
وَأَمَّا مَعْنَى حَكِيمٌ عَلِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، لَا بِمُوجِبِ الشَّهْوَةِ وَالْمُجَازَفَةِ. فَإِنَّ أَفْعَالَ اللَّه منزهة عن العبث والفساد والباطل.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٨]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَظْهَرَ حُجَّةَ اللَّه تَعَالَى فِي التَّوْحِيدِ وَنَصَرَهَا وَذَبَّ عَنْهَا عَدَّدَ وُجُوهَ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَيْهِ. فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ وَالْمُرَادُ إِنَّا نَحْنُ آتَيْنَاهُ تِلْكَ الْحُجَّةَ وَهَدَيْنَاهُ إِلَيْهَا وَأَوْقَفْنَا عَقْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهَا. وَذَكَرَ نَفْسَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعَظَمَةِ وَهُوَ كِنَايَةُ الْجَمْعِ عَلَى وَفْقِ مَا يَقُولُهُ عُظَمَاءُ الْمُلُوكِ. فَعَلْنَا، وَقُلْنَا، وَذَكَرْنَا. ولما ذكر نفسه تعالى هاهنا بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعَظَمَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعَظَمَةُ عَظَمَةً كَامِلَةً رَفِيعَةً شَرِيفَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيتَاءَ اللَّه تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِلْكَ الْحُجَّةَ مِنْ أَشْرَفِ النِّعَمِ، وَمِنْ أَجَلِّ مَرَاتِبِ الْعَطَايَا وَالْمَوَاهِبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالرِّفْعَةِ وَالِاتِّصَالِ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ. وَهِيَ قَوْلُهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُ عَزِيزًا فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَشْرَفَ النَّاسِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مِنْ نَسْلِهِ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَأَبْقَى هَذِهِ الْكَرَامَةَ فِي نَسْلِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ السُّرُورِ عِلْمَ الْمَرْءِ بِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ عَقِبِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُلُوكُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ أَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّه عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَزَاءً عَلَى قِيَامِهِ بِالذَّبِّ عَنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ:
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ لِصُلْبِهِ وَيَعْقُوبَ بَعْدَهُ مِنْ إِسْحَاقَ.
فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَمْ يَذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ إِسْحَاقَ، بَلْ أَخَّرَ ذِكْرَهُ عَنْهُ بِدَرَجَاتٍ؟ قُلْنَا: لأن المقصود بالذكر هاهنا أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ بِأَسْرِهِمْ أَوْلَادُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ/ مَا خَرَجَ مِنْ صُلْبِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، وَلَا يَجُوزُ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْعَرَبِ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ باللَّه بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا تَرَكَ الشِّرْكَ وَأَصَرَّ عَلَى التَّوْحِيدِ رَزَقَهُ اللَّه النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا أَنْ آتَاهُ اللَّه أَوْلَادًا كَانُوا أَنْبِيَاءً وَمُلُوكًا، فَإِذَا كَانَ الْمُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ امْتَنَعَ أَنْ يَذْكُرَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ مَعَ إِسْحَاقَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ فِي أَشْرَفِ الْأَنْسَابِ، وذلك لأنه رزقه أولادا مثل إسحاق، وَيَعْقُوبَ. وَجَعَلَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ نَسْلِهِمَا، وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَصْلَابِ آبَاءٍ طَاهِرِينَ مِثْلَ

نُوحٍ. وَإِدْرِيسَ، وَشِيثَ. فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ كَرَامَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَسَبِ الْأَوْلَادِ وَبِحَسَبِ الْآبَاءِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ فَقِيلَ الْمُرَادُ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نُوحًا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ وَاجِبٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي جُمْلَتِهِمْ لُوطًا وَهُوَ كَانَ ابْنَ أَخِ إِبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ رَسُولًا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ. الثَّالِثُ: أَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ ذُرِّيَّتُهُ، فَعَلَى هَذَا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، بَلْ هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الرَّابِعُ: قِيلَ إِنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى نُوحًا لِأَنَّ كَوْنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَوْلَادِهِ أَحَدُ مُوجِبَاتِ رِفْعَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا أَرْبَعَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمْ: نوح، وإبراهيم، وإسحاق، وَيَعْقُوبَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: دَاوُدَ، وَسُلَيْمَانَ، وَأَيُّوبَ، وَيُوسُفَ، وَمُوسَى، وَهَارُونَ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَالْيَسَعَ، وَيُونُسَ، وَلُوطًا، وَالْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ وَاجِبَةٌ، وَالتَّرْتِيبُ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِحَسَبِ الْفَضْلِ وَالدَّرَجَةِ وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمُدَّةِ، وَالتَّرْتِيبُ بِحَسَبِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟
قُلْنَا: الْحَقُّ أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَأَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَطْلُوبِ هذه الآية فإن حرف الواو حاصل هاهنا مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ الْبَتَّةَ، لَا بِحَسَبِ الشَّرَفِ وَلَا بِحَسَبِ الزَّمَانِ/ وَأَقُولُ عِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْأَنْبِيَاءِ بِنَوْعٍ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْفَضْلِ.
فَمِنَ الْمَرَاتِبِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْخَلْقِ: الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ وَالْقُدْرَةُ، واللَّه تَعَالَى قَدْ أَعْطَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ نَصِيبًا عَظِيمًا.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَلَاءُ الشَّدِيدُ وَالْمِحْنَةُ الْعَظِيمَةُ، وَقَدْ خَصَّ اللَّه أَيُّوبَ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَهُوَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ نَالَ الْبَلَاءَ الشَّدِيدَ الْكَثِيرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَى الْمُلْكِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ فَضَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَخَوَاصِّهِمْ قُوَّةُ الْمُعْجِزَاتِ وَكَثْرَةُ الْبَرَاهِينِ وَالْمَهَابَةُ الْعَظِيمَةُ وَالصَّوْلَةُ الشَّدِيدَةُ وَتَخْصِيصُ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالتَّقْرِيبِ الْعَظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ التَّامِّ، وَذَلِكَ كَانَ فِي حَقِّ مُوسَى وَهَارُونَ.
وَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: الزُّهْدُ الشَّدِيدُ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا، وَتَرْكُ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي حَقِّ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
وَالْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ أَتْبَاعٌ وَأَشْيَاعٌ، وَهُمْ إِسْمَاعِيلُ، وَالْيَسَعُ،

وَيُونُسُ، وَلُوطٌ. فَإِذَا اعْتَبَرْنَا هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي رَاعَيْنَاهُ ظَهَرَ أَنَّ التَّرْتِيبَ حَاصِلٌ فِي ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِحَسَبِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَعَالَى إِلَى مَاذَا هَدَاهُمْ؟ وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ قَالَ بَعْدَهَا: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْهِدَايَةَ كَانَتْ جَزَاءَ الْمُحْسِنِينَ عَلَى إِحْسَانِهِمْ وَجَزَاءُ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا الثَّوَابَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ إِلَى الْجَنَّةِ. فَأَمَّا الْإِرْشَادُ إِلَى الدِّينِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْرِفَةِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ جَزَاءً لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ إِلَى الدِّينِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَانَ جَزَاءً عَلَى الْإِحْسَانِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِي طَلَبِ الْحَقِّ، فاللَّه تَعَالَى جَازَاهُمْ عَلَى حُسْنِ طَلَبِهِمْ بِإِيصَالِهِمْ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩].
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ: الْإِرْشَادُ إِلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ الْمَخْصُوصَةَ بِالْأَنْبِيَاءِ لَيْسَتْ إِلَّا ذَلِكَ.
فَإِنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الرِّسَالَةُ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ، وَذَلِكَ عِنْدَكُمْ بَاطِلٌ.
قُلْنَا: يُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ عَلَى الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ وَالْكَرَامَةُ، فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَالَمَ اسْمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى، فَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْعَالَمِ الْمَلَائِكَةُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْعَالَمِينَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنَ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ يُوجِبُ ذَلِكَ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ مَعْنَاهُ فَضَّلْنَاهُ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ: وَكُلًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُفَضَّلُونَ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ أَيَّ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ، كَلَامٌ وَاقِعٌ فِي نَوْعٍ آخَرَ لَا تَعْلُّقَ به بِالْأَوَّلِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَاللَّيْسَعَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ وَالْيَسَعَ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ فِيهِ اللَّيْسَعُ وَالْيَسَعُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْتَسِبُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ إِلَّا بِالْأُمِّ، فَكَذَلِكَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلّم، وإن