آيات من القرآن الكريم

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ
ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ

وَقَوْلُهُ: فَلَمَسُوهُ عَطْفٌ عَلَى نَزَّلْنا. وَاللَّمْسُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ لِمَعْرِفَةِ وُجُودِهِ، أَوْ لِمَعْرِفَةِ وَصْفِ ظَاهِرِهِ مِنْ لِينٍ أَوْ خُشُونَةٍ، وَمِنْ بُرُودَةٍ أَوْ حَرَارَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ: بِأَيْدِيهِمْ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى اللَّمْسِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي التَّأَمُّلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَلِلْإِفْصَاحِ عَنْ مُنْتَهَى مَا اعْتِيدَ مِنْ مُكَابَرَتِهِمْ وَوَقَاحَتِهِمْ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ، وَلِلتَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ: لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لِأَنَّ الْمَظَاهِرَ السِّحْرِيَّةَ تَخَيُّلَاتٌ لَا تُلْمَسُ.
وَجَاءَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَقَالُوا، كَمَا قَالَ: فَلَمَسُوهُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ تَسْجِيلِ أَنَّ دَافِعَهُمْ إِلَى هَذَا التَّعَنُّتِ هُوَ الْكُفْرُ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُؤْذِنُ
بِالتَّعْلِيلِ.
وَمَعْنَى: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَنَّهُمْ يُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُغَالِطُونَ قَوْمَهُمْ لِسَتْرِ مُكَابَرَتِهِمْ وَلِدَفْعِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا شَأْنُ الْمَغْلُوبِ الْمَحْجُوجِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَعَاذِيرِ الْكَاذِبَةِ.
وَالْمُبِينُ: الْبَيِّنُ الْوَاضِحُ، مُشْتَقٌّ مِنْ (أَبَانَ) مُرَادِفُ (بَانَ). وَتَقَدَّمَ مَعْنَى السِّحْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [].
[٨، ٩]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً، لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ عَنْ تَوَرُّكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَمَا قَبْلَهُ بَيَانٌ لِعَدَمِ جَدْوَى مُحَاوَلَةِ مَا يُقْلِعُ عِنَادَهُمْ، فَذَلِكَ فَرْضٌ بِإِنْزَالِ كِتَابٍ عَلَيْهِمْ، مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ تَصْدِيقُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا حِكَايَةٌ لِاقْتِرَاحٍ مِنْهُمْ آيَةً يُصَدِّقُونَهُ بِهَا. وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَاقِعٌ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ هَذَا زَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وَعَبْدَةَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ وَأُبَيَّ

صفحة رقم 142

ابْن خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنَ وَائِلٍ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَمَنْ مَعَهُمْ، أَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ.
فَقَوْلُهُ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أَيْ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ نُشَاهِدُهُ وَيُخْبِرُنَا بِصِدْقِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَطَلَّبُهُ الْمُعَانِدُ. أَمَّا نُزُولُ الْمَلَكِ الَّذِي لَا يَرَوْنَهُ فَهُوَ أَمْرٌ وَاقِعٌ، وَفَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [].
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَإِنْ كَانَ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَائِلُونَ بِقَوْلِهِ:
وَمُوَافِقُونَ عَلَيْهِ.
ولَوْلا لِلتَّحْضِيضِ بِمَعْنَى (هَلَّا). وَالتَّحْضِيضُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُعَادُ الضَّمِيرِ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ فِي الْكَلَامِ ضَمِيرٌ غَائِبٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ وَكَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مَنْ هُوَ صَاحِبُ خَبَرٍ أَوْ قِصَّةٍ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَا تَعَيَّنَ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الضَّمِيرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ
اسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِ ابْنِ صَيَّادٍ: «إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِلَّا يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ». يُرِيد من مائر الْغَيْبَةِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى الدَّجَّالَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ.
وَمِثْلُ الضَّمِيرِ اسْمُ الْإِشَارَةِ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكَلَامِ اسْمٌ يُشَارُ إِلَيْهِ. كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ لِأَخِيهِ عِنْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ فَاسْتَعْلِمْ لَنَا عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ». وَفِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْقَبْرِ «فَيُقَالُ لَهُ (أَيْ لِلْمَقْبُورِ) : مَا عَلَّمَكَ بِهَذَا الرَّجُلِ» يَعْنِي أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ قَوْلُهُمْ لِلَّذِي أَرْسَلُوهُ إِلَى النَّبِيءِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ ملكا. وَقد افهوه بِهِ مَرَّةً أُخْرَى فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَإِنَّ (لَوْمَا) أُخْتُ (لَوْلَا) فِي إِفَادَةِ التَّحْضِيضِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ مَعْنَاهُ: لَوْ أَنْزَلَنَا مَلَكًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا يُكَلِّمُهُمْ لَقُضِيَ الْأَمْرُ، أَيْ أَمْرُهُمْ فَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، أَيْ لَقُضِيَ أَمْرُ عَذَابِهِمُ الَّذِي يَتَهَدَّدُهُمْ بِهِ.

صفحة رقم 143

وَمَعْنَى: لَقُضِيَ تُمِّمَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنْزِلُ مَلَائِكَةٌ غَيْرُ الَّذِينَ سَخَّرَهُمُ اللَّهُ لِلْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ مِثْلَ الْحَفَظَةِ، وَمَلَكِ الْمَوْتِ، وَالْمَلَكِ الَّذِي يَأْتِي بِالْوَحْيِ إِلَّا مَلَائِكَةٌ تَنْزِلُ لِتَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِالنَّصْرِ عَلَى مَنْ يُكَذِّبُهُمْ، مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي نَزَلَتْ لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ. وَلَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْنَ الْقَوْمِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ إِلَّا لِإِنْزَالِ الْعَذَابِ بِهِمْ، كَمَا نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي قَوْمِ لُوطٍ. فَمُشْرِكُو مَكَّةَ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيءَ أَنْ يُرِيَهُمْ مَلَكًا مَعَهُ ظَنُّوا مُقْتَرَحَهُمْ تَعْجِيزًا، فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا أَمْرًا لَوْ أُجِيبُوا إِلَيْهِ لَكَانَ سَبَبًا فِي مُنَاجَزَةِ هَلَاكِهِمُ الَّذِي أَمْهَلَهُمْ إِلَيْهِ فِيهِ رَحْمَةً مِنْهُ.
وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الصَّلَابَةِ وَالْغَضَبِ لِلْحَقِّ بِدُونِ هَوَادَةٍ، وَجَعَلَ الْفِطْرَةَ الْمَلَكِيَّةَ سَرِيعَةً لِتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ عَلَى وَفْقِ الْعَمَلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، فَلِذَلِكَ حَجَزَهُمُ اللَّهُ عَنِ الِاتِّصَالِ بِغَيْرِ الْعِبَادِ المكرّمين الَّذين شابهن نُفُوسُهُمُ الْإِنْسَانِيَّةُ النُّفُوسَ الْمَلَكِيَّةَ، وَلِذَلِكَ حَجَبَهُمُ اللَّهُ عَنِ النُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، وَكَمَا قَالَ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ فَلَوْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مَلَائِكَةً فِي الْوَسَطِ الْبَشَرِيِّ لَمَا أَمْهَلُوا أَهْلَ الضلال وَالْفساد وَلنَا جزوهم جَزَاءَ الْعَذَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ لِقَوْمِ لُوطٍ لَمَّا لَقُوا لُوطًا قَالُوا: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَلَمَّا جَادَلَهُمْ إِبْرَاهِيمُ فِي قَوْمِ لُوطٍ بَعْدَ أَنْ بَشَّرُوهُ وَاسْتَأْنَسَ بِهِمْ قَالُوا يَا إِبْراهِيمُ
أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ
وَهُوَ نُزُولُ الْمَلَائِكَة فَلَيْسَ للْمَلَائكَة تُصْرَفُ فِي غَيْرِ مَا وُجِّهُوا إِلَيْهِ.
فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَا اقْتَرَحُوهُ لَوْ وَقع لَكَانَ سيء الْمَغَبَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ إِنْزَالِ الْمَلَكِ رَحْمَةً بِهِمْ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ مَا كَانَ لِيُظْهِرَ آيَاتِهِ عَنِ اقْتِرَاحِ الضَّالِّينَ، إِذْ لَيْسَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَدِ التَّصَدِّي لِرَغَبَاتِ النَّاسِ مِثْلَ مَا يَتَصَدَّى الصَّانِعُ أَوِ التَّاجِرُ، وَلَوْ أُجِيبَتْ رَغَبَاتُ بَعْضِ الْمُقْتَرِحِينَ لَرَامَ كُلُّ مَنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ أَنْ تَظْهَرَ لَهُ آيَةٌ حَسَبَ مُقْتَرَحِهِ فَيَصِيرُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضَيِّعًا مُدَّةَ الْإِرْشَادِ وَتَلْتَفُّ عَلَيْهِ النَّاسُ الْتِفَافَهُمْ عَلَى الْمُشَعْوِذِينَ، وَذَلِكَ يُنَافِي حُرْمَةَ

صفحة رقم 144

النُّبُوءَةِ، وَلَكِنَّ الْآيَاتِ تَأْتِي عَنْ مَحْضِ اخْتِيَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَسْأَلَةٍ. وَإِنَّمَا أَجَابَ اللَّهُ اقْتِرَاحَ الْحَوَارِيِّينَ إِنْزَالَ الْمَائِدَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ، وَمَا أَرَادُوا إِلَّا خَيْرًا. وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْبَأَهُمْ أَنَّ إِجَابَتَهُمْ لِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ تَسْتَتْبِعُ نَفْعًا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَكَانُوا أَحْرِيَاءَ بِأَنْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا فِيهِ اسْتِبْقَاءٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا مُوَفَّقِينَ. وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ من فسّر لَقُضِيَ الْأَمْرُ بِمَعْنَى هَلَاكِهِمْ مِنْ هَوْلِ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ. وَلَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا ذَلِكَ. وَلَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُ مَلَكِيَّتِهِ عِنْدَهُمْ عَلَى رُؤْيَةِ صُورَةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَرَوْهُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ مَثَلًا حَتَّى يُصَاحِبَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ فَهُوَ جَوَابٌ ثَانٍ عَنْ مُقْتَرَحِهِمْ، فِيهِ ارْتِقَاءٌ فِي الْجَوَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُقْتَرَحَهُمْ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ بَعْثَةِ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا إِذَا قَارَنَهُ مَلَكٌ يَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا كَمَا قَالُوهُ وَحُكِيَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدْ صَارَ مَجِيءُ رَسُولٍ بَشَرِيٍّ إِلَيْهِمْ غَيْرَ مُجْدٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْمَلَكِ الَّذِي يُصَاحِبُهُ، عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِهَذَا اللَّازِمِ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً، فَجَاءَ هَذَا الْجَوَابُ الثَّانِي صَالِحًا لَرَدَّ الِاقْتِرَاحَيْنِ، وَلَكِنَّهُ رُوعِيَ فِي تَرْكِيبِ أَلْفَاظِهِ مَا يُنَاسب الْمَعْنى الثَّانِي لِكَلَامِهِمْ فَجِيءَ بِفعل جعلنَا المقتي تَصْيِيرَ شَيْءٍ آخَرَ أَوْ تَعْوِيضَهُ بِهِ. فَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ الَّذِي عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، أَيْ وَلَوِ اكْتَفَيْنَا عَنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ وَجَعَلْنَا الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا
لَتَعَيَّنَ أَنْ نُصَوِّرَ ذَلِكَ الْمَلَكَ بِصُورَةِ رَجُلٍ، لِأَنَّهُ لَا مَحِيدَ عَنْ تَشَكُّلِهِ بِشَكْلٍ لِتَمَكُّنِ إِحَاطَةِ أَبْصَارِهِمْ بِهِ وَتَحَيُّزِهِ فَإِذَا تَشَكَّلَ فَإِنَّمَا يَتَشَكَّلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ لِيُطِيقُوا رُؤْيَتَهُ وَخِطَابَهُ، وَحِينَئِذٍ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ كَمَا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

صفحة رقم 145
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية