
الإسلام لعباً ولهواً، حيث سخروا به واستهزؤا. وقيل: جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً، غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله. ومعنى «ذرهم» اعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم وَذَكِّرْ بِهِ أى بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسها. وأصل الإبسال المنع، لأن المسلم إليه يمنع المسلم، قال:
وإبسالى بنىَّ بغير جرم | بعوناه ولا بدم مراق «١» |
منقبض الوجه وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها وإن تفد كل فداء، والعدل الفدية «٢» لأن الفادي يعدل المفدى بمثله. وكلّ عدل: نصب على المصدر. وفاعل يُؤْخَذْ قوله مِنْها لا ضمير العدل لأنّ العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله تعالى وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فبمعنى المفدىّ به، فصحّ إسناده إليه أُولئِكَ إشارة إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً. قيل: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان «٣».
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧١]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١)
(٢). قال محمود: «معناه وإن تفد كل فداء والعدل الفدية... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من عيون إعرابه ونكت إغرابه التي طالما ذهل عنها غيره، وهو من جنس تدقيقه في منع عود الضمير من قوله فَتَنْفُخُ فِيها إلى الهيئة من قوله كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ مع أنه السابق إلى الذهن، وإنما حمله على القول بأن العدل هاهنا مصدر أن الفعل تعدى إليه بغير واسطة، ولو كان المراد المفدى به لكان مفعولا به، فلم يتعد إليه الفعل إلا بالباء، وكان وجه الكلام: وإن تعدل بكل عدل، فلما عدل عنه علم أنه مصدر، والله أعلم.
(٣). قال محمود: «نزلت في أبى بكر رضى الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان... الخ» قال أحمد: ومن أنكر الجن واستيلاءها على بعض الأناسى بقدرة الله تعالى حتى يحدث من ذلك الخبطة والصرع ونحوهما، فهو ممن استهوته الشياطين في مهامه الضلال الفلسفي، حيران له أصحاب من الموحدين يدعونه إلى الهدى الشرعي ائتنا، وهو راكب في ضلالة التعاسيف لا يلوى عليهم ولا يلتفت إليهم، فمرة يقول: إن الوارد في الشرع من ذلك تخييل، كما تقدم في سورة البقرة. ومرة يعده من زعمات العرب وزخارفها. وقد أسلفنا ذلك في البقرة وآل عمران قولا شافيا بليغا، فجدد به عهداً، والله الموفق.

قُلْ أَنَدْعُوا أنعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ الضارّ النافع ما لا يقدر على نفعنا ولا مضرتنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان فِي الْأَرْضِ المهمه «١» حَيْرانَ تائهاً ضالا عن الجادة لا يدرى كيف يصنع لَهُ أى لهذا المستهوى أَصْحابٌ رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى إلى أن يهدوه الطريق المستوى. أو سمى الطريق المستقيم بالهدى، يقولون له ائْتِنا وقد اعتسف المهمه تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم. وهذا مبنى على ما تزعمه العرب وتعتقده: أن الجنّ تستهوى الإنسان، والغيلان تستولى عليه، كقوله الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ فشبه الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ وهو الإسلام هُوَ الْهُدى وحده وما وراءه، ضلال وغىّ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً. فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ. فإن قلت: فما محل الكاف في قوله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ؟ قلت النصب على الحال من الضمير في نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أى: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت: ما معنى اسْتَهْوَتْهُ؟ قلت: هو استفعال، من هوى في الأرض إذا ذهب فيها، كأن معناه: طلبت هويه وحرصت عليه. فإن قلت: ما محل أُمِرْنا قلت: النصب عطفاً على محل قوله إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى على أنهما مقولان، كأنه قيل: قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم. فإن قلت: ما معنى اللام في لِنُسْلِمَ؟ قلت:
هي تعليل للأمر، بمعنى: أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. فإن قلت: فإذا كان هذا وارداً في شأن أبى بكر الصديق رضى الله عنه «٢» فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قل أندعوا؟
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت إذا كان هذا وارداً في أبى بكر فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ... الخ؟ قال أحمد: هو مبنى على أن الأمر هو الارادة، أو من لوازمه إرادة المأمور به، وهذا الاعراب منزل على معتقده هذا. وأما أهل السنة فكما علمت أن الأمر عندهم غير الارادة ولا يستلزمها.
وقولهم في هذه اللام كقولهم وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ من نفى كونها تعليلا. والوجه في ذلك أنهم لما أوضحت لهم الآيات البينات وأزيحت عنهم العلل وتمكنوا من الإسلام والعبادة امتثالا للأمر جعلوا بمثابة من أريد منهم ذلك تمكيناً لحضهم على الامتثال ولقطع أعذارهم إذا فعل بهم فعل المراد منهم ذلك، وما شأن المريد للشيء إذا كان قادراً على حصوله أن يزيح العلل ويرفع الموانع، وكذلك فعل مع المكلفين وإن لم تكن الطاعة مرادة من جميعهم، وأما إذا كانت اللام هي التي تصحب المصدر كما يقول الزجاج: تقديره الأمر للإسلام وكذلك يقول في قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ الارادة للبيان وهي اللام التي تصحب المفعول عند تقدمه في قولك: لزيد ضربت، فهي على هذا الوجه غير محتاجة للتأويل. وقد قيل إنها بمعنى أن كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم قال هذا القائل. وكى ولام كى في أمرت وأردت خاصة، بمعنى «أن» لا على بابها من التعليل. والغرض من دخولها إفادة الاستقبال على وجه أوثق وأبلغ، إذ لا يتعلق هذان المعنيان- أعنى الأمر والارادة- إلا بمستقبل، وقد جمع بين
الثلاثة اللام وكى وأن، في قوله... أردت لكيما أن يطير...
«البيت» وهذا الوجه أيضا سالم المعنى من الخلل الذي يعتقده الزمخشري، والمحافظة على العقيدة. وقد وجدنا السبيل إلى ذلك بحمد الله متعينة، والله الموفق.