آيات من القرآن الكريم

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ

لقول من قال إن هذة الآية منسوخة بآية السيف لأنها خارجة مخرج التهديد فهي على حد قوله تعالى (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) الآية ١٣ من سورة المدثر في ج ١، وان ما من شأنها ذلك لا يدخلها النسخ لأنها من قبيل الإخبار والإخبار لا يدخلها النسخ ولهذا فهي محكمة، قال تعالى يا سيد الرسل
«قُلْ» لهؤلاء المشركين الذين يدعونك لعبادة آلهتهم «أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا» ونترك النافع الضار «وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا» فنرجع إلى الشرك السافل لأن العقب مؤخر الرجل يقال رجع على عقبه إذا انثنى راجعا، أي أنرجع إلى الضلال «بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ» للإسلام أيكون هذا منا ونحن عقلاء فنصير «كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ» خبطته «الشَّياطِينُ» المبثوثة «فِي الْأَرْضِ» وذهبت به في هوئها، والهوى النزول من الأعلى إلى الأسفل على غير انتظام فصار «حَيْرانَ» تائها لا يدري ما يعمل وهذا الممثل به «لَهُ أَصْحابٌ» رفقاء «يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى» لينقذوه مما هو فيه فيقولون له ائتنا» لتنجو وهو لا يأتيهم لاستيلاء الحيرة عليه، هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو لعبادة الأصنام ولمن يدعو لعبادة الملك العلام يقول فيه مثل هذين كمثل رجل في رفقة ضل عن الطريق المستقيم فطفق أصحابه ينادونه هلم إلينا لا تضل فتهلك، وشرع الشيطان يدعوه إليه ليوغله في الحيرة فاحتار إلى أين يذهب فإن أجاب الشيطان هلك وإن أجاب أصحابه نجى وفيها دلالة على وجود الغيلان المتعارفة على ألسنة العامة قديما وحديثا المعنية بقوله ﷺ إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان راجع الآية ٢٩ من سورة الأحقاف الآتية وما ترشدك إليها لتثق بوجود الجن وأنهم كالإنس، قيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابنه عبد الرحمن إذ كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان بعد أن صار كامل الإيمان وأن أباه يدعوه للإسلام ليكون في المسلمين إمام وإن توجه الخطاب إلى سيد المخاطبين كان تعظيما لشأن ابي بكر فعلى فرض صحته لا يمنع أن تكون الآية عامة مطلقة لعموم لفظها لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب إلا أن هذا القيل لا يوثق به إذ لم ينزل في عبد الرحمن قرآن كما سنراه في الآية ١٧ من سورة الأحقاف الآتية ومما يؤيد عمومها

صفحة رقم 360

ضرب المثل فيها إذ لا يتصور الرّد في الشرك منه رضي الله عنه كما لا يتصور لحضرة المخاطب في هذه الآية ان يدعو أحدا أو شيئا من دون الله وعليه يكون المعنى أيليق بنا معشر المؤمنين ذلك على طريق الاستفهام الإنكاري أي كلا لا يليق أبدا فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء التائهين الحائرين «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» الموصل إلى المطلوب الذي ما وراءه ضلال البته فاتبعوه أيها الناس تهتدوا فما بعده إلا الضلال فهلموا إليه لأنا الزمنا «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ» وننقاد «لِرَبِّ الْعالَمِينَ ٧١» لا لغيره ونخلص له العبادة وحده ونرفض ما سواه، قال تعالى «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليكم أيها المؤمنون «وَاتَّقُوهُ» أن يراكم ذلك الرب العظيم حيث نهاكم فهو الذي بدأ خلقكم «وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٧٢» يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وهذا الإله الجليل الذي أنشأكم من لا شيء «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» خلقا متلبسا «بِالْحَقِّ» لا باطلا ولا عبثا «وَيَوْمَ يَقُولُ» أي اذكر يا محمد لقومك عظمته وقدرته وأخبرهم بأنه إذا أراد إيجاد شيء أو إعدامه يقول له «كُنْ فَيَكُونُ» حالا بين الكاف والنون «قَوْلُهُ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه ولا تخلّف له «وَلَهُ الْمُلْكُ» بما فيه فلا ترى في ذلك اليوم الذي تجتمع فيه الخلائق من يدعيه وكل من كان له ملك في الدنيا من الجبابرة والملوك يتنصّل عنه إذ يكون الكل لله «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ويسمى بوفا وتسميه العامة (طواطه)
مطلب في الصور وأن آزر هو أبو ابراهيم لا غير وما وقع له مع أبيه وقومه وملكهم:
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء اعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال ما الصور؟ قال قرن ينفخ فيه أخرجه أبو داود والترمذي وهو بلغة أهل اليمن ومن هنا اتخذه الملوك وجعلوا النداء به علامة على الجمع والطلب وغيره، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ كيف أنتم وقد النقم صاحب القرن القرن وحنا جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله فقال كيف نفعل يا رسول الله وكيف نقول قال قولوا حسبنا

