
أما جملة لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فإن من الأولى أن يلحظ تقرير كون ذلك إذا ماتوا وهم على كفرهم ونفاقهم. لأن هناك آيات تذكر أن الله يقبل توبتهم إذا تابوا مثل آيات سورة النساء هذه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦). وقد جاءت هاتان الآيتان عقب سلسلة فيها حملة شديدة على المنافقين، وفيها جملة من الجملة المذكورة هنا كما ترى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) والذي نرجحه أن كثيرا من المنافقين أخلصوا في إيمانهم بدليل أنهم كانوا عددا غير قليل وأقوياء في أوائل العهد المدني فأصبحوا عددا قليلا خائفين حذرين على ما ذكرته آيات في سورة التوبة.
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٩ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)
. (١) لولا: هنا بمعنا هلّا
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) والآية التالية لها وما فيهما من تلقين
عبارة الآيات واضحة. وفيها:
(١) تحذير للمؤمنين من إلهاء أموالهم وأولادهم لهم عن ذكر الله، لأن من يكن هذا شأنه فإنه من الخاسرين.

(٢) وحثّ لهم على الإنفاق في سبيله وهم في سعة من الوقت والعمر. وقبل أن يداهمهم الموت فيندموا ويتمنوا على الله أن يؤخر أجلهم حتى يتصدقوا ويكونوا من الصالحين.
(٣) وتنبيه لهم بأن الندم والتمني لن يجدياهم شيئا لأن الله لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وإنه لخبير بنواياهم وأعمالهم.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. ومع أن عبارتها مطلقة. وتبدو أنها فصل جديد. فإننا نرجح أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب والتفات، لتلقين المؤمنين المخلصين ما هو الأمثل لهم، والأحرى بهم في مناسبة ذكر مواقف المنافقين البغيضة، وزجرهم وتقريعهم ولا سيما أن دعوة المنافقين إلى عدم الإنفاق على من عند رسول الله التي حكتها تلك الآيات هي دعوة إلى أقاربهم وذوي رحمهم وعشيرتهم من الأنصار. ومعظمهم كانوا مخلصين في إيمانهم بالله ورسوله.
والآيات في حدّ ذاتها جملة تامة. وأسلوبها قوي نافذ إلى القلوب والعقول.
وهي مطلقة التوجيه فيكون ما فيها من أمر ونهي وتحذير شاملا لكل المسلمين في كل مكان ليكون ذلك خطتهم المثلى التي يسيرون عليها.
وأسلوب الآيات وفحواها يجعلاننا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة وبخاصة في سياق الآية [٣٧] من السورة السابقة التي فيها تنويه بالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وهو أن ما فيها من تحذير ونهي منصبان على الاستغراق في حبّ الأموال والأولاد استغراقا يؤدي إلى التقصير في واجب ذكر الله والإنفاق في سبيله. وليس على الاشتغال بالتجارة وكسب المال والاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا والأولاد. فهذا مما أباحه القرآن للمسلمين في مواضع كثيرة صراحة وضمنا على ما نبهنا عليه في نطاق الاعتدال والقصد وعدم التقصير في الواجبات.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآيات رواية عن ابن عباس تفيد أن هذه الجزء الثامن من تفسير الحديث ٣٠

الآيات هي في صدد الحج والزكاة وإيجاب فعلهما على المؤمنين في فسحة من العمر والوقت «١».
ولقد روى هذا الترمذي بهذه الصيغة «من كان له مال يبلغه حجّ بيت ربّه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا ابن عباس اتق الله إنما يسأل الرجعة الكفار. قال سأتلو عليك بذلك قرآنا، ثم تلا الآيات.
فسأله الرجل فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتي درهم فصاعدا. فسأله فما يوجب الحج؟ قال الزاد والبعير» «٢».
وليس في هذه الصيغة ما يفيد أن الآيات في صدد أداء فريضتي الحج والزكاة كما هو ظاهر. وإنما أورد ابن عباس الآيات جوابا على سؤال في صدد تمني المسلمين المقصرين في واجبات الزكاة والحج الرجعة «٣».
وعلى هذا فإن ما ذكرناه في صدد صلة الآيات بسابقاتها واحتوائها خطة شاملة لكل المسلمين يظل في محلّه إن شاء الله.
(٢) انظر التاج ج ٤ ص ٢٣٧ فصل التفسير. [.....]
(٣) ننبه على أن ابن كثير أورد حديث ابن عباس هذا ثم قال «ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع. وأبو جناب الذي هو من رواة الحديث ضعيف». وابن كثير من أئمة الحديث.

سورة المجادلة
في السورة تسفيه لعادة الظهار وتشريع فيها. وحكاية لشكوى وجدال امرأة مسلمة في سياق ذلك. وتنديد بفريق كان يتآمر بالسرّ بما فيه إثم وعدوان، ونهي للمسلمين عن مثل هذا الخلق، وتعليم لهم بما هو الأمثل بهم. وتعليم للمسلمين كذلك آداب المجالس. وتلقينهم الاهتمام بالأخلاق والعلم وأهلهما. ومشهد فيه حثّ للمسلمين على تقديم صدقات عند اجتماعهم بالنبي ﷺ اجتماعا خاصا، وحكاية لاستثقالهم ذلك وعتاب لهم ونسخ للتكليف بسبب ذلك. وحملة شديدة على المنافقين لموادتهم لمن غضب الله عليهم الذين تتفق الروايات والأقوال على أنهم اليهود. وتنزيه للمخلصين عن مثل هذا الموقف.
وبعض عبارات الحملة على المنافقين مشابهة لما ورد فيهم في السورة السابقة، مما قد يكون قرينة على صحة ترتيب السورة بعد تلك.
ولقد احتوت السورة فصولا متنوعة: منها ما لا يلمح بينه وبين سابقه ولا حقه صلة موضوعية أو ظرفية. ومنها ما يمكن أن يلمح فيه مثل هذه الصلة.
وقد تكون هذه الفصول نزلت متعاقبة فوضع بعضها بعد بعض. وإلا فتكون السورة قد جمعت في وقت متأخر نوعا ما بعد أن تمّ نزول ما اقتضت الحكمة نزوله وجمعه في سورة واحدة من فصولها.
وجمهور المفسرين على أن الذين حكت بعض آيات السورة موالاة المنافقين لهم هم من اليهود. وفحوى الآيات قد يؤيد ذلك. وكذلك فإن هناك رواية يرويها معظم المفسرين تفيد أن اليهود كانوا من الفريق المتآمر بالسرّ بما فيه إثم وعدوان.