
- إلى قوله تعالى- يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ الْآيَةَ. وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ وَفِيهِ أَشْيَاءُ نَفِيسَةٌ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ «١» : حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بن قتادة أن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ لَمَّا بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَمْشِي فِي النَّاسِ فَأَقْتُلُهُ فَأَقْتُلُ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ فَأَدْخُلُ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ نَتَرَفَّقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا».
وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ النَّاسَ لَمَّا قَفَلُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ قَالَ لَهُ ابْنُهُ: وَرَاءَكَ! فَقَالَ: مَا لَكَ وَيْلَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تجوز من هاهنا حَتَّى يَأْذَنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الْعَزِيزُ وَأَنْتَ الذَّلِيلُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ إِنَّمَا يَسِيرُ سَاقَةً فَشَكَا إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنَهُ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُهَا حَتَّى تَأْذَنَ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أما إذا أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُزِ الْآنَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هَارُونَ الْمَدَنِيُّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن عبد الله بن أبي ابن سَلُولٍ لِأَبِيهِ: وَاللَّهِ لَا تَدْخُلِ الْمَدِينَةَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولَ:
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعَزُّ وَأَنَا الْأَذَلُّ، قَالَ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تقتل أبي فو الذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا تَأَمَّلْتُ وَجْهَهُ قَطُّ هَيْبَةً له، ولئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك فإني أكره أن أرى قاتل أبي.
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٩ الى ١١]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَنَاهِيًا لَهُمْ عَنْ أَنْ تَشْغَلَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ عَنْ ذَلِكَ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ مَنِ الْتَهَى بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا عَمَّا خُلِقَ لَهُ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَتِهِ فَقَالَ: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ فَكُلُّ مُفَرِّطٍ يَنْدَمُ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَيَسْأَلُ طُولَ المدة ولو شيئا يسيرا ليستعتب وَيَسْتَدْرِكُ مَا فَاتَهُ وَهَيْهَاتَ، كَانَ مَا كَانَ وأتى ما هو آت،

وَكُلٌّ بِحَسَبِ تَفْرِيطِهِ، أَمَّا الْكُفَّارُ فَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٤] وَقَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩- ١٠٠].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ لَا يَنْظُرُ أَحَدًا بَعْدَ حُلُولِ أَجْلِهِ. وَهُوَ أَعْلَمُ وَأَخْبَرُ بِمَنْ يَكُونُ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَسُؤَالِهِ مِمَّنْ لَوْ رُدَّ لَعَادَ إِلَى شَرٍّ مما كان عليه ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ «١» : حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو جَنَابٍ الْكَلْبِيَّ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ فَلَمْ يَفْعَلْ سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ، فَقَالَ: سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ- إلى قوله تعالى- وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ؟ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الْمَالُ مِائَتَيْنِ فَصَاعِدًا، قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالْبَعِيرُ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي حَيَّةَ وَهُوَ أَبُو جَنَابٍ الْكَلْبِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي جناب عن الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ أصح، وضعف أبا جناب الكلبي.
قلت: ورواية الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا انْقِطَاعٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ مَسْلَمَةَ الْجُهَنِيِّ عَنْ عَمِّهِ يَعْنِي أَبَا مَشْجَعَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّيَادَةَ فِي الْعُمْرِ فَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجْلُهَا، وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ فِي الْعُمْرِ أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ الْعَبْدَ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً يَدْعُونَ لَهُ فَيَلْحَقُهُ دُعَاؤُهُمْ فِي قَبْرِهِ». آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ المنافقين. ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.