الوجود تَوَفَّتْهُ رسل صفات قهرنا وهم لا يقصرون في إفناء الأوصاف ثُمَّ رُدُّوا إلى البقاء بالله قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ بر الأجسام وبحر الأرواح فإن عالم الأرواح بالنسبة إلى عالم الألوهية ظلمانية. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً بالجسم وَخُفْيَةً بالروح وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ آفة وفتنة ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ حين يتجلى لكم نور من أنوار صفاته، فبعضكم يقول: أنا الحق وبعضكم يقول: سبحاني ما أعظم شأني عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ بسدل حجاب العزة والغيرة بينه وبينكم أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ حجابا من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً بجعل الخلق فيكم فرقا. فمن قائل هم الصديقون، ومن قائل هم الزنديقون وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتل والصلب وقطع الأطراف انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ آيات المعارف للسائرين إلى الله لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ لشرائط السير ولا يفقهون في مقام دون الفناء عن كلية الوجود بالبقاء بشهود المعبود وَكَذَّبَ بهذا المقام قَوْمُكَ المنكرون وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لا أسلك طريق هذا المقام بوكالتكم لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى كما قال لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي لكل سائر وواقف مستقر من درجات القرب أو دركات البعد وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في أحوال الرجال ولا حظ لهم منها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غير تلك الطامات التي هي ريح في شبح. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً لأن همهم من لبس الخرقة والتزيي بزي الطالبين إنما هو الدنيا وقبول الحق أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أي كراهة أن يبطل استعدادها بالكلية بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بمقامات الرجال من الوصول والوصال قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أنطلب غير الله الذي هو النافع الضار. والنفع الحقيقي هو الفوز بالوصول إليه، والضر الحقيقي هو الانقطاع عنه. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا إلى مقام الاثنينية التي كنا فيها بعد أن هدانا الله إلى الوحدة كالذي أضلته شياطين الجن والإنس في أرض البشرية باتباع الهوى حَيْرانَ من إغوائهم. وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ بترك الوجود كالكرة في ميدان القدرة مستسلما لصولجان القضاء وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بمحافظة الأسرار عن الأغيار والاتقاء به عن غيره ليحشر إليه لا إلى الجنة أو النار كما قال: ألا من طلبني وجدني. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي لإظهار صفاته، فجعل المخلوقات مرآة لجماله وجلاله وإذا أراد أن يرى عبدا من عباده تلك الصفات يقول له: كن رائيا فيكون، ولن يصير رائيا بمجرد سعيه لأن قوله في حق الإنسان كن رائيا هو الحق وله ملك الإراءة وملك الرؤية، ينفخ الإراءة في صور القلب وَهُوَ الْحَكِيمُ فيما اختص الإنسان بإراءة الآيات الْخَبِيرُ بمن يخصه من بين الناس بالإراءة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٨٣]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
القراآت:
إِنِّي أَراكَ بفتح الياء: أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر ونافع لِأَبِيهِ آزَرَ بالضم على النداء: يعقوب رَأى كَوْكَباً بإمالة الهمزة: أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش. وكذلك رَآهُ ورَآكَ وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس وهبيرة من طريق الخراز بكسر الراء والهمزة. وافق ابن ذكوان في رَأى فقط وخالفهم فيما اتصلت بالكاف والهاء في سورة النجم. وافق ابن مجاهد والنقاش بالإمالة وكسر الراء في سورة «اقرأ باسم» رَأَى الْقَمَرَ ورَأَى الشَّمْسَ ونحوهما بكسر الراء وفتح الهمزة: حمزة وخلف ونصر وعباس ويحي والخراز. وروى خلف عن يحي بكسر الراء والهمزة أَتُحاجُّونِّي بتخفيف النون: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان. الباقون: بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية وَقَدْ هَدانِ بالإمالة: علي. وقرأ سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الحالين، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل. دَرَجاتٍ بالتنوين: عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب.
الوقوف:
آلِهَةً ج للابتداء بأن مع اتحاد القول. مُبِينٍ هـ الْمُوقِنِينَ هـ رَأى كَوْكَباً ج لأن جواب «لما» قوله «رأى» مع اتحاد الكلام بلا عطف رَبِّي ج لأن جواب «لما» منتظر مع فاء التعقيب فيها. الْآفِلِينَ هـ هذا رَبِّي ج لذلك الضَّالِّينَ هـ هذا أَكْبَرُ ج لذلك يشركون هـ الْمُشْرِكِينَ ج لاحتمال الواو الحال أي وقد حاجه.
قَوْمُهُ ط هَدانِ ط لانتهاء الاستفهام شَيْئاً ط عِلْماً ط تَتَذَكَّرُونَ هـ سُلْطاناً ط للاستفهام بعد تمام الاستفهام بِالْأَمْنِ ج لأن جواب «إن» منتظر محذوف التقدير: إن كنتم تعلمون فأجيبوا مع اتحاد الكلام الْمُشْرِكِينَ هـ لتناهي الاستفهام وابتداء إخبار، ولو وصل اتصل بما قبله يهتدون هـ عَلى قَوْمِهِ ط مَنْ نَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه كثيرا ما يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم صلوات الرحمن عليه لأنه يعرف بالفضل والتقدم عند جميع الطوائف، وذلك أنه سلم قلبه للرحمن ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان. ثم إن بظاهر الآية يدل على أن اسم والد ابراهيم هو آزر، ومنهم من قال: اسمه تارح. قال الزجاج: لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح، فمن الملحدة من طعن في هذا النسب لهذا السبب. والجواب أن إجماع النسابة لا عبرة به لأن ذلك ينتهي إلى قول الواحد أو الأثنين- مثل وهب وكعب- أو غيرهما.
سلمنا أن اسمه كان «تارح» لكنه من المحتمل أن يكون أحدهما لقبا والآخر اسما أصليا، أو يكون آزر صفة مخصوصة في لغتهم كالمخطىء والمخذول. وقيل: إن آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهذا عند من يجوز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب. وقيل:
إن آزر اسم صنم يجوز أن ينبز به للزومه عبادته، فإن من بالغ في محبة واحد فقد يجعل اسم المحبوب اسما للمحب قال تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: ٧١] وقال الشاعر:
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها | كأن أسماء أضحت بعض أسمائي. |
روي أنه ﷺ قال: «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»
وإن آزر كان عم إبراهيم وما كان والدا له لأن إبراهيم شافهه بالغلظة والجفاء في قوله: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وقد قال تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء: ٢٣] ولأنه ناداه بالاسم في قراءة من قرأ «آزر» بالضم. والنداء بالاسم دليل الاستخفاف ولهذا لم يقرأ بالضم في قوله وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي [الأعراف: ١٤٢] وأجيب بأن قوله وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: ٢١٩] يحتمل وجوها أخرى سوف يجيء ذكرها، وبأن
قوله «لم أزل أنتقل»
محمول على أنه لم يقع في نسبه ما كان سفاحا. والتغليظ من إبراهيم إنما كان لأجل إصرار صفحة رقم 103
أبيه على الكفر كما قال فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة: ١١٤] لا لأجل السفه والجفاء لقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: ٧٥] ثم إن إبراهيم احتج على فساد اعتقاد عبدة الأصنام بقوله منكرا على آزر وقومه أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً أي معبودين. وذلك أن الأصنام لو كان لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافيا فلما لم يكن الواحد كافيا دل ذلك على عجزها وإن كثرت، واحتج بعضهم بالآية على وجوب معرفة الله تعالى، وعلى أن وجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع لأن إبراهيم حكم عليهم بالضلال من حيث النظر والاستدلال، وأجيب بأنه لعله عرف ضلالهم بحكم شرع الأنبياء المتقدمين عليه وَكَذلِكَ أي مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام والاشتغال بغير الله نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والنكتة فيه أن التخلي عن غير الله يوجب رفع الحجاب وبقدر ذلك يكون حصول التجلي والتحلي بالله وإنما لم يقل «أريناه» بلفظ الماضي لأنه أراد الحكاية كأنه قيل: كيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ في قوة الدين والذب عنه؟ فأجيب أنا كنا نريه الملكوت وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه، أو المقصود بيان ارتفاعه في معارج الكمال وازدياده في ذلك على سبيل الدوام والاستمرار فإن مخلوقاته تعالى وإن كانت متناهية في الذات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على ذاته وصفاته سبحانه غير متناهية كما قال إمام الحرمين: معلومات الله غير متناهية، ومعلوماته في تلك المعلومات أيضا غير متناهية. فإن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، فكل تلك الأحوال التقديرية معلومة لله تعالى، وكل تلك الأحوال دالة على حكمة الله تعالى وعظمة قدرته، وإذا كان الجوهر الفرد كذلك فكيف كل الملكوت! ولهذا قيل: السفر إلى الله تعالى له نهاية، فأما السفر في الله سبحانه فإنه بلا نهاية. والملكوت هو الملك والتاء للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت ومن الرهبة. قال بعضهم: إنه سبحانه أراه الملكوت بالعين. قالوا: شق له السموات حتى رأى العرش والكرسي إلى منتهى الأجرام العلوية، وشق له الأرض إلى ما تحت الثرى فرأى ما فيها من البدائع والعجائب.
عن ابن عباس أنه قال: لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وأري ما فيها وما في الأرض من العجائب رأى عبدا على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك، فقال الله تعالى له: كف عن عبادي فهم بين خلال ثلاث: إما أن أجعل منهم ذرية طيبة، أو يتوبون فأغفر لهم، أو النار من ورائهم.
وقال الأكثرون: إن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة، لأن ملك السموات والأرض لا يرى وإنما يعرف بالعقل ولو أريد نفس السموات والأرض صار لفظ الملكوت ضائعا. وأيضا قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ جار مجرى الشرح والتفسير لتلك الإراءة فثبت أنه استدل بتغير الأجرام وإمكانها
وحدوثها على وجود الإله الواجب الحكيم. ثم قال بالآخرة وَتِلْكَ حُجَّتُنا والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه. وأيضا الإراءة بالعين تفيد العلم الضروري بالإله القادر ومثل هذه المعرفة لا توجب المدح والثواب كما للكفار في الآخرة. وأيضا اليقين عبارة عن تحصيل علم بالتأمل إذا كان مسبوقا بالشك، فالمراد نري إبراهيم ليستدل بها وليكون من الموقنين، أو ليكون من الموقنين نريه، أو فعلنا ذلك وذلك أن الإراءة قد تصير سببا للجحود لا الإيقان كما في حق فرعون وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [طه: ٥٦] وأيضا الإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال، وبتقدير الإمكان لا يكون لها دوام وبقاء، وبتقدير البقاء تكون شاغلة للرائي عن الله. أما إذا نظر بعين البصيرة في المخلوقات وعرف حدوثها وإمكانها، وعرف أن كل ممكن يحتاج إلى الصانع الحق الواجب فكأنه بهاتين المقدمتين قد طالع صفحة الملكوت بعين عقله وسمع بأذن قلبه شهادتها بالاحتياج والانقياد لله، وهذه الرؤية باقية غير زائلة ولا شاغلة عن الله بل هي شاغلة للقلب والروح بالله. وهذه الرؤية وإن كانت حاصلة لجميع الموحدين لقوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: ٥٣] إلا أن الاطلاع على تفاصيل آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذه العوالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وعوارضها ولواحقها كما هي، لا تحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا
قال ﷺ في دعائه «أرني الأشياء كما هي»
ثم إن الإنسان في أول استدلاله لا ينفك قلبه عن اختلاج شبهة فيه، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت كان لكل واحد منها نوع تأثير وقوة، ويكون جاريا مجرى تكرار الدرس الواحد وتزداد النفس بكل منها نورا وإشراقا وانبساطا إلى أن يحصل الجزم ويكمل الإيقان وتطلع شمس العلم والعرفان إلى حيث أتيح لها من الارتقاء والتصاعد وذلك قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قال في الكشاف: إنه معطوف على قوله وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وقوله وَكَذلِكَ نُرِي جملة وقعت اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه.
يقال: جن عليه الليل وأجنه الليل. والتركيب يدور على الستر ومنه الجنة والجن والمجنون والجنين. وقيل: جن عليه الليل أي أظلم عليه ولأجل هذا التضمين عدي ب «على». وأما «أجنة» فمعناه ستره من غير تضمين معنى أظلم. واعلم أن كثيرا من المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم عليه السلام به وما أظهرت حملها للناس، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام فوضع أصبعه في فيه فمصه فخرج منه رزقه، وكان يتعهده جبريل عليه السلام وكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه. وبقي في الغار حتى كبر وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت:
أنا. فقال: من ربك؟ فقالت: أبوك. فقال لأبيه: من ربك؟ فقال: ملك البلد. فعرف إبراهيم جهلهما بربهما. فنظر من باب ذلك الغار ليرى ما يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي كان أصغر النجوم في السماء فقال: هذا ربي إلى آخر القصة. ثم منهم من قال: كان هذا بعد البلوغ وأوان التكليف، ومنهم من قال: كان هذا قبل البلوغ.
وأكثر المحققين على فساد هذا القول لوجوه منها: أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر لا يجوز على الأنبياء بالاتفاق. ومنها أن إبراهيم كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة لأن الله تعالى أخبر عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد بالرفق مرارا بقوله يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
[مريم: ٤٢] الآيات. وفي هذا الموضع دعا أباه إلى التوحيد بالكلام الخشن، والدعوة بالرفق مقدمة على الدعوة بالخشونة والغلظة. ومنها أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه ملكوت السموات والأرض بدليل فاء التعقيب في قوله فَلَمَّا جَنَّ ومنها أنه تعالى وصفه بقوله إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: ٨٤] ومدحه بقوله وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: ٥] أي من أول زمان الفطرة. ومنها قوله عقيب هذه القصة وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ولم يقل «على نفسه». ومنها أنه قال بعد القصة يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم. ومنها قوله وَحاجَّهُ قَوْمُهُ وفيه دليل على أنه إنما اشتغل بالنظر في الكواكب بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فقال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ردا عليهم وتنبيها على فساد قولهم، ويؤكده قوله كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ لأنه يدل على أنهم كانوا قد خوفوه بالأصنام كما في قصة هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ
[هود: ٥٤] ومنها أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار، وكان ينبغي أن يستدل أوّلا بغروب الشمس على عدم إلهيتها ثم يبطل إلهية القمر وسائر الكواكب بالطريق الأولى، ولما لم يكن كذلك علمنا أن المقصود إلزام القوم وإفحامهم. والابتداء بأفول الكوكب لأنه اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم، ثم امتدت المناظرة الى أن طلعت الشمس. ثم هاهنا احتمالان: الأول أن يقال إن هذا كلام إبراهيم بعد البلوغ ولكنه ذكره بلفظهم حتى يرجع إليه فيبطله، مثاله: أن يقول في مناظرة من يزعم قدم الجسم: الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نشاهده ونراه متركبا متغيرا. فقولك «الجسم قديم» إعادة لكلام الخصم لإلزام الحجة عليه، أو المراد هذا ربي في زعمكم واعتقادكم كقول الموحد للجسم: الإله جسم محدود أي في زعمه واعتقاده. قال تعالى وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ [القصص: ٦٢] وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩] أي عند نفسك.
وكان ﷺ يقول: يا إله الآلهة في زعمهم.
أو المراد منه
لاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام لدلالة الكلام، أو أضمر القول أي يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا [البقرة: ١٢٧] أي يقولان ربنا وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ [الزمر: ٣] أي يقولون: ما نعبدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا [الزمر: ٣] أو ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء، أو أنه عليه السلام قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة لم يقبلوا قوله فمال إلى الاستدراج وذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم مع أن إبراهيم كان مطمئنا بالإيمان فكان بمنزلة المكره على كلمة الكفر حيث لم يجد إلى الدعوة المأمور بها طريقا سوى ذلك. وإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة تعود إلى شخص واحد لقوله تعالى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: ١٠٦] فلأن يجوز ذكرها لتخليص جم غفير من الكفر والعقاب الأبدي أولى. قالت العلماء: إن المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر. ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم. وإن من كان في الصلاة فرأى طفلا أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذهما ومثل هذه الواقعة قوله فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٨] وذلك أنهم كانوا يستدلون بعلم النجوم على الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع إنه كان بريئا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام. قال المتكلمون: إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعي الإلهية، لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يروج التلبيس ولكنه لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوّة كاذبا لأن التلبيس يروج حينئذ فكذا هاهنا قوله هذا رَبِّي لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي ذلك استدراج لهم لقبول الدليل فكان جائزا. الاحتمال الثاني: أنه ذكر ذلك قبل البلوغ فلعله خطر بباله لشدة ذكائه قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا الفكر فقال عند أفول الشمس إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ واعلم أن القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل يربيه محتملة في الجملة، لأن الإرهاص- وهو تقديم المعجز على وقت الدعوى- جائز عندنا. ولم يجوّزه القاضي إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله تعالى فتكون تلك الخوارق معجزة لذلك الرسول. قال في الكشاف: فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب. وأنا أقول: الاحتجاج بالبزوغ في
صفحة رقم 107
الآية لا يصح لأنه تعالى بين أنه نظر إلى الكوكب وقت كونه طالعا لا حين بزوغه ليلزم مشاهدة التغير والانتقال، وكذا إلى القمر وإلى الشمس دليله أنه لم يقل رأى القمر يبزغ بل بازغا. ولو سلم فإن أحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص والأوساط والعوام، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان فكل ممكن محتاج والمحتاج لا يجوز أن يكون منقطع الحاجات فلا بد من الانتهاء إلى الواجب بالذات. وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة، فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم. وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب، فكل كوكب يغرب فإنه يزول نوره ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك فإنه لا يصلح للإلهية، أقصى ما في الباب أن يقال: إن لها تأثيرات في أحوال العالم السفلى، ولكن تلك التأثيرات لما لم تكن لها بذاتها لزم استناد الكل إلى الواجب سبحانه وهو الإله الأعظم القادر على خلق السموات والنجوم النيرات، فيجب ان يكون قادرا على خلق البشر وعلى تدبير السفليات بالطريق الأولى فلا يلزم من وضع الواسطة رفع المبدإ بحال، ويعلم من قوله لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان غائبا عنا فكان آفلا، وإنه لا يصح عليه المجيء والذهاب والنزول والصعود ولا الصفات المحدثة. وفيه أن معارف الأنبياء استدلالية لا ضرورية وأنه لا سبيل إلى معرفته تعالى إلا النظر والاستدلال. أما قوله فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً يقال بزغ القمر أو الشمس إذا
ابتدأ بالطلوع. وأصل البزغ الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا قاله الأزهري. وفي قوله لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إشارة إلى أن الهداية ليست إلا من الله تعالى. والمعتزلة حملوها على التمكين وإزاحة الأعذار ونصب الدلائل، وزيف بأن كل ذلك كان حاصلا فالهداية التي كان يطلبها بعد ذلك لا بد أن تكون زائدة عليها فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي أراد هذا الطالع أو هذا المرئي، أو ذكر بتأويل الضياء والنور، أو باعتبار الخبر وهو رب مع رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند اللفظ الدال على الربوبية كما لم يقولوا في صفة الله علامة وإن كانت بتاء مبالغة هذا أَكْبَرُ أي أكبر الكواكب جرما ونورا، وقد برهن في الهيئة على أنها مائة وستة وستون مثلا لكرة الأرض كلها. وإنما لم يقتصر على ذكر الشمس أوّلا مع أنه يلزم منه عدم ربوبية ما دونها من القمر والكواكب، لأنه أراد الأخذ من الأدون إلى الأعلى لمزيد التقرير والتصوير يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ قيل: لا يلزم من نفي ربوبية النجوم نفي الشريك مطلقا. والجواب أن القوم لم ينازعوه إلا في الصور المذكورة، فلما أثبت أنها ليست أربابا ثبت بالاتفاق نفي الشركاء على الإطلاق. ومعنى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ وجهت عبادتي لأجله فإن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فإنه يوجه وجهه إليه، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة. وأصل الفطر الشق يقال: تفطر الشجر بالورق والورد إذا
أظهرهما، والحنيف المائل عن كل معبود سوى الله تعالى. قال أبو العالية: الذي يستقبل البيت في صلاته.
ثم إن قومه حاجوه متمسكين بالتقليد تارة كقولهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: ٢٢] وكقولهم للرسول ﷺ «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: ٥] ومخوّفين إياه بالأصنام أخرى فأجابهم بقوله أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ أي لما ثبت بالدليل الموجب للهداية صحة قولي فكيف ألتفت إلى حجتكم الواهية؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر إِلَّا أَنْ يَشاءَ إلا وقت مشيئة رَبِّي شيئا يخاف. فحذف المضاف أي إلا إن أذنبت فيشاء إنزال العقوبة بي، أو إلا أن يريد ابتلائي بمحنة، أو إلا أن يمكن بعض تلك الأصنام من ضري مثل أن يرجمني بكوكب، أو كان قد أودع فيها طلسم فيصيبني مكروه من جهته بإذن الله تعالى، وفائدة الاستثناء أنه لو حدث به شيء من المكاره في الأيام المستقبلة لم يحمله الحمقى والجهلة على قدرة الأصنام وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فلا يفعل إلا الخير والصلاح أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أن نفي الأنداد عن رب الأرباب لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب، وأن الصحيح لا يساوي الفاسد، والعاجز لا يساوي القادر؟ ثم أكد ذلك بقوله وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً إذ لا سلطان فينزل.
وقيل: إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للصلاة والدعاء، ولكنه لم يؤمر به. والمعنى ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم إلا من في موضع الخوف؟ ثم قال فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يعني فريقي المشركين والموحدين. ولم يقل «فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم» اجتنابا عن تزكية نفسه. والغرض إني أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله الَّذِينَ آمَنُوا الآية، والمعنى أن الذي حصل لهم الأمن المطلق هم المستجمعون لكمال القوة النظرية وسنامه الإيمان، ولكمال القوة العلمية وهو وضع الأشياء في موضعها وإليه الإشارة بقوله وَلَمْ يَلْبِسُوا أي لم يخلطوا إيمانهم بِظُلْمٍ. قالت الأشاعرة: شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم، ولو كان ترك الظلم داخلا في الإيمان لم يكن لهذا التقييد فائدة فثبت أن الفاسق مؤمن. وقالت المعتزلة: شرط في حصول الأمن حصول الأمرين: الإيمان وعدم الظلم. فوجب أن لا يحصل إلا من للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له أبدا. وأجيب بأن الظلم هاهنا الشرك لقوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] واجتماعه مع الإقرار بالصانع ممكن وحينئذ يصح إطلاق اللبس بمعنى الخلط ويكون المراد: الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا له شريكا في
المعبودية، ويؤيده أن القصة وردت في نفي الأضداد والأنداد. وأيضا لا يلزم من عدم الأمن المطلق حصول القطع بالعذاب الأبدي. واعلم أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للذم والإنكار كمحاجة قوم إبراهيم، وتارة تكون موجبة للمدح وذلك إذا كان الغرض تقريرا لدين الحق والمذهب الصدق كمحاجة إبراهيم من قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى هاهنا وإليها الإشارة بقوله وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها ووفقناه لها نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ من قرأ بالإضافة فظاهر لأنه رفع يتعدى إلى واحد، ومن قرأ بالتنوين فيكون كقوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: ٢٥٣] وقد تقدم في البقرة، واختلف في تلك الدرجات فقيل: أعماله في الآخرة، وقيل: تلك الحجج درجات رفيعة لأنها تقتضي ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعلى العالم الروحاني، وقيل: نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة، وفي الآخرة بالجنة والثواب. أو نرفع درجات من نشاء بالحكمة والعلم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فيرفع الدرجات بمقتضى الحكمة والعلم لا لموجب التشهي والشهوة.
التأويل:
رأى إبراهيم ملكوت الأشياء أي بواطنها ليكون من الموقنين عند كشفها كما كان موقنا عند كشف الضلال المودع في آزر وقومه فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ظلمة ليل البشرية أمطر سحاب العناية غيث الهداية على أرض قلبه فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه، فرأى نور الرشد في صورة الكوكب طالعا من أفق سماء روحانيته فقال: هذا رَبِّي أراد به سره المكوكب لا الكوكب وإن لم يشعر به نفسه كما قيل:
هوى فؤادي ولم يعلم به بدني | فالجسم في غربة والروح في وطن |
فقال هذا رَبِّي فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب قال سره لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فلما اتسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ عند رجوعه إلى أوصافه ازداد الشوق قال إن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي برفع حجب الأوصاف ويبقني على وجود الخليقة لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عن الحق كآزر وقومه. فلما انخرقت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية، وأشرقت أرض القلب بنور ربها قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ شمس الهداية تعززا وتعظما ليغرب إبراهيم عليه السلام عن شرك الأنانية.
إن شمس النهار تغرب بالليل | وشمس القلوب ليست تغيب. |