تحكيها. ولا يمنع هذا أن يكون ما رواه السدي صحيحا في ذاته وأن المشركين كانوا أحيانا يقفون موقف الناصح الواعظ ويدعون النبي ﷺ والمؤمنين إلى العودة إلى دين الآباء وتقاليدهم التي انحرفوا عنها بزعمهم فاحتوت الآيات إشارة إلى ذلك وهي تعقب على الآيات السابقة وترد عليهم وتسفه عقولهم وتنذر بمنطقهم وتقرر ما هم فيه من ضلال يمنعهم سماع دعوة الحق والهدى. وتعلن وحدة الربوبية لله تعالى وشمول علمه وقدرته وكونه وحده المستوجب للخضوع والعبادة والدعاء. ولقد حكت ذلك عنهم آية العنكبوت هذه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢).
والصورة طريفة من دون ريب في مجال الحجاج والنقاش حيث كان زعماء الكفار ونبهاؤهم يظهرون بمظهر القوة فيصرون على أنهم على الدين الحق ويدعون الذين يدعونهم إلى هدى الله إليهم.
ويأتي بعد هذه الآيات فصل قصصي عن الأنبياء مما جرى عليه النظم القرآني واقتضته حكمة التنزيل، بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآيات جاءت خاتمة للفصول السابقة التي فيها حجاج ونقاش لمواقف الكفار وتعجيزاتهم، والرد عليهم وإنذارهم، وتثبيت النبي ﷺ والمؤمنين والتي بدأت منذ أوائل السورة. وفيها من الصور المتلاحقة ما يدل على ما كان بين جبهتي التوحيد والشرك من احتكاك وما واجهه النبي ﷺ والمؤمنون من عناد ومكابرة وما لقيه من عناء، مضافة إلى الصور المماثلة الكثيرة التي تضمنتها السور السابقة ثم التي تضمنتها فصول السورة الآتية وكثير من السور الآتية أيضا. ولقد شرحنا موضوع النفخ بالصور في سور سبق تفسيرها فلا نرى ضرورة للإعادة في مناسبة ورود ذلك في الآيات.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٩٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
(١) ملكوت السموات والأرض: سعة ملك الله في السموات والأرض أو عظم ملك الله.
(٢) جن عليه الليل: أظلم.
(٣) الآفلين: من الأفول وهو الزوال والاحتجاب والتغير والانطفاء والتنقل من حال إلى حال.
(٤) بازغا: مشرقا أو ساطعا.
(٥) ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: ولم يشوبوا أو يخلطوا إيمانهم بإثم وظلم وجرم أو شرك.
(٦) فإن يكفر بها هؤلاء: الجملة تعني كفار العرب الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي ﷺ والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين «١» أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي ﷺ وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي ﷺ وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي ﷺ والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لا حظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية سورة الحج هذه وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [٧٨] وآيات سورة البقرة هذه وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)
. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة
والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي ﷺ والمؤمنين بالثبات على موقفهم والاقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال إن الآية [٨٢] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه «١». وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا لقد روى المفسرون «٢» في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أيّنا يظلم نفسه فقال لهم النبي ﷺ ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح «إن الشرك لظلم عظيم» وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي ﷺ بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني
(٢) المصدر نفسه.
قالوا إن النبي ﷺ هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده ومنها آية سورة الحج هذه حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ولا سيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم البنوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا «١» في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول «٢». والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك- إن لم نقل إننا نرجح- أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم (إلياس) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية.
(٢) الإصحاح ١٢.