صفحة رقم 361

الله ونعم الوكيل على الله توكلنا، وهذا أحسن من تفسيره بأنه جمع صورة والنفخ فيه إحياؤها لعدم ما يؤيده ولأن جمع الصورة صور بفتح الواو ولم يقرأ بهذه القراءة إلا قتادة راجع الآية ٦٨ من سورة الزمر الآتية تجد ما يتعلق بهذا مفصلا، واعلموا أيها الناس أن هذا الإله الكبير الفعال لذلك كله وكل شيء هو «عالِمُ الْغَيْبِ» الأسرار الخفية «وَالشَّهادَةِ» الأمور العلنية لا يخفى عليه شيء من أعمال وأقوال خلقه «وَهُوَ الْحَكِيمُ» في تدبير خلقه «الْخَبِيرُ ١٣» بما يصلحهم وما يفعلونه ويكتمونه لا يخفى عليه شيء أبدا «وَ» اذكر لقومك يا سيد الرسل «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ» قيل هذا لقبه واسمه تارخ مثل يعقوب وإسرائيل، وإنما سماه الله بلقبه دون اسمه لأنه مشهور به أكثر من الاسم وهذا أي كون آزر أباه لا عمه أصح ما قيل في هذا من أقوال كثيرة بدليل ما أخرج البخاري في افراده من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر فترة وغبرة، فلم يبق للقول بأنه عمه قيمة ما بعد صراحة القرآن والحديث وقد ثبت أن اسمه الشائع هو آزر كما جاء نصا لا تارخ كما يقال، ثم بين ما قاله لأبيه يقوله يا أبت «أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً» من دون الله الواحد «إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ» السائرين على سيرتك «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ٧٤» ظاهر لا يخفى على أحد ممن له مسكة من عقل أو ذرة من إدراك فقال له إذا نحن في ضلال قال لأنكم تعبدون حجرا وأخشابا لا تضر ولا تنفع، وإنما ذكر الله تعالى حبيبه في هذه القصة توبيخا لقومه الذين يعبدون الأوثان وتعريضا للاحتجاج عليهم بها لأنهم كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام المعظم لدى كل أمة «وَكَذلِكَ» مثل ما أريناه قبح الشرك وعرفناه فيه «نُرِي إِبْراهِيمَ» جاء بالظاهر بدل المضمر إذ صرح باسمه تعظيما له ولهذا لم يقل «مَلَكُوتَ» مبالغة ملك كالرحموت مبالغة الرحمة والجبروت والرهبوت والرغبوت مبالغة الجبر والرهبة والرغبة زيد في بعضها الواو والتاء وفي بعضها الواو فقط وفي بعضها التاء للمبالغة كما زيد في طالوت وجالوت وهاروت وماروت وأصلها الطول والجول وهار ومار أي تطلعه على ما في «السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من عجائب ولطائف وبدائع وذلك لما أراه الله تعالى أن أباه وقومه

صفحة رقم 362

على غير الحق انتقدهم وخالفهم فجزاه الله تعالى بأن فرج له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى إلى العرش والكرسي وفرج له الأرضين فنظر فيهن حتى أسفلهن ورأى ما فيهن من عجائب وبدائع أيضا ليطمئن بعلم ما فيهن «وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ٧٥» بخالقهن إيقانا كاملا زيادة على إيقانه على حد قوله تعالى:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية ١٣٥ من النساء في ج ٣، واعلم أن الإيقان عبارة عن علم يحصل بالتأمل بعد زوال الشبهة لأن الإنسان أول أمره لا ينفك عن شبهة وشك فإذا كثرت الدلائل عليه وتوافقت البراهين وتطابقت الحجج صار سببا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب فيعلمه حسا كما علمه خبرا ويلمه فعلا كما تكلم به قولا ويراه عيانا كما سمعه بيانا، قال البغوي وروي عن سلمان ورفعه إلى علي عليه السلام قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر رجلا آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال تبارك وتعالى يا إبراهيم أنت رجل مجاب الدعوة فلا تدعو على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إليّ فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته وفي رواية وإن تولى فإن جهنم من ورائه وظاهر القرآن أن هذه الرؤية بصرية لا قلبية إذ لا يوجد ما يصرفها عن الظاهر الحقيقي ولا يجنح إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة تأمل قوله تعالى «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» أظلم وغطّى كل شيء بسواده لأن الجنّ في الأصل الستر عن الحاسة ولمّا أمعن عليه السلام النظر في السماء «رَأى كَوْكَباً» هو الزهراء لأنها من القدر الأول من حيث قوة نورها كالسماك الأعزل والدبرين راجع الآية ٣٦ من سورة الحجر المارة تعلم هذا «قالَ هذا رَبِّي» يخاطب أهله وقومه ويستفهم منهم على طريق الإنكار والاستهزاء لأنهم كانوا يعبدون الكواكب وقد صنعوا لكل كوكب صنما بما يناسبه ووضعوها في بيت العبادة ليسجدوا لها ويطلبوا حاجتهم منها وكأنهم قالوا له إنه أحد الأرباب «فَلَمَّا أَفَلَ» غاب وتوارى «قالَ» لهم «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ٧٦» لأن حق الرب أن يكون باقيا أبدا حاضرا لإغاثة مربوبيه ثابتا لا يتغير لأن من يتبدل أو يتغير من حال

صفحة رقم 363

إلى حال أو يغيب كهذا لا يستحق العبادة فكيف تتخذونه ربا وهو يطرأ عليه ما يطرأ على المخلوق فلو كان ربا لصان نفسه من ذلك قالوا لنا رب أكبر منه «فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً» طالعا خاطبهم أيضا «قالَ هذا رَبِّي» الذي تزعمون أنه أكبر من ذلك قالوا له نعم «فَلَمَّا أَفَلَ قالَ» لهم هذا وذاك سواء وكل منهما لا يصلح للربوبية وإني «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي» إلى الطريق القويم المؤدي إلى معرفة حقيقته وهذا على حد قوله تعالى (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) الآية ٤٣ من سورة يس المارة في ج ١ أي لئن لم يهدكم ربكم وهو أبلغ في قبول الدعوة وهذا القول منه على سبيل إرخاء العنان مجاراة لأبيه وقومه المولعين بعبادة الكواكب لأن المستدل على فساد قول يحكيه أولا ثم يكر عليه بالابطال ثم نبه قومه بما خص به نفسه وعناهم بقوله جوابا لقسمه «لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ٧٧» إذا اتخذت ربا سواه لأن هذين الكوكبين لا تصلح للألوهية لأنهما مسيرتين مسخرتين فإذا اتخذتهما إلها فأنا ضال إذا يريد بهذا أباه وقومه، قالوا له إن لنا ربا أكبر وأكبر من هذين «فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ» من الزهراء والقمر حقيقة «فَلَمَّا أَفَلَتْ» كالأولين وتوارت عن الأنظار ومحي نورها ولم يبق له أثر بعد غيابها «قالَ يا قَوْمِ» هذا أيضا ليس بإله لأنه اعتراه ما اعترى الأولين لذلك أقول لكم «إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ٧٨» في الإله الواحد الذي لا يتغير ولا يطرأ عليه ما يطرأ على خلقه مما هو قابل للتحول والانتقال فيتأثر بعوامل طبيعية وغير طبيعية وقد نبههم على خطأهم هذا فيما يعتقدون ألوهيته تدريجا وأفهمهم بأنها غير صالحة للعبادة وأرشدهم إلى النظر والاستدلال واحتج عليهم بالأقوال دون البزوغ مع أن كلا منهما انتقال وتبدل من حال لآخر لأنه أبلغ وأظهر لكونه انتقال مع خفاء واحتجاب، والبزوغ انتقال مع وضوح وظهور، وقد أراد عليه السلام إبطال قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لوصرح لهم بالدعوة إلى الله رأسا لم يقبلوا ولم يلتفتوا إليه فمال إلى طريق استدراجهم لاستماع هذه الحجج لأنه ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان

صفحة رقم 364

بالله وحده وموقن بأن هذه الكواكب مخلوقة لله
لا تعبد ولا يليق بها أن تعبد وقصده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطال عبادتها ولما لم يقبلوا أعرض عنهم وقال معلنا براءته مما هم عليه من الشرك وعبادة الأوثان والكواكب مبينا الأسباب الداعية إلى عدم أهليتها للعبادة ومصرحا بعقيدته بقوله «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» شقهما بعضهما عن بعض وابتدعهما الذي دل عقلاء خلقه بتغيير الكواكب في السماء والأنهار في الأرض على أنه منشئهما وقادر على طمس الكواكب في السماء وتغوير الأنهار في الأرض «حَنِيفاً» مائلا عن كل ما تعبدونه وعن كل دين لا يكون مرماه عبادة الله الواحد الأحد «وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٧٩» به غيره البتة، وما قيل إن مخاطبة إبراهيم بلفظ الضلال وغيره كانت بقصد إيذاء أبيه لا صحة له لأن مثله لا يجوز أن يقع منه مثل ذلك كيف وقد وصفه الله بالحلم والحليم لا يستفزه الغضب ولا يليق أن يصدر منه بل لا يجوز أن ينسب صدور الجفاء منه على أبيه بل لا يتصور إيقاعه على الغير منه، لهذا فإن هذا القيل مردود على أن ما صدر من إبراهيم عليه السلام على أبيه لا يعد من الإيذاء ولو فرض أنه نوع منه فلا يكون محرما لأنه لله وفي طريق الله ويقصد إرشاده إلى الله وما قصد به إلا نفعه وخيره ورشده لا إضلاله واحترامه لا إهانته، ولا يرد عليه أن موسى عليه السلام كلم فرعون باللين والرقة كما مر في الآية ٤٤ فما بعدها من سورة طه المارة في ج ١ مراعاة لحق التربية وإبراهيم خاطب أباه بالخشونة والغلظة ولم يراع حق الأبوة لما ذكرنا ولم يذكر صاحب هذا القيل مخاطبته لأبيه في الآية ٤٢ من سورة مريم فما بعدها المارة في ج ١ التي هي على غاية من اللين والأدب.
مطلب القساوة المنطقية مطلوبة، وقصة إبراهيم، وجواز حذف حرف الاستفهام:
هذا على أن الإنسان قد يقسو أحيانا على شخص لمنفعته وأي منفعة أكبر من الهداية إلى الله، هذا والأمور بمقاصدها والأعمال بالنيات قال أبو تمام:

صفحة رقم 365

وقال المعري في هذا المعنى:

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من رحم
اضرب وليدك وادلله على رشد ولا تقل هو طفل غير محتلم
فربّ شق برأس جرّ منفعة وقس على شق رأس السهم والقلم
وقال ابن خفاجه الأندلسي:
نبه وليدك من صباه بزجره فلربما أغضى هناك ذكاؤه
وانهره حتى تستهل دموعه في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه
فالسيف لا يذكو لكفك ناره حتى يسيل بصفحتيه دماؤه
هذا وكون الرفق أكثر تأثيرا على الإطلاق غير مسلم لأن المقامات متفاوته يدلك على هذا إرشاده تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم في دعاء قومه فمرة يقول له (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وتارة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) وقال لقمان عليه السلام ضرب الوالد ولده كالسماد للزرع، وقد أجاز الشارع ضرب الولد للتعليم ولكفه عن المساويء، حتى ان اليتيم الذي أرضى الله به يجوز ضربه لهذه الغابة، لأن المنهي عنه الضرب عبثا أو عدوانا، قال تعالى «وَحاجَّهُ قَوْمُهُ» خاصموء في توحيد الله لما أظهر عيوب آلهتهم وصرح لهم بعقيدته وصدع بما أمره الله به «قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ» الحق الذي يجب أن يعبد «وَقَدْ هَدانِ» إلى سبيله المستقيم وتخوفوني بآلهتكم العاجزة المحتاجة لكم «وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ» بإلهي القادر القوي المستغني عن كل شيء، وإن أوثانكم مهما بلغ أمرها لا وزن لها ولا قيمة عندي، لأنها أحجار وأخشاب من صنع أيديكم لا تقدر أن تدفع ضرا عن نفسها ولا تضر من يعتدي عليها ولا تنفع من يلتجىء إليها، وإني معتمد على ربّي لا أخاف من كل شيء تنصورونه أو تظنون أنه يوقع في مكروها أبدا «إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله رَبِّي شَيْئاً» من إضراري وإذلالي فهو وحده القادر على ذلك، وهو الذي يخاف ويخشى منه، وهذا الاستثناء منقطع لا علاقة له بما قبله، وإلا فيه بمعنى لكن «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» أي وسع علمه كل شيء لأن علما تمييز محول عن الفاعل، كقولك تفقأ زيد شحما أي تفقأ شحم زيد، فلا يخرج شيء عن علم الله، ولا يصاب أحد بشيء إلا بعلمه، فهو المحيط بكل شيء «أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ٨٠»

صفحة رقم 366
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية