
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ ﴿يَلْعَبُونَ﴾ حال تقديره: لاعبين (١)، يريد: عاملين ما لا يجدي عليهم، والعرب تقول لمن كان في عمل لا يجدي عليه: إنما أنت لاعب (٢)، وحقيقة هذا الكلام التهدد (٣).
قال المفسرون: وقوله: ﴿ذَرْهُمْ﴾ منسوخ بآية السيف (٤).
٩٢ - وقوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ المبارك: الذي بورك فيه، ومعنى البركة: الكثرة في كل خير (٥)، الأزهري (٦): (وأصل البركة الزيادة والنماء وثبوت الخير (٧) على الازدياد والنماء)، قال أهل اللغة (٨): وأصله الثبوت، قال اللحياني (٩): (يقال: بَارَكت على التجارة وغيرها،
(٢) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٧١.
(٣) انظر: الطبري ٧/ ٢٧١.
(٤) هذا قول ابن حزم في "ناسخه" ص ٣٧، وابن سلامة ص ٦٨، وابن العربي ٢/ ٢١٢، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧٨: (ظاهر الأمر أنه موادعة فيكون منسوخًا بآيات القتال، وإن جعل تهديدًا أو وعيدًا خاليًا من الموادعة فلا نسخ) اهـ. والظاهر عدم النسخ وأنها تهديد، وهو قول الجمهور. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٣٢١، و"الإيضاح" لمكي ص ٢٤٤، وابن عطية ٥/ ٢٨٣، و"النواسخ" لابن الجوزي ص ٣٢٧، و"المصفى" ص ٣٢، والرازي ١٣/ ٧٨، والقرطبي ٧/ ٣٨، و"النسخ في القرآن" لمصطفى زيد ١/ ٤٨٣.
(٥) انظر: "العين" ٥/ ٣٦٨، و"الجمهرة" ١/ ٣٢٥، و"الصحاح" ٤/ ١٥٧٤، و"المجمل" ١/ ١٢١، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٢٧، و"المفردات" ص ١١٩، و"اللسان" ١/ ٢٦٦ (برك).
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩.
(٧) في (ش): (وثبوت الحكم).
(٨) انظر: "الزاهر" ١/ ٥٣.
(٩) "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩.

أي: داومت وواظبت)، ومنه قول الشاعر (١):
ولا يُنْجِي مِنَ الغَمَرَاتِ إلَّا | بَرَاكاءُ القِتالِ (٢) أوِ الفِرَارُ |
(٢) في (أ): (للقتال)، وهو تحريف.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨١، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٤١ نحوه.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٦، و"الوسيط" للواحدي ١/ ٨١، والرازي ١٣/ ٨٠.
(٥) هذا قول الثعلبي ١٨١ أ، وقال الكرماني في "غرائبه" ١/ ٣٧١، وابن عاشور في "التحرير" ٧/ ٣٦٩: (هو خبر بعد خبر) اهـ. والجمهور على أنه صفة لكتاب، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٣٨: (ما ذكره الواحدي لا يتمشى إلا على أن يكون خبرًا ثانيا، لهذا وهو بعيد جدًا، وإذا سُلم ذلك فيكون: (أنزلناه) عنده اعتراضًا على ظاهر عبارته، ولكن لا يحتاج إلى ذلك بل يجعل (أنزلناه) صفة لكتاب، ولا محذور حينئذ على هذا التقدير، وبالجملة فالوجه كونه صفة أو خبرًا لمبتدأ مضمر) ا. هـ. بتصرف.
وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٢، و"إعراب النحاس" ٢/ ٨٢، و"كتاب الشعر" ٢/ ٥٠٥، و"الإيضاح العضدي" ١/ ٢٨٧، وابن عطية ٥/ ٢٨٣، و"التبيان" ١/ ٣٤٧ و"الفريد" ٢/ ١٩٠.

و (١) هذا كتاب مبارك أنزلناه، كقوله تعالى: ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾ [الأنبياء: ٥٠].
وقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: جميع الكتب) (٢).
وقال الكلبي: (موافق لما بين يديه من التوراة والإنجيل وسائر الكتب) (٣) ونحوه قال الحسن (٤) [وغيره] (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ هو عطف (٦) على معنى الكلام (٧) قال أبو إسحاق: (المعنى: أنزلناه للبركة والإنذار، قال: ومعنى ﴿أُمَّ الْقُرَى﴾: أهل أم القرى) (٨)، فعلى هذا هو من باب حذف المضاف، قال ابن عباس وغيره: (يريد: مكة) (٩).
(٢) أخرج الطبري ٧/ ٢٧١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٤، و"تحقيق الغماري" بسند ضعيف عنه قال: (مصدق لما قبله من الكتب التي أنزلها الله والآيات والرسل الذين بعثهم الله بالآيات).
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٤١.
(٤) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٤٢.
(٥) في (ش): (وغيرهم)، وقد أخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٧١ هذا القول عن قتادة والربيع بن أنس، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٤٤، و"تحقيق الغماري"، عن أبي العالية، ورجحه ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٢٨٤.
(٦) في (ش): (هو معطوف).
(٧) انظر: "الدر المصون" ٥/ ٣٨ - ٣٩.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧١، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٥٧.
(٩) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٧١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٥ بسند جيد، وقال الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٨١: (اتفقوا على أن هاهنا محذوفًا، والتقدير: ولتنذر أهل أم القرى؛ واتفقوا على أن أم القرى هي مكة) اهـ.

قال الزجاج: (وسميت أم القرى؛ لأنها قبلة جميع الناس يؤمونها، قال: وجائز أن تكون سميت أم القرى؛ لأنها كانت أعظم القرى شأنًا) (١).
وقال المفسرون: (سميت مكة أم القرى؛ لأن الأرض كلها دُحيت من تحتها، فهي أصل للأرض كلها) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ قال ابن عباس: (يريد: جميع الآفاق) (٣)، وقال الكلبي: (سائر الأرضين) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ قال الفراء: (الهاء تكون لمحمد وللتنزيل) (٥)، فإن قيل: كثير ممن يؤمن بالآخرة لا يؤمن بمحمد ولا بالقرآن، فلم قال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾؟ قيل:
(٢) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢١٣، والطبري ٧/ ٢٧٢ بسند جيد عن قتادة، وأخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٥ عن عطاء وعمرو بن دينار، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٨٥، عن ابن عباس، وهو قول مقاتل ١/ ٥٧٥، والثعلبي ١٨١/ أ، والبغوي ٣/ ١٦٨، وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند جيد عن السدي قال: (أم القرى مكة سميت؛ لأن أول بيت وضع بها) اهـ. وذكره ابن أبي حاتم عن جماعة من السلف، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧٩: (سميت بذلك؛ لأنها منشأ الدين، ولدحو الأرض منها، ولأنها وسط الأرض، ولكونها قبلة وموضع الحج، ومكان أول بيت وضع للناس) اهـ.
انظر: الطبري ٧/ ٢٧٢، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٥٧، والسمرقندي ١/ ٥٠١، والماوردي ٢/ ١٤٢، و"الكشاف" ٢/ ٣٥، وابن عطية ٥/ ٢٨٤.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ٢٧١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٥ بسند جيد، وهذا المعنى متفق عليه. انظر: السمرقندي ١/ ٥٠١، وابن عطية ٥/ ٢٨٤، والرازي ١٣/ ٨١.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٤٢.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٤.

ذهب بعضهم إلى أن هذا مما أُريد به الخصوص بدليل قوله: ﴿وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [الأنعام: ٩٢] وهذا من صفة المؤمنين، وقال بعض أهل المعاني: (لم يعتد بإيمان أولئك الذين آمنوا بالآخرة ولم يؤمنوا بمحمد، وإنما يؤمن بالآخرة حقيقة من آمن بمحمد وبكتابه، فلذلك وصف المؤمنين بالآخرة بأنهم يؤمنون بمحمد والقرآن، ألا ترى أنه قال: ﴿وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ فبيّن أن إيمانهم بالآخرة يدعوهم إلى الإيمان به والمحافظة على صلاتهم) (١)، وعامة القراء (٢) قرؤوا (ولتنذر) بالتاء خطاب للنبي - ﷺ -؛ لأن المأمور والموصوف بالإنذار هو، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ﴾ [الرعد: ٧]. وقال: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء جعل الكتاب هو المنذر؛ لأن فيه إنذارًا، ألا ترى أنه قال: ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ [إبراهيم: ٥٢] أي: بالكتاب، وقال: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ﴾ [الأنعام: ٥١]، وقال: ﴿إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء: ٤٥] فلا يمتنع أن يسند الإنذار إليه على الاتساع (٣).
(٢) قرأ عاصم في رواية أبي بكر بن عياش (ولينذر) بالياء، وقرأ الباقون بالتاء.
انظر: "السبعة" ص ٢٦٣، و"المبسوط" ص ١٧٢، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٤، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦٠، ووقع في "التيسير" نسبة القراءة بالياء إلى أبي عمرو، ولعله تحريف أو وهم.
(٣) ما سبق قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٥٦، وانظر: "إعراب القراءات" ١/ ١٦٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٥، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦١، و"الكشف" ١/ ٤٤٠.