
سورة الصف
هذه السورة مدنية كلها على الصحيح، وآياتها أربع عشرة آية، ونزلت بعد التغابن.
وتشتمل على تنبيه المؤمنين لبعض الواجب عليهم، وتحذيرهم من أن يكونوا كقوم موسى وعيسى، مع بيان أن الإسلام هو دين الله، وأنه غالب على الأديان، ثم رسمت طريق الهدى الموصل إلى النجاة من العذاب.
توجيهات دينية [سورة الصف (٦١) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) صفحة رقم 664

المفردات
لِمَ أى: لأى شيء؟ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ المقت: أشد أنواع البغض من أجل ذنب أو معصية أو دناءة يصنعها الممقوت. صَفًّا أى: صافين أنفسهم.
مَرْصُوصٌ والبناء المرصوص: المتلائم الأجزاء المتضام بنظام وحكمة. زاغُوا أى: مالوا عن الحق وانصرفوا عنه. لِما بَيْنَ يَدَيَّ: لما تقدمني من الكتب كالتوراة والزبور. أَحْمَدُ أى: محمد- عليه الصلاة والسلام- ولعله خصه بالذكر للإشارة إلى أنه أحمد الناس لربه.
روى عن ابن عباس- رضى الله عنه- أنه قال: قال عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه، فلما نزل الجهاد كرهوه، وفي رواية أخرى أن هذه الآية نزلت تعيّر المسلمين بترك الوفاء، وتلومهم على الفرار يوم أحد.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله: لأى شيء تقولون ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟! ومدار التوبيخ والإنكار في الحقيقة عدم فعلهم، وإنما وجه إلى قولهم أولا للدلالة على أنهم مؤاخذون على شيئين: الوعد، وترك العمل
«آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»

كبر المقت عند الله وفي حسبانه أن تقولوا ما لا تفعلون «١» !! نعم إن قولهم: سنفعل الخير ثم لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، ومبغوض عند الله أشد البغض، ومن هنا كان الخلف في الوعد، والكذب، مذمومين شرعا، ولا يرضى عنهما الله، أما الذي يرضى عنه الله فها هو ذا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ نعم إن الله يحبهم ويرضى عنهم لأنهم يقاتلون في سبيله وابتغاء مرضاته، يقاتلون بنظام ودقة وحكمة صافين أنفسهم مستعدين للقتال على حسب زمانهم، حالة كونهم كالبنيان المرصوص الذي يحمى بعضه بعضا، البنيان المحكم الدقيق الذي لا فرجة فيه ولا خلل، وهذه إشارة إلى إحكام الأمر في القتال والاستعداد له استعدادا مناسبا مع الوحدة والاجتماع التام على الكلمة، ومقابلة العدو بقلوب ثابتة راسخة رسوخ البنيان الشامخ المحكم.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي؟ وهذا كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال، ومخالفة أمر الرسول، واذكر وقت قول موسى لقومه- والمراد ذكر ما حصل في الوقت-: يا قوم لأى شيء تؤذونني بمخالفة أمرى، وتخلفكم عن القتال حين ندبتم لقتال الجبارين، وقولكم: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ «٢» فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «٣».
يا قوم: لم تؤذوننى؟ والحال أنكم تعلمون علما أكيدا أنى رسول الله إليكم، فلما أصروا على الزيغ والانحراف عن الجادة أزاغ الله قلوبهم وصرفها عن الخير لاختيارهم العمى وتركهم الهدى مطلقا، ولا عجب فهم مالوا عن الحق أولا باختيارهم، وهذا بلا شك يؤثر فيهم، فإذا استمروا على ذلك طمس الله على قلوبهم فأمالها عن الحق دائما، وكيف يهديهم ربهم إلى الصواب؟ والله لا يهدى القوم الفاسقين، فاحذروا يا أمة محمد أن تكونوا كهؤلاء، واذكر إذ قال عيسى بن مريم: يا بنى إسرائيل: إنى رسول الله إليكم حالة كوني مبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد فشريعتى تؤيد
(٢) سورة المائدة آية ٢٢. [.....]
(٣) سورة المائدة آية ٢٤.

الرسل السابقين واللاحقين، وهذا الاسم الجليل- أحمد- من أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقول حسان بن ثابت:
صلى الإله ومن يحف بعرشه | والطيبون على المبارك أحمد |
هذه بشارة بالنبي المرسل الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، يجيء والعالم يكفر بعيسى إذ يعتقد فيه الألوهية أو أنه ابن الله مع أنه ابن مريم، يجيء ليرشد الخلق إلى جميع الحق، فمن غير محمد صلّى الله عليه وسلّم جاء بهذا؟ على أننا لا ننسى أن هذا ما سلم من التحريف والتغيير والتبديل، والنصارى يؤولون في مثل هذا تأويلا غير مستساغ، ولفظ (البارقليط) ورد كثيرا في كتبهم، قال يسوع المسيح: «إن البارقليط روح الحق الذي يرسله أبى- إلهى- يعلمكم كل شيء» والبارقليط لفظ يفيد معناه الحمد، ولفظ (المعزى) السابق كناية عن خاتم الأنبياء، ولذا جاءت البشارة في إنجيل برنابا صريحة بلفظ (محمد) والظاهر أنها مترجمة عن البارقليط والمعزى.
فلما جاء عيسى- عليه السلام- بالمعجزات الظاهرة قالوا: هذا سحر مبين، فانظر إلى الناس جميعا وقد كذبوا برسلهم مع ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق صفحة رقم 667