
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: الذي قدر الأقوات في كل زمان وما يصلح فيه) (١)، وقال المفسرون: (يعني: ﴿الْعَزِيزِ﴾: في ملكه يصنع ما أراد، ﴿الْعَلِيمِ﴾: بما قدر من خلقهما) (٢).
٩٨ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ قال ابن عباس: (يريد: آدم) (٣)، ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ قال ابن الأنباري: (أي: أراد: فلكم مستقر ومستودع، وبهذا الإضمار يحسن اتصال هذا الكلام بما قبله وحسن الإضمار؛ لأن الفاء يغلب على ما بعدها الاتصال بما يسبقها، فحذف ما يحذف بعد الفاء؛ إنما هو لدلالة الذي قبلها عليه للمواصلة، كقول العرب: إن تزرني فمحسن، وإن قصدتني فبار، وهم يريدون: فأنت بار، فيحذفون لوضوح المعنى) (٤).
وأما تفسير: المستقر والمستودع، فقال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: مستقر في الأرحام ومستودع في الأصلاب) (٥)، وهذا التفسير على القراءتين (٦) في المستقر، وقال في رواية سعيد بن جبير: (المستقر ما في
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٠، والطبري ٧/ ٢٨٥، والسمرقندي ١/ ٥٠٣.
(٣) ذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٦، وذكره ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٥ عن أكثرهم.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٨ لفظ: (أي: فلكم مستقر ومستودع) فقط، والباقي لم أقف عليه.
(٥) لم أقف عليه من رواية عطاء، وهو في "تفسير عطاء الخراساني" ص ٨٨، من قوله، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٩ بسند جيد عن عطاء فقط.
(٦) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فمُسْتَقِر) بكسر القاف وفتحها الباقون. انظر: "السبعة" ص ٢٦٣، و"المبسوط" ص ١٧٢، و"الغاية" ص ٢٤٦، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٥، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦٠.

الرحم، والمستودع ما في الصلب) (١)، وهذا على قراءة من كسر القاف.
وقال كريب (٢): (كتب حبر تيماء (٣) إلى ابن عباس يسأله عن هذه، فكتب إليه المستودع: الصلب، والمستقر: الرحم، ثم قرأ: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ﴾ [الحج: ٥]) (٤)، وهذا التفسير على قراءة من فتح القاف، وقال في رواية العوفي: (كل مخلوق قد فرع من خلقه فهو المستقر، والمستودع: ما في أصلاب الرجال الذي الله خالقه) (٥)، ونحو
(٢) كريب بن أبي مسلم، أبو رشدين المدني، الهاشمي، مولى ابن عباس، تابعي، إمام ثقة، موصوف بالخير والديانة، لازم ابن عباس رضي الله عنهما، وكان عنده عنه حمل بعير من الكتب، توفي رحمه الله تعالى سنة ٩٨ هـ.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٥/ ٢٩٣، و"الجرح والتعديل" ٧/ ١٦٨، و"تهذيب الأسماء واللغات" ٢/ ٦٦، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٤٧٩، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٤٦٨.
(٣) تَيْماء: بالفتح والمد، بلد في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى. انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٦٦.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٨، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٩ بسند ضعيف وفيه قال: (المستقر: الرحم، ثم قرأ: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ﴾ [الحج: ٥]، وقرأ ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ﴾ [البقرة: ٣٦]، قال: مستقرة فوق الأرض، ومستقرة في الرحم، ومستقرة تحت الأرض، حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار) اهـ.
(٥) أخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٩ بسند ضعيف عن العوفي عن ابن عباس قال: (المستقر في الأرحام، والمستودع في الصلب لم يخلق وهو خالقه) ا. هـ.

هذا روى عكرمة عنه قال: (المستقر: الذي قد خُلق واستقر في الرحم، والمستودع: الذي قد استودع في الصلب مما لم يخلق بعد) (١). وقال الوالبي (٢) والضحاك عنه: (المستقر في الرحم، والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب) (٣).
وقال سعيد بن جبير: (﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾ في بطون الأمهات ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾: في أصلاب الآباء، قال: وقال لي ابن عباس: أتزوجتَ يا ابن جبير؟ قلت: لا، وما أريد ذلك يومي هذا. قال: فضرب ظهري، وقال: أما أنه مع ذاك ما كان من مستودع في ظهرك فسيخرج) (٤).
وأكثر أهل التفسير والمعاني: على أن المستقر والمستودع في الأصلاب والأرحام (٥) وقد أحسن أبو علي شرح الحرفين كل الإحسان،
(٢) الوالبي هو: علي بن أبي طلحة. والأثر عنه أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٧ بسند جيد.
(٣) لم أقف عليه من رواية الضحاك، وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٩ بسند ضعيف عن الضحاك من قوله. وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٥٧ روى عن الضحاك عن ابن عباس قال: (المستودع: المكان الذي تموت فيه) اهـ.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٨ - ٢٨٩، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٨ من عدة طرق جيدة.
(٥) قال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٦٨: (أكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب)، وهو قول الفراء في "معانيه" ١/ ٣٤٧، ونحوه قال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٠١، واليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٤٠، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١٥٧، وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٧٨: (وهذا القول أظهر والله أعلم) ا. هـ، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٩٨، والقرطبي ٧/ ٤٦.

مع ذكر اختلاف القراءتين في المستقر فقال: (قال سيبويه: "قالوا: قرَّ في مكانه واستقر" (١)، فمن كسر القاف كان المستقر بمعنى: القارّ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون خبره المضمر منكم، أي: منكم مستقر، كقولك: بعضكم مستقر، أي: مستقر في الأرحام، ومن فتح القاف فليس على أنه مفعول به، ألا ترى أن استقر لا يتعدى، وإذا لم يتعد لم يبن منه اسم مفعولٍ به، وإذا لم يكن مفعولًا به كان اسم مكان، فالمستقر بمنزلة المقرّ، كما كان المستقر بمنزلة القارّ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون خبره المضمر منكم، كما جاز ذلك في قول من كسر القاف، فإذا لم يجز ذلك جعلت الخبر المضمر لكم، فيكون التقدير: لكم مَقَرٌّ.
فأما المستودع فإن استودع فعلٌ يتعدى إلى مفعولين، [تقول] (٢): استودعت زيدًا ألفًا، وأودعت مثله، فاستودع مثل أَوْدَع، كما أن استجاب بمنزلة أجاب، فالمستودع يجوز أن يكون الإنسان الذي استودع ذلك المكان، ويجوز أن يكون المكان نفسه، فمن قرأ (فَمُستقَر) بفتح القاف جعل المستودع مكانًا ليكون مثل المعطوف عليه، أي: فلكم مكان استقرار، ومكان استيداع، ومن قرأ (فمستقِر) فالمعنى: منكم مستقر في الأرحام، ومنكم مستودع في الأصلاب، فالمستودع اسم المفعول به ليكون مثل المستقر في أنه اسم لغير المكان) (٣).
(٢) في (ش): (يقول)، بالياء.
(٣) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٦٤ - ٣٦٥، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٤٧، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٤، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٦٨، و"معاني القراءات" ١/ ٣٧٣، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٦، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦٢، و"الكشاف" ١/ ٤٤٢.