آيات من القرآن الكريم

وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ
ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ

ثم يقف على باب المدينة شاهرا سيفه، ثم يمنع أباه من دخولها حتى يأذن له الرسول ﷺ بدخولها، وحتى يقول: إن الرسول ﷺ هو العزيز، وأنه هو- أى عبد الله ابن أبى- هو الذليل.
وهكذا تعطينا هذه الآيات وأحداثها ما تعطينا من عبر وعظات..
ثم تختتم السورة الكريمة بنداء توجهه إلى المؤمنين، تأمرهم فيه بالمواظبة على طاعة الله- تعالى- وتنهاهم عن أن يشغلهم عن ذلك شاغل، وتحضهم على الإنفاق في سبيل إعلاء كلمته- سبحانه-، وعلى تقديم العمل الصالح الذي ينفعهم قبل فوات الأوان، قال- تعالى-:
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٩ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)
والمقصود من هذه الآيات الكريمة نهى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين الذين سبق الحديث عنهم بصورة مفصلة، وحضهم على الاستجابة لما كلفهم الله- تعالى- به. أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- إيمانا حقا، لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ... أى:
لا تشغلكم أموالكم التي تهتمون بجمعها وتحصيلها.. ولا أولادكم الذين هم أشهى ثمرات حياتكم.. لا يشغلكم ذلك عن أداء ما كلفكم- سبحانه- بأدائه من طاعات، فالمراد بذكر الله، ما يشمل جميع التكاليف من صلاة وزكاة وصيام وحج، وغير ذلك من الطاعات التي أمر الله- تعالى- بها.
وخص الأموال والأولاد بتوجه النهى عن الاشتغال بهما اشتغالا يلهى عن ذكر الله، لأنهما أكثر الأشياء التي تلهى عن طاعة الله- تعالى-..

صفحة رقم 413

فمن أجل الاشتغال بجمع المال، يقضى الإنسان معظم حياته، وكثير من الناس من أجل جمع المال، يضحون بما يفرضه عليهم دينهم من واجبات، ومن أخلاق، ومن سلوك وآداب..
ومن أجل راحة الأولاد قد يضحى الآباء براحتهم، وبما تقضى به المروءة، وصدق رسول الله ﷺ حيث يقول: «الولد مجبنة مبخلة».
والتعبير بقوله- تعالى-: لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يشعر بأن المسلم إذا اشتغل بجمع المال. وبرعاية الأولاد، دون أن يصرفه ذلك عن طاعة الله، أو عن أداء حق من حقوقه- تعالى-، فإن هذا الاشتغال لا يكون مذموما، بل يكون مرضيا عنه من الله- تعالى-.
واسم الإشارة في قوله- سبحانه-: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعود إلى ما سبق ذكره من اللهو عن ذكر الله، بسبب الأموال والأولاد.
أى: ومن يشغله حبه لماله وأولاده عن ذكر الله، وعن أداء ما كلفه- سبحانه- به، فأولئك هم البالغون أقصى درجات الخسران والغفلة. لأنهم خالفوا ما أمرهم به ربهم، وآثروا ما ينفعهم في عاجلتهم الفانية، على ما ينفعهم في آجلتهم الباقية، ثم حضهم- سبحانه- على الإنفاق في سبيله فقال: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
والمراد بالإنفاق: إنفاق المال في وجوه الخير والطاعات، فيشمل الزكاة المفروضة، والصدقات المستحبة، وغير ذلك من وجوه البر والخير.
و «من» في قوله- تعالى- مِمَّا رَزَقْناكُمْ للتبعيض إذ المطلوب إنفاقه بعض المال الذي يملكه الإنسان، وليس كله، وهذا من باب التوسعة منه- تعالى- على عباده، ومن مظاهر سماحة شريعته- عز وجل-.
والمراد بالموت: علاماته وأماراته الدالة على قرب وقوعه.
وقوله فَيَقُولَ معطوف على قوله أَنْ يَأْتِيَ ومسبب عنه.
ولَوْلا بمعنى هلا فهي حرف تحضيض.
وقوله: فَأَصَّدَّقَ منصوب على أنه في جواب التمني، وقوله: وَأَكُنْ بالجزم، لأنه معطوف على محل فَأَصَّدَّقَ كأنه قيل: إن أخرتنى إلى أجل قريب أتصدق وأكن من الصالحين.
والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن طاعة الله

صفحة رقم 414

- تعالى- بل داوموا عليها كل المداومة، وأنفقوا بسخاء وسماحة نفس مما أعطيناكم من أرزاق كثيرة، ومن نعم لا تحصى، وليكن إنفاقكم من قبل أن تنزل بأحدكم أمارات الموت وعلاماته...
وحينئذ يقول أحدكم يا رب، هلا أخرت وفاتي إلى وقت قريب من الزمان لكي أتدارك ما فاتنى من تقصير، ولكي أتصدق بالكثير من مالي، وأكون من عبادك الصالحين.
وقال- سبحانه- مِمَّا رَزَقْناكُمْ فأسند الرزق إليه، لكي يكون أدعى إلى الامتثال والاستجابة، لأنه- سبحانه- مع أن الأرزاق جميعها منه، إلا أنه- فضلا منه وكرما- اكتفى منهم بإنفاق جزء من تلك الأرزاق.
وقدم- سبحانه- المفعول وهو «أحدكم» على الفاعل وهو «الموت»، للاهتمام بالمفعول، وللإشعار بأن الموت نازل بكل إنسان لا محالة.
والتعبير بقوله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ... يشعر بأن القائل قد قال ذلك زيادة في تأميل الاستجابة، فكأنه يقول: يا رب ألتمس منك أن تؤخر أجلى إلى وقت قريب لا إلى وقت بعيد لكي أتدارك ما فاتنى في هذا الوقت القريب الذي هو منتهى سؤالى، وغاية أملى..
وقد بين- سبحانه- بعد ذلك أنه لا تأخير في الأجل متى انتهى لا من قريب ولا من بعيد.. فقال: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها...
أى: ولن يؤخر الله- تعالى- نفسا من النفوس، متى انتهى أجلها في هذه الحياة، وانقضى عمرها من هذه الدنيا، كما قال- سبحانه-: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ.
وقوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أى: والله- تعالى- مطلع اطلاعا تاما على أعمالكم الظاهرة والباطنة، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.
وبعد فهذا تفسير لسورة «المنافقون» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
القاهرة: صباح الجمعة ١٣ من شوال سنة ١٤٠٦ هـ ٣٠/ ٦/ ١٩٨٦ م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى

صفحة رقم 415

تفسير سورة التّغابن

صفحة رقم 417

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد
١- سورة التغابن هي السورة الرابعة والستون في ترتيب المصحف، أما نزولها على النبي ﷺ فكان- كما ذكره صاحب الإتقان بعد سورة «الجمعة» وقبل سورة «الصف».
وعدد آياتها ثماني عشرة آية.
٢- وجمهور المفسرين على أنها من السور المدنية.
قال الشوكانى: وهي مدنية في قول الأكثر، وقال الضحاك: هي مكية، وقال الكلبي:
هي مكية ومدنية.
أخرج ابن الضريس عن ابن عباس أنه قال: نزلت سورة التغابن بالمدينة.
وفي رواية أخرى عنه: أنها نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعى، شكا إلى رسول الله ﷺ جفاء أهله وولده، فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ.. إلى آخر السورة «١».
ويبدو لنا أن بعض آيات هذه السورة يغلب عليها طابع القرآن المكي، كالآيات التي تتحدث عن مظاهر قدرة الله- تعالى- وعن إنكار المشركين للبعث والرد عليهم.
لذا نرجح- والله أعلم- أن النصف الأول منها من القرآن المكي، والنصف الأخير من القرآن المدني.
٣- والسورة الكريمة بعد ذلك من أهم مقاصدها: تنزيه الله- تعالى- عن الشريك أو الولد، وبيان ألوان من مظاهر قدرته ومننه على خلقه، والرد على المشركين الذين زعموا أنهم لن يبعثوا، والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار، وبيان أن كل شيء يقع في
(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٥ ص ٢٣٤.

صفحة رقم 419

هذا الكون هو بقضاء الله وقدره. وتحريض المؤمنين على تقوى الله- تعالى- وعلى إيثار ما عنده على كل شيء من شهوات هذه الدنيا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة- مدينة نصر مساء الجمعة ١٣ من شوال ١٤٠٦ هـ ٣٠/ ٦/ ١٩٨٦ م د. محمد سيد طنطاوى

صفحة رقم 420
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
محمد سيد طنطاوي
الناشر
دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية