آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ
ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡ

هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، التي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ مِنْ تِجَارَةِ الدُّنْيَا وَالْكَدِّ لَهَا والتصدي لها وحدها، ثم قال تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَدَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ غَفَرْتُ لَكُمُ الزَّلَّاتِ وَأَدْخَلْتُكُمُ الْجَنَّاتِ وَالْمَسَاكِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، وَلِهَذَا قال تعالى: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
ثم قال تعالى: وَأُخْرى تُحِبُّونَها أَيْ وَأَزِيدُكُمْ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً تُحِبُّونَهَا وَهِيَ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أَيْ إِذَا قَاتَلْتُمْ فِي سَبِيلِهِ وَنَصَرْتُمْ دِينَهُ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِنَصْرِكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٧] وَقَالَ تَعَالَى:
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَجِّ: ٤٠] وقوله تعالى: وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أَيْ عَاجِلٌ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ خَيْرُ الدُّنْيَا مَوْصُولٌ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَصَرَ اللَّهَ وَدِينَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
[سورة الصف (٦١) : آية ١٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَنْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا اسْتَجَابَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى حِينَ قَالَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي من مُعِينِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ وَهُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أَيْ نَحْنُ أَنْصَارُكَ عَلَى مَا أُرْسِلْتَ بِهِ ومُوَازِرُوكَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا بَعَثَهُمْ دُعَاةً إِلَى النَّاسِ فِي بِلَادِ الشَّامِ فِي الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَالْيُونَانِيِّينَ، وَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ: «مَنْ رَجُلٌ يُؤْوِينِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي» «١» حَتَّى قَيَّضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَبَايَعُوهُ وَوَازَرُوهُ، وَشَارَطُوهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ إِنْ هُوَ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَيْهِمْ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفَّوْا لَهُ بِمَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْأَنْصَارَ وَصَارَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عنهم وأرضاهم.
وقوله تعالى: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أَيْ لَمَّا بَلَّغَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصلاة والسّلام رسالة ربه إلى قومه وآزره مَنْ وَازَرَهُ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، اهْتَدَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ وَضَلَّتْ طَائِفَةٌ، فَخَرَجَتْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَرَمَوْهُ وَأُمَّهُ بِالْعَظَائِمِ، وَهُمُ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَغَلَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ ممن اتبعه

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣/ ٣٢٢، ٣٣٩.

صفحة رقم 139

حَتَّى رَفَعُوهُ فَوْقَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَافْتَرَقُوا فِرَقًا وَشِيَعًا فَمِنْ قَائِلٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَائِلٍ إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ، وَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهُ اللَّهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُفَصَّلَةٌ فِي سُورَةِ النساء.
وقوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ أَيْ نَصَرْنَاهُمْ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ مِنْ فِرَقِ النَّصَارَى فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أَيْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «١» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ فِي بَيْتٍ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي، قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ مَكَانِي وَيَكُونَ مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ قَالَ: فَقَامَ شَابٌّ من أحدثهم سنا فقال: أنا. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ: أَنَا، فَقَالَ لَهُ: «اجْلِسْ» ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ أَنَا، فَقَالَ: نَعَمْ أَنْتَ ذَاكَ.
قَالَ: فَأُلْقِي عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى وَرُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ:
وَجَاءَ الطَّلَبُ من اليهود فأخذوا شبيهه فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ وَكَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أن آمنوا بِهِ، فَتَفَرَّقُوا فِيهِ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانَ فينا ابن الله مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ النُّسْطُورِيَّةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ ورسوله ما شاء الله ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ، فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ يَعْنِي الطَّائِفَةَ الَّتِي كَفَرَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ عِيسَى وَالطَّائِفَةَ الَّتِي آمَنَتْ فِي زَمَنِ عِيسَى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ بِإِظْهَارِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينهم على دين الكفار.
هَذَا لَفْظُهُ فِي كِتَابِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُنَنِهِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِمِثْلِهِ سَوَاءً.
فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَحَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الدَّجَّالَ مَعَ الْمَسِيحِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، وَاللَّهُ أعلم. آخر تفسير سورة الصف ولله الحمد والمنة.

(١) تفسير الطبري ١٢/ ٨٦.

صفحة رقم 140
تفسير القرآن العظيم
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي
تحقيق
محمد حسين شمس الدين
الناشر
دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت
الطبعة
الأولى - 1419 ه
عدد الأجزاء
1
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية