
قوله تعالى: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا يعني: أعطوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر. قال مقاتل: يعني: إن تزوجها أحد من المسلمين، يدفع المهر إلى الزوج فإن لم يتزوجها أحد من المسلمين، فليس لزوجها الكافر شيء. ثم قال: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يعني: لا حرج على المسلمين أن يتزوجوهن. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني:
مهورهن، فرد المهر على الزوج الكافر منسوخ. وفي الآية دليل أن المرأة إذا خرجت من دار الحرب، بانت من زوجها. وفي الآية تأييد لقول أبي حنيفة: أنَّهُ لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا. وفي أقوال أبي يوسف ومحمد: عليها العدة.
ثم قال: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. قرأ أبو عمرو وَلا تُمْسِكُوا بالتشديد، والباقون بالتخفيف. فمن قرأ بالتخفيف، فهو من أمسك يمسك، ومن قرأ بالتشديد فهو من مسك بالشيء يمسكه تمسيكاً، ومعناهما واحد، وهو أن المرأة إذا كفرت، ولحقت بدار الحرب، فقد زالت العصمة بينهما. فنهى أن يقبضها من بعد انقطاعها، وجاز له أن يتزوج أختها أو أربعاً سواها. وأصل العصمة الحبل، ومن أمسك بالشيء فقد عصمه. وقال: معناه لا ترغبوا فيهن ولا تعتدوا فيهن ويقال: لا تعتد بامرأتك الكافرة، فإنها ليست لك بامرأة. وكان للمسلمين نساء في دار الحرب، فتزوجن هناك. ثم قال: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ يعني: اسألوا من أزواجهن ما أنفقتم عليهن من المهر. وَلْيَسْئَلُوا منكم مَّا أَنْفَقُوا يعني: ما أعطوا من مهر المرأة التي أسلمت. وهذه الآية نسخت، إلا قوله: لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ثم قال: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يعني: أمره ونهيه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يعني: يقضي بينكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١١ الى ١٣]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
قوله عز وجل: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ يعني: إذا ارتدت امرأة

ولحقت بدار الحرب، فعاقبتم يعني: فغنم من المشركين شيئاً، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ من الغنيمة مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا من الغنيمة، مثل الذين أعطوا نساءهم من المهر. وهذه الآية منسوخة بالإجماع. قرأ إبراهيم النخعي: فعاقبتم بغير ألف، وعن مجاهد أنه قرأ:
فَعاقَبْتُمْ وقراءة العامة فَعاقَبْتُمْ فذلك كله يرجع إلى معنى واحد يعني: إذا غلبتم العبد واعتصمتم، واصبتموهم في القتال. وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني: اخشوا الله فلا تعصوه فيما أمركم.
الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ يعني: مصدقين. ثم قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ يعني: النساء إذا أسلمن، فبايعهن عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً، يعني: لا يعبدن غير الله.
وَلا يَسْرِقْنَ، يعني: لا يأخذن مال أحد بغير حق. وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ يعني:
ولا يقتلن بناتهن، كما قتلن في الجاهلية ويقال: لا يشربن دواءً، فيسقطن حملهن.
ثم اختلفوا في مبايعة النساء، وقال بعضهم: وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثوباً وأخذ في الثوب، وقال بعضهم: كان يشيرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويصافحهن عمر، وذكر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما فتح مكة، وفرغ من مبايعة الرجال، وهو على الصفا، وعمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أسفل منه، فبايع النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن. فقالت هند، امرأة أبي سفيان: إنِّي قَدْ أصَبْتُ مِنْ مَالِ أبِي سُفْيَان، فَلاَ أدْرِي أَحَلاَلٌ أمْ لا؟ فقال أبو سفيان: نَعَمْ مَا أَصَبْتِ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا غَبَرَ. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: عَفَا الله عَمَّا سَلَف.
وفي خبر آخر، أنها قالت: أرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يُعْطِنِي مَا يَكْفِينِي وَلِوَلَدي، هَلْ يَحِلُّ لِي أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَلِوَلَدِكِ بِالمَعْرُوفِ». ثم قال: وَلا يَزْنِينَ فلما قال ذلك، قالت هند: أَوَتَزْنِي الحُرَّةُ؟ فضحك عمر عند ذلك، ثم قال: تَعَالَيْ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ يعني: لا يقتلن بناتهن الصغار، فقالت هند: ربيناهم صغاراً أفنقتلهم كباراً؟ فتبسم النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثم قال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ يعني: لا تجيء بصبي من غير زوجها، فتقول للزوج: هو منك. فقالت هند: إنَّ البُهْتَانَ أَفْحَشُ وَمَا تَأْمُرْنَا إلاَّ بالرّشد.
ثم قال عز وجل: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني: في طاعة مما أمر الله تعالى، ويقال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني: فيما نهيتهن عن النوح وتمزيق الثياب، أو تخلو مع الأجنبي، أو نحو ذلك، فقالت هند: ما جَلَسْنَا هَذَا المَجْلِسِ وَفِي أَنْفُسِنَا أَنْ نَعْصِيكَ فِي شَيْءٍ ثم قال فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ يعني: إذا بايعن على ذلك، فاسأل الله لهن المغفرة لما كان في الشرك. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لهن ما كان في الشرك رحيم فيما بقي.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأمر المسلمين، يتواصلون إليهم بذلك، فيصيبون من

ثمارهم وطعامهم وشرابهم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني: لا تتخذوا الصداقة مع قوم غضب الله عليهم، ويقال: هَذَا أَيضاً في حاطب بن أبي بلتعة.
ثم قال عز وجل: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قال مقاتل: وذلك أن الكافر إذا وضع في قبره، أتاه ملك شديد الانتهار، فيجلسه، ثم يسأله: من ربك، وما دينك، ومن رسولك؟ فيقول: لا أدري. فيقول الملك: أبعدك الله، انظر يا عدو الله إلى منزلك. فينظر إليه من النار، فيدعو بالويل والثبور، فيقول: هذا لك يا عدو الله. فيفتح له باب إلى الجنة، فيقول: هذا لمن آمن بالله تعالى، فلو كنت آمنت بربك نزلت الجنة. فيكون حسرة عليه، وينقطع رجاؤه منها. وعلم أنه أبعد له فيها، ويئس من خير الجنة، فذلك قوله تعالى: للكفار أهل الدنيا الأحياء منهم قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ يعني: من خير الآخرة، لأنهم كذبوا بالثواب والعقاب، وهم آيسون من الجنة كما يئس الكفار من أصحاب القبور، إذا عرف منازله ويقال: إن الكفار إذا مات منهم أحد، يئسوا من رجوعه، فيقال: قد يئس هؤلاء من الآخرة، كما يئس الكفار من أصحاب القبور من رجوعهم ويقال: يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ يعني:
هؤلاء الكفار كما يئس الكفار الذين كانوا قبلهم من الآخرة وهو اليوم من أصحاب القبور والله أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.