي إلا بقدر ما أعطاها من الأرزاق قلّ أو جلّ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقدار العدة للصغار والكبار والحوامل- أرشد إلى ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة، ثم أردف ذلك ببيان أن الحوامل لهنّ النفقة والسكنى مدة الحمل بالغة ما بلغت، فإذا هنّ ولدن وجب لهنّ الأجر على إرضاع المولود فإن لم يتفقا عليه أتى بمرضع أخرى يدفع الأب نفقتها، والأم أحق بالإرضاع إذا هى رضيت بمثل أجرتها، والنفقة لكل من الموسر والمعسر على قدر ما يستطيع، فالله لا يكلف نفسا إلا ما تطيق.
الإيضاح
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) أي أسكنوا مطلقات نسائكم فى الموضع الذي تسكنون فيه على مقدار حالكم، فإن لم تجدوا إلا حجرة بجانب

حجرتكم فأسكنوها فيها، وإنما أمر الرجال بذلك، لأن السكنى نوع من النفقة وهى واجبة على الأزواج.
ثم نهى عن مضارّة المطلقات فى السكنى فقال:
(وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) أي ولا تستعملوا معهن الضرار فى السكنى بشغل المكان أو بإسكان غيرهنّ معهنّ ممن لا يحببن السكنى معه، لتلجئوهنّ إلى الخروج من مساكنهن.
ثم بيّن نفقة الحوامل فقال:
(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) لأنه بالوضع تنقضى العدة، وهذا حكم المطلقة طلقة بائنة، أما المطلقة طلقة رجعية فتستحق النفقة وإن لم تكن حاملا.
وقال أبو حنيفة: تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة وإن لم تكن ذات حمل لما
روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول فى المبتوتة: «لها النفقة والسكنى»،
لأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحامل وغيرها.
ثم بين حكم إرضاع الطفل بعد ولادته فقال:
(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي فإن أرضعن لكم وهنّ طوالق قد بنّ بانقضاء عدتهنّ، فلهنّ حينئذ أن يرضعن الأولاد ولهنّ أن يمتنعن، فإن أرضعن فلهنّ أجر المثل ويتفقن مع الآباء أو الأولياء عليه.
وفى هذا إيماء إلى أن حق الرضاع والنفقة للأولاد على الأزواج، وحق الإمساك والحضانة على الزوجات.
(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي وتشاوروا فيما بينكم أيها الآباء والأمهات فى شئون الأولاد بما هو أصلح لهم فى أمورهم الصحية والخلقية والثقافية، ولا تجعلوا المال عقبة

فى سبيل إصلاحهم، ولا يكن من الآباء مما كسة فى الأجر وسائر النفقات، ولا من الأمهات معاسرة وإحراج للآباء، فالأولادهم فلذات أكبادهم، فليحافظوا عليهم جهد المستطاع.
ثم أرشد إلى ما يجب أن يعمل إذا لم يحصل الوفاق بين الأبوين فى الإنفاق فقال:
(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي وإن ضيق بعضكم على بعض بأن شاحّ الأب فى الأجر، أو اشتطت الأم فى طلب زيادة لا يؤديها أمثاله، فليحضر الأب مرضعا أخرى تقوم بالإرضاع، فإن رضيت الأم بمثل ما استؤجرت به الأجنبية فهى أحق بولدها.
وفى الآية إيماء إلى معاتبة الأم، فهو كقولك لمن تطلب منه حاجة فيتوانى فى قضائها:
إن لم تقضها فسيقضيها غيرك، وكأنه قال له: إنها ستقضى وأنت ملوم.
وإنما خص الأم بالعتاب، لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، وهو ليس بمال ولا مما يضنّ به فى العرف ولا سيما من الأم، والمبذول من جهة الأب هو المال وهو مضنون به فى العادة، فهى إذا أجدر باللوم وأحق بالعتب.
هذا إذا قبل الولد ثدى مرضع أخرى، فإن لم يقبل إلا ثدى الأم وجب عليها الإرضاع.
ثم بين مقدار الإنفاق بقوله:
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي لينفق الولد على المرضع التي طلّقت منه بقدر سعته وغناه.
(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ) أي ومن كان رزقه بمقدار القوت فحسب فلينفق على مقدار ذلك.
(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي لا يكلف الله أحدا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم إلا بمقدار ما آتاه من الرزق، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغنى.