
وَالْبَصِيرُ
أي هل يكونان سواء من غير مزية فإن قالوا: نعم، كابروا الحس وإن قالوا: لا، قيل:
فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير ومن أعرض فهو الأعمى أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) أي ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه، نزلت هذه الآية من قوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ في أبي جهل وأصحابه الحرث وعيينة
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) أي وأنذر يا أشرف الرسل بما أوحي إليك من يجوزون الحشر ويرجى منهم التأثر بالتخويف غير منصورين بقريب ولا مشفوعا لهم من جهة أنصارهم على زعمهم من غير الله تعالى سواء كانوا جازمين بأصل الحشر كالمؤمنين العاصين وأهل الكتاب المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة الأصنام، أو مترددين في أصل الحشر وفي
شفاعة الآباء والأصنام معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقا فيهلكوا لكي ينتهوا عن الكفر والمعاصي، وأما المنكرون للحشر بالكلية والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي الذين يعبدون ربهم بالصلوات الخمس أو يذكرون ربهم طرفي النهار يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدون بذلك محبة الله تعالى ورضاه أي مخلصين في ذلك.
روي أنه جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، وعباس بن مرداس وهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جالسا مع ناس من ضعفاء المؤمنين كعمار بن ياسر وصهيب، وبلال وخباب وابن مسعود، وسلمان الفارسي ومهجع، وعامر بن فهيرة فلما رأوهم حوله حقروهم وقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وأبعدت عنك هؤلاء ورائحة جبابهم لجالسناك وأخذنا عنك، فقال النبي: «ما أنا بطارد المؤمنين»، قالوا: فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: «نعم»، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا فأتى بالصحيفة ودعا عليا ليكتب، فنزل جبريل بهذه الآية فألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصحيفة، وقال مجاهد: قالت قريش: لولا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمدا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي أن ناسا من الفقراء كانوا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ناس من الأشراف له صلّى الله عليه وسلّم إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا؟ فنزلت هذه الآية: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) أي ما عليك من حساب رزق هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي شيء فتملهم وتبعدهم، ولا من حساب رزقك عليهم شيء وإنما الرازق لهم ولك

هو الله تعالى فدعهم يكونوا عندك، ولا تطردهم فتكون من الظالمين لنفسك بهذا الطرد ولهم، لأنهم استحقوا مزيد التقريب. وقيل: إن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء وقالوا: يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولا وملبوسا عندك، وإلا فهم فارغون عن دينك فقال الله تعالى: إن كان الأمر كما يقولون فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله فحسابهم عليه لازم لهم لا يتعدى إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي ومثل ذلك الفتون المتقدم فتنا بعض هذه الأمة ببعض وكل أحد مبتلى بضده فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين في الإسلام مسارعين إلى قبوله فقالوا: لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين وأن نعترف لهم بالتبعية فامتنعوا من الدخول في الإسلام لذلك، واعترضوا على الله في جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدين، وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة، فكانوا يقولون: كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار وبالجملة؟ فصفات الكمال مختلفة متفاوتة محبوبة لذاتها موزعة على الخلق فلا تجتمع في إنسان واحد ألبتة فكل أحد بحسد صاحبه على ما آتاه من الله من صفات الكمال لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا بالإيمان بالله ومتابعة الرسول وغرضهم بذلك إنكار وقوع المن رأسا وهذه اللام لام كي والتقدير ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا: هذه المقالة امتحانا منا، وقيل: إنها لام الصيرورة والمعنى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليصيروا أو ليشكروا فكان عاقبة أمرهم أن قالوا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ قال: تعالى ردا عليهم:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) لنعمه حتى تستبعدوا إنعامه عليهم. وفي هذا الاستفهام التقريري إشارة إلى أن الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن وفي التوفيق للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك وتعريض بأن القائلين بتلك المقالة بمعزل من ذلك كله وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قيل: نزلت هذه الآية في أهل الصفة الذين سأل المشركون رسول الله عليه السلام طردهم فأكرمهم الله تعالى بهذا الإكرام فإن الله تعالى نهى رسوله أولا عن إبعادهم، ثم أمره بتبشيرهم بالسلامة عن كل مكروه في الدنيا والرحمة في الآخرة كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجب على ذاته المقدسة الرحمة بطريق الفضل والكرم تبشيرا لهم بسعة رحمته تعالى وبنيل المطالب أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً أي ذنبا بِجَهالَةٍ بتعمد بسبب الشهوة وكