
فقال: إذا توعد أن خلّ عنه يدخل. فقال: أمّا إذا جاء أمر النبي (عليه السلام) فعمر يرحل ولم يلبث إلّا أياما ولأنك حسبتني أشتكي ومات.
قالوا: فلمّا نزلت هذه الآية وبان كذب عبد الله بن أبي قيل له: يا أبا حباب إنّه قد نزلت أي شداد، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك فلوّى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد، فأنزل الله سبحانه وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ إلى قوله هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلا يعذر أحد أن يعطي هنا شيئا إلّا بأذنه، ولا أن يمنعه شيئا إلّا بمشيئته.
قال رجل لحاتم الأصم: من أين يأكل؟ فقرأ وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ.
وقال الجنيد: خزائن السماء: الغيوب، وخزائن الأرض: القلوب وهو علّام الغيوب ومقلّب القلوب، وكان الشبلي يقول: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فأين تذهبون؟.
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٨ الى ١١]
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ يعني من غزوة بني لحيان ثمّ بني المصطلق، وهم حي من هذيل لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ.
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فعزّة الله سبحانه قهر من دونه، وعزّ رسوله إظهار دينه على الأديان كلّها، وعزّ المؤمنين نصره إيّاهم على أعدائهم فهم ظاهرون.
وقيل: عزّة الله: الولاية، قال الله تعالى هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ وعزّة الرسول:
الكفاية قال الله سبحانه: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وعزّ المؤمنين: الرفعة والرعاية قال الله سبحانه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وقال وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رؤفا رَحِيماً.
وقيل: عزة الله الربوبية، وعزّة الرسول: النبوّة. وعزّة المؤمنين: العبودية.
وكان جعفر الصّادق يقول: «من مثلي وربّ العرش معبودي، من مثلي وأنت لي».
وقيل: عزّة الله خمسة: عزّ الملك والبقاء، وعزّ العظمة والكبرياء، وعزة البذل والعطاء،

وعزّ الرفعة والغناء، وعزّ الجلال والبهاء، وعزّ الرسول خمسة: عزّ السبق والابتداء، وعزّ الأذان والنداء، وعزّ قدم الصدق على الأنبياء، وعزّ الاختيار والاصطفاء، وعزّ الظهور على الأعداء، وعزّ المؤمنين خمسة: عزّ التأخير بيانه: نحن السابقون الآخرون، وعزّ التيسير بيانه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وعزّ التبشير بيانه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً، وعزّ التوقير بيانه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، وعزّ التكثير وبيانه: إنهم أكثر الأمم.
وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ «١» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ لا تشغلكم أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قال المفسرون: يعني الصلوات الخمس، نظيره قوله سبحانه:
رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ الآية.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي أمهلتني يجوز أن يكون (لا) صلة، فيكون الكلام بمعنى التمنّي، ويجوز أن يكون بمعنى هلّا فيكون استفهاما.
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني مثل ما أجلت في الدنيا، فَأَصَّدَّقَ فأتصدّق وأزكّي مالي.
وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ المؤمنين نظيره قوله وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ هذا قول مقاتل وجماعة من المفسرين، وقالوا: نزلت هذه الآية في المنافقين.
وقيل: الصالح هاهنا: الحج، والآية نازلة في المؤمنين.
روى الضّحاك وعطية عن ابن عبّاس قال: ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤدّ زكاته وأطاق الحجّ ولم يحجّ إلّا سأل الرجعة عند الموت فقالوا: يا بن عبّاس اتّق الله فإنّما نرى هذا الكافر سأل الرجعة فقال: أنا أقرأ عليكم قرآنا، ثم قرأ هذه الآية الى قوله فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ قال: أحجّ، أخبرناه ابن منجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن سهلويه قال: حدّثنا سلمة قال: حدّثنا عبد الرزّاق قال: أخبرنا الثوري عن يحيى بن أبي حيّة عن الضّحاك عن ابن عبّاس.
واختلف القرّاء في قوله وَأَكُنْ فقرأ أبو عمرو وابن محيص: وأكون بالواو ونصب النون على جواب التمنّي أو للاستفهام بالفاء، قال أبو عمرو: وإنما حذفت الواو من المصحف اختصارا كما حذفوها في (كلّمن) وأصلها الواو.
قال الفرّاء: ورأيت في بعض مصاحف عبد الله فَقُولا- فقلا- بغير واو، وتصديق هذه

القراءة ما أخبرنا محمّد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيّوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا حجاج عن هارون قال: في حرف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود- وأكون من الصالحين، بالواو.
وقرأ الآخرون: بالجزم وَأَكُنْ عطفا بها على قوله فَأَصَّدَّقَ لو لم يكن فيه الفاء وذلك أنّ قوله فَأَصَّدَّقَ لو لم يكن فيه الفاء كان جزما، واختار أبو عبيد الجزم، قال: من ثلاث جهات:
أحدها: إنّي رأيتها في مصحف الإمام عثمان- (وَأَكُنْ) بحذف الواو ثم اتفقت بذلك المصاحف فلم تختلف.
والثانية: اجتماع أكثر قرّاء الأمصار عليها.
والثالثة: إنّا وجدنا لها مخرجا صحيحا في العربية لا يجهله أهل العلم بها وهو أن يكون نسقا على محل أصّدق قبل دخول الفاء، وقد وجدنا مثله في أشعارهم القديمة منها قول القائل:
فأبلوني بليتكم لعلّي | أصالحكم واستدرج نويا «١» |
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ بالياء مختلف عنه غيره بالتاء.