
تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزنا وإنما نصروا الدين للدنيا لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا أي اطمأنوا بها فلأجل استيلاء حب الدنيا على قلوبهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر يتوسلوا بها إلى حطام الدنيا، وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الحالة والله أعلم والمحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه قام الدليل على أنه صواب وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي ذكرهم بمقتضى الدين مخافة احتباسهم في نار جهنم بسبب جناياتهم لعلهم يخافون لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ أي ليس للنفس من غير الله ناصر ولا شفيع يمنع عنها العذاب وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ
عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها
أي وإن تفد تلك النفس بكل فداء لا يقبل منها حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) أي أولئك المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا هم الذين حبسوا في جهنم بما كسبوا في الدنيا لهم شراب من ماء مغلي يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم وعذاب أليم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم المستمر في الدنيا
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ أي قل يا أكرم الرسل لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى دين آبائهم كعيينة وأصحابه أنعبد متجاوزين عبادة الله الجامع لجميع صفات الألوهية ما لا يقدر على نفعنا في الدنيا والآخرة إن عبدناه، ولا على ضرنا فيهما إذا تركناه ونرد إلى الشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك، وإنما يقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل:
إنه رجع إلى خلف ورجع على عقبيه لأن الأصل في الإنسان هو الجهل ثم إذا تكامل حصل له العلم فإذا يرجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا أي فيكون مثلنا كالذي استنزلته الشياطين من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض تائها عن الجادة لا يدري ما يصنع وللنازل إلى الوهدة المظلمة عينية وأصحابه رفقة وهم أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعونه إلى الطريق المستقيم يقولون: ائتنا إلى الجادة والغيلان ينزلونه إلى السافلة المظلمة فبقي متحيرا أين يذهب. وهذا المثل في غاية الحسن وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه كما أن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة، وذلك يدل على كمال التردد والتحير فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يكثر بلاؤه بسبب سقوطه أو يقل فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالا للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هدانا إليه هو الإسلام هُوَ الْهُدى الكامل النافع الشريف وما عداه ضلال محض، وغي بحت وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ أي قل وأمرنا بأن نخلص العبادة لرب العالمين لأنه

المستحق للعبادة وقل أقيموا الصلاة واتقوا الله تعالى في مخالفة أمره المقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب تنبيه على الفرق بين حالتي الكفر والإيمان. فإن الكافر بعيد غائب والمؤمن قريب حاضر، فيخاطب الكافر بخطاب الغائبين لأنه كالأجنبي الغائب، فيقال له: وأمرنا لنسلم لرب العالمين وإذا أسلم وآمن صار كالقريب الحاضر فيخاطب بخطاب الحاضرين ويقال له:
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) أي تجمعون يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما فيهما بِالْحَقِّ أي قائما بالحق لا عابثا وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ أي وأمره المتعلق بكل شيء يريد خلقه حين تعلقه به هو المعروف بالحقية. والمراد من هذا الأمر التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات وهذا بيان أن خلقه تعالى للسموات والأرض ليس مما يتوقف على مادة ولا مدة بل يتم بمحض الأمر التكويني من غير توقف على شيء آخر أصلا. والمراد بالقول كلمة «كن» تمثيل لأن سرعة قدرته تعالى أقل زمنا من زمن النطق بكن وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إنما أخبر الله عن ملكه يومئذ لأنه لا منازع له يومئذ فإن الملوك اعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار، والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين نفخة الصعق أي الموت، ونفخة البعث للحساب عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي عالم ما غاب عن العباد وما عمله العباد وقوله تعالى: وَلَهُ الْمُلْكُ يدل على كمال القدرة وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يدل على كمال العلم وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣) فالحكيم هو المصيب في أفعاله والخبير هو العالم بحقائق الأشياء من غير اشتباه وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ وهو في التوراة تارح فلأبي إبراهيم اسمان آزر وتارح بن ناحور.
واعلم أن جميع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطهر من عبادة الأصنام ما دام النور المحمدي في أصلابهم أما بعد انتقاله منهم فتجوز عليهم عبادة الأصنام وغيرها من سائر أنواع الكفر أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً أي أتجعل لنفسك أصناما آلهة فتعبد أصناما شتى صغيرا وكبيرا ذكرا وأنثى إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) أي إني أراك يا أبت وقومك في ضلال عن الحق بين في الاتفاق على عبادة الأصنام وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) أي كما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه والحق في خلاف ما كان قومه عليه من عبادة الأصنام نريه ملكوت السماوات والأرض من وقت طفوليته ليراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه، وعلوه وعظمته وليصير زمان بلوغه من البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى، لأن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات والصفات فهي غير متناهية من جهات دلالتها على الذوات والصفات كما نقل عن إمام الحرمين أنه يقول معلومات الله تعالى غير متناهية ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات غير متناهية أيضا وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، وكل تلك

الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله وقدرته، وإذا كان الجوهر الفرد وهو الجزء الذي لا يتجزأ كذلك فكيف القول في ملكوت الله تعالى فثبت أن دلالة ملك الله تعالى على سمات عظمته وعزته غير متناهية، وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال فحينئذ لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقب بعض وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية، وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم فَلَمَّا جَنَّ أي أظلم عَلَيْهِ اللَّيْلُ في السرب رَأى كَوْكَباً وهي الزهرة وهي في السماء الثالثة قالَ هذا رَبِّي مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكوكب فَلَمَّا أَفَلَ أي غرب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) أي لا أحب الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال المحتجبين بالأستار فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً أي مبتدئا في الطلوع إثر غروب الكواكب قالَ هذا رَبِّي هذا أكبر من الأول حكاية لقول الخصم الذين يعبدون الكواكب فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى حضرة الحق لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فإن شيئا مما رأيته لا يليق بالربوبية فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً أي مبتدئه في الطلوع قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ من الأول والثاني فَلَمَّا أَفَلَتْ أي هي قالَ مخاطبا للكل صادعا بالحق بينهم يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) بالله من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث.
اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان وهو نمروذ بن كنعان رأى رؤيا كأن كوكبا قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء، وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد في هذه السنة فحبلت أم إبراهيم به وما أظهرت حبلها للناس فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر، فجاء جبريل عليه السلام ووضع إصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه، وكان يتعهده جبريل عليه السلام فكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت: أنا، فقال: ومن ربك؟ قالت: أبوك، فلما أتاه أبوه آزر فقال: يا أبتا من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ قال: ملك البلد نمروذ، فعرف إبراهيم جهلهما بربهما فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئا يستدل به على وجود الرب تعالى فرأى النجم الذي هو أضوء النجوم في السماء فقال: هذا ربي إلى آخر القصة. ولما تبرأ إبراهيم من المشركين توجه إلى منشئ هذه المصنوعات فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي إني وجهت طاعتي وصرفت وجه قلبي للذي أخرج السموات والأرض إلى الوجود حَنِيفاً أي مائلا عن كل معبود دون الله تعالى وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) في شيء من الأفعال والأقوال وَحاجَّهُ قَوْمُهُ أي خاصموه في آلهتهم وخوفوه بها.