آيات من القرآن الكريم

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ

الفراغ: إتمام القضاء، فهو مذكور بطريق التمثيل. يعني: أتم قضاء هذه الكليات في علمه السابق. والخزائن: جمع خزانة، وهي: ما يخزن فيه الأموال النفيسة ويحفظ، كما سيأتي.
قرأ الجمهور (١): ﴿يَنْفَضُّوا﴾ من الانفضاض، وهو التفرق. وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي: ﴿يُنْفَضُّوا﴾ من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم، يقال: نَفَضَ الرجل وعاءه من الزاد فَأَنْفَضَ.
﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ ذلك؛ لجهلهم بالله وبشؤونه، ولذلك يقولون من مقالات الكفر ما يقولون، ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عز وجل، وأنه الباسط القابض المعطي المانع، لجهلهم بسنن الله في خلقه، وأن الله قد كفل الأرزاق لعباده في أي مكان كانوا، متى عملوا وجدوا في الحصول عليها.
٨ - ثم ذكر هنة ثالثة لهم، وهي أعظمها، فقال: ﴿يَقُولُونَ﴾؛ أي: يقول المنافقون - عبد الله بن أبيّ وأصحابه -: والله ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ والمراد: رجوعهم من غزوة بني المصطلق، كما مر. وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل واحدًا من أفرادهم، وهو عبد الله بن أبيّ لكونه كان رئيسهم وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون. ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ﴾ يريد أنفسهم ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من المدينة ﴿الْأَذَلَّ﴾ يريد النبي - ﷺ - وأصحابه. ثم رد الله سبحانه على قائل قلت المقالة فقال: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه لا لغيره ﴿الْعِزَّةُ﴾ والقدرة التامة والغلبة والقوة ﴿وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم، كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من المنافقين والكافرين؛ أي: فالعزة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم.
قال الواسطي - رحمه الله تعالى - (٢): عزة الله: أن لا يكون شيء إلا بمشيئته وإرادته، وعزة المرسلين: أنهم آمنون من زوال الإيمان، وعزة المؤمنين: أنهم آمنون من دوام العقوبة. وقال عزة الله: العظمة والقدرة، وعزة الرسول: النبوة والشفاعة، وعزة المؤمنين: التواضع والسخاء والعبودية. دل عليه قوله - ﷺ -: "أنا سيد ولد

(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.

صفحة رقم 334

آدم ولا فخر"؛ أي: لا أفتخر بالسيادة، بل افتخر بالعبودية، وفيها عزتي، إذ لا عزة إلا في طاعة الله ولا ذل إلا في معصية الله. وقال بعضهم: عزة الله: قهره من دونه، وعزة رسوله: بظهور دينه على سائر الأديان كلها، وعزة المؤمنين: استذلالهم اليهود والنصارى، كما قال: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وقيل: عزة الله: الولاية، لقوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾، وعزة رسوله: الكفاية، لقوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)﴾، وعزة المؤمنين: الرفعة؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
يقول الفقير: أشار تعالى بالترتيب إلى أن العزة له بالأصالة والدوام، وصار الرسول مظهرًا له في تلك العزة، ثم صار المؤمنون مظاهر له - ﷺ - فيها. فعزة الرسول بواسطة عزة الله وعزة المؤمنين بواسطة الرسول، سواء أعاصروه - ﷺ - أم أتوا بعده، إلى قيام الساعة. وجميع العزة لله؛ لأن عزة الله له تعالى صفة، وعزة الرسول وعزة المؤمنين فعلًا ومنةً وفضلًا كما قال القشيري - رحمه الله تعالى -: العز الذي للرسول وللمؤمنين هو لله تعالي خلقًا وملكًا، وعزه سبحانه له وصفًا، فإذا العزة كلها لله. وبهذا يجمع بين قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾، وبين قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
ومن أدب مَنْ عرف أنه تعالى هو العزيز: أن لا يعتقد لمخلوق إجلالًا؛ ولهذا قال - ﷺ -: "من تواضع لغني لأجل غناء.. ذهب ثلثا دِينه". قال أبو علي الدقاق - رحمه الله -: إنما قال: "ثلثا دينه" لأن التواضع يكون بثلاثة أشياء: بلسانه، وبدنه، وقلبه. فإذا تواضع له بلسانه وبدنه ولم يعتقد له العظمة بقلبه.. ذهب ثلثا دِينه، فإن اعتقدها بقلبه أيضًا.. ذهب كل دِينه. لهذا قيل: إذا عظم الرب في القلب.. صغر الخلق في العين. ومتى عرفت أنه معز.. لم تطلب العز إلا منه، ولا يكون العز إلا في طاعته.
والمعنى (١): أي يقول عبد الله أبيّ ومن يلوذ به من صحبه: لئن عدنا إلى المدينة.. لنخرجنكم منها أيها المؤمنين، فإننا الأقوياء الأشداء الأعزاء وأنتم الضعفاء الأذلاء، فرد الله عليهم مقالهم، فقال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛

(١) المراغي.

صفحة رقم 335

أي: ولله الغلبة والقوة ولمن أعزه الله من الرسول والمؤمنين.
روي: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي - وكان مؤمنًا مخلصًا - سل سيفه على أبيه عندما أشرفوا على المدينة. وقال: لله علي أن لا أغمده حتى تقول محمد الأعز وأنا الأذل، فلم يبرح حتى قال ذلك.
وروي: أنه وقف واستل سيفه، وجعل الناس يقرون عليه حتى جاء أبوه، فقال: وراءك، قال: ما لك ويلك؟، قال: والله لا تجوز من هنا حتى يأذن لك رسول الله - ﷺ -، فإنه العزيز وأنت الذليل، فرجع حتى لقي رسول الله - ﷺ -، وكان إنما يسير ساقه - في آخر الجيش - فشكا إليه ما صنع ابنه، فأرسل إليه النبي - ﷺ - أن خل عنه يدخل، ففعل. ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ من فرط جهلهم وغرورهم، فيهذون ما يهذون. أي: لا يعلمون أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله ينصر من ينصره، كما قال: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾. وسننه تعالى لا تبديل فيها ولا تغيير، وهو لا بدّ جاعل عباده المؤمنين هم الأعزاء كما وعد وجعل مخالفيه هم الأذلاء، ولا دخل للمال والنشب، ولا للحسب والنسب في تلك القوة التي يمد بها من يشاء والنصرة التي يمنحها عباده المخلصين، وأن الله منجز وعده لنبيه كما أنجزه لمن قبله من رسله، وقد تم لهم الظفر على أعدائهم الضالين.
ولعل ختم (١) الآية الأولى بـ ﴿يَفْقَهُونَ﴾، والثانية بـ ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ للتفنن المعتبر في البلاغة، مع أن في الأول بيان عدم كياستهم وفهمهم، وفي الثاني بيان حماقتهم وجهلهم. وفي "برهان القرآن": الأول متصل بقوله: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وفيه غموض يحتاج إلى فطنة، والمنافق لا فطنة له، والثاني متصل بقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أن الله معز أوليائه ومذل أعدائه.
وعبارة "فتح الرحمن": ختم هنا بـ ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾، وفيما مر بـ ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾، لأن الأول متصل بقوله: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وفي معرفتها غموض

(١) روح البيان.

صفحة رقم 336
حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الأمين بن عبد الله بن يوسف بن حسن الأرمي العلوي الهرري الشافعي
راجعه
هاشم محمد علي مهدي
الناشر
دار طوق النجاة، بيروت - لبنان
سنة النشر
1421
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية