
قوله تعالى: ﴿أتحاجواني﴾ : قرأ نافع وابن ذكوان وهشام بخلافٍ عنه بنون خفيفة، والباقون بنون ثقيلة، والتثقيلُ هو الأصل؛ لأن النون الأولى نون الرفع في الأمثلة الخمسة، والثانية نون الوقاية، فاسْتُثْقِل اجتماعهما،
صفحة رقم 15
وفيها لغات ثلاث: الفكُّ وتركهما على حالهما، والإِدغام، والحذف، وقد قرء بهذه اللغات كلها في قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ﴾ [الزمر: ٦٤]، وهنا لم تقرأ إلا بالحذف أو الإِدغام، وفي سورة الحجر: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤]، كذلك، فقراءة ابن كثير بالإِدغام ونافع بالحذف، والباقون يفتحون النون لأنها عندهم نون رفع، وفي سورة النحل: ﴿تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾ [النحل: ٢٧]، يُقرأ بفتح النون عند الجمهور لأنها نونُ رفع، ويقرؤه نافع بنونٍ خفيفة مكسورةٍ على الحذف، فنافعٌ حَذَفَ إحدى النونين في جميع هذه المواضع التي ذكرتها لك، فإنه/ يقرأ في الزمر أيضاً بحذف إحداهما، وقوله تعالى: ﴿أتعدانني﴾ [الأحقاف: ١٧]، قرأه هشام بالإِدغام، والباقون بالإِظهار دون الحذف.
واختلف النحاةُ في أيَّتهما المحذوفة: فمذهب سيبويه ومَنْ تبعه أن المحذوفةَ هي الأُولى، ومذهب الأخفش ومَنْ تبعه أن المحذوفة هي الثانية، استدلَّ سيبويه على ذلك بأنَّ نونَ الرفع قد عُهِد حَذْفُها دون ملاقاة مِثْلٍ رفعاً، وأُنْشِد:
١٩٦٨ - فإنْ يكُ قومٌ سَرَّهمْ ما صنعتُمُ | سَتَحْتَلبوها لاقِحاً غير باهِلِ |

إلا أنها حُذِفَتْ ضرورة، وأنشدوا أيضاً قوله:
١٩٦٩ - أبيتُ أَسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكي | وجهكِ بالعنبرِ والمِسْك الذكي |
١٩٧٠ - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحقِبٍ | إثماً من اللهِ ولا واغِلِ |
ولقائلٍ أن يقول: لا يلزم من جواز حَذْفَ الأصل حَذْفُ الفرع، لأنَّ في صفحة رقم 17

الأصل قوةً تقتضي جواز حذفه بخلاف الفرع، وعلى الآخر له أن يقول: هذا مُعارَضٌ بإلغاء العامل: وذلك أنه لو كان المحذوفُ نونَ الرفع لأجل نون الوقاية ودخل الجازم والناصب لم يجد له شيئاً يحذفه؛ لأن النون حُذِفت لعارض آخر. واستدلوا لسيبويه أيضاً بأن نون الوقاية مكسورة، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغييرٌ بخلاف ما لو ادَّعَيْنا حَذْفها فإنَّا يلزمنا تغييرُ نون الرفع من فتح إلى كسر، وتقليلُ العمل أولى، واستدلوا أيضاً بأنها قد حذفت مع مثلها وإن لم يكن نون وقاية كقوله:
١٩٧١ - كل له نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحبِهِ | بنعمةِ الله نَقْلِيْكُمْ وتَقْلُونا |
١٩٧٢ - تراه كالثَّغامِ يُعَلُّ مِسْكاً | يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْني |
١٩٧٣ - كمُنْيَةِ جابر إذ قال ليتي | أُصادِفُه وأُتْلِفُ بعضَ مالي |

مَنْ مَنَع ذلك إلا في ضرورةٍ أو قليلٍ من الكلام، ولهذا عِيْبَ على مكي ابن أبي طالب حيث قال: «الحَذْفُ بعيدٌ في العربية قبيح مكروه، وإنما يجوز في الشعر للوزن، والقرآن لا يُحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه». وتجاسر بعضهم فقال: «هذه القراءة أعني تخفيف النون لحنٌ» وهذان القولان مردودان عليهما لتواتر ذلك، وقد قَدَّمْتُ الدليل على صحته لغةً، وأيضاً فإن الثقاتِ نقلوا أنها لغةٌ ثابتةٌ للعرب وهم غطفان فلا معنى لإِنكارها.
و «في الله» متعلِّقٌ ب «أتحاجُّوني» لا ب «حاجَّه»، والمسألةُ من باب التنازع، وأعمل الثاني لأنه لما أضمر في الأول حذف، ولو أَعْمل الأول لأضْمر في الثاني من غير حذفٍ، ومثله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة﴾ [النساء: ١٧٦]، كذا قال الشيخ، وفيه نظر، من حيث/ إن المعنى ليس على تَسَلُّط «وَحَاجَّهُ» على قوله «في الله» ؛ إذ الظاهر انقطاعُ الجملة القولية ممَّا قبلها. وقوله «في الله» أي في شأنه ووحدانيته.
قوله: «وَقَدْ هَدَاني» في محلِّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان أظهرهما: أنه التاء في «أتحاجونني» أي: أتجادلونني فيه حال كوني مَهْدِيّاً مِنْ عنده.
والثاني: أنه حال من «الله» أي: أتخاصمونني فيه حال كونه هادياً لي، فحجَّتكم لا تُجْدي شيئاً لأنها داحضة.
قوله: ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ هذه الجملة يجوز أن تكونَ مستأنفة، أخبر عليه السلام بأنه لا يخاف ما تشركون به ربَّه ثقةً به، وكانوا قد خوَّفوه مِنْ ضررٍ يحصُل له بسبب سَبِّ آلهتهم، ويحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصبٍ على الحال باعتبارين أحدهما: أن تكونَ ثانيةً عطفاً على الأولى، فتكون الحالان

من الياء في «أتحاجونِّي». والثاني: أنها حال من الياء في «هداني» فتكون جملةً حالية من بعض جملة حالية فهي قريبة من الحال المتداخلة، إلا أنه لا بد من إضمار مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع، لما تقدَّم من أن الفعل المضارع ب «لا» حكمُه حكمُ المثبت من حيث إنه لا تباشره الواو.
و «ما» يجوز فيها الأوجه الثلاثة: أن تكونَ مصدريةً، وعلى هذا فالهاء في «به» لا تعود على «ما» عند الجمهور، بل تعود على الله تعالى، والتقدير: ولا أخاف إشراكَكم بالله، والمفعول محذوف أي: ما تشركون غير الله به، وأن تكون بمعنى الذي، وأن تكون نكرةً موصوفة، والهاء في «به» على هذين الوجهين تعود على «ما»، والمعنى: ولا أخاف الذي تشركون الله به، فحذف المفعول أيضاً كما حذفه في الوجه الأول، وقدَّر أبو البقاء قبل الضمير مضافاً فقال: «ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على» ما «أي: ولا أخاف الذي تشركون بسببه»، ولا حاجةَ إلى ذلك.
قوله: «إلا أَنْ يشاء» في هذا الاستثناء قَوْلان، أظهرهما: أنه متصل، والثاني: أنه منقطع، والقائلون بالاتصال: اختلفوا في المستثنى منه، فجعله الزمخشري زماناً فقال: «إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف، فحذف الوقت، يعني: لا أخاف معبوداتِكم في وقتٍ قط؛ لأنها لا تقدر على منفعةٍ ولا مَضَرَّة إلا إذا شاء ربي». وجَعَلَه أبو البقاء حالاً فقال: تقديره إلا في حال مشيئة ربي أي: لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال. وممَّن ذهب إلى انقطاعه ابن عطية والحوفي وأبو البقاء في أحد الوجهين، فقال الحوفي: «تقديره: لكن مشيئة الله إياي بضرٍّ أخاف»، وقال ابن عطية: «استثناء ليس من الأول

ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه في أن يريده بضر.
قوله:» شيئاً «يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب على المصدر تقديره: إلا أن يشاء ربي شيئاً من المشيئة، والثاني: أنه مفعول به ليشاء، وإنما كان الأولُ أظهرَ لوجهين، أحدهما: أن الكلام المؤكد أقوى وأثبتُ في النفس من غير المؤكد.
والثاني: أنه قد تقدم أن مفعول المشيئة والإِرادة لا يُذْكران إلا إذا كان فيهما غرابة كقوله:
قوله: «عِلْماً» فيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب على التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن الفاعل تقديره: وَسِع علمُ ربي كلَّ شيء، كقوله: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤]. والثاني: أنه منصوبٌ على المفعول المطلق؛ لأن معنى وَسِعَ عَلِم. قال أبو البقاء: «لأنَّ ما يَسَعُ الشيء فقد أحاط به، والعالم بالشيء محيطٌ بعلمه» وهذا الذي ادَّعاه من المجاز بعيد. و «كل شيء» مفعول لوسع على كلا التقديرين. و «أفلا تتذكرون» جملة تقرير وتوبيخ، ولا محلَّ لها لاستئنافها.
١٩٧٤ - ولو شِئْتُ أَنْ أبكي دماً لبَكَيْتُه ..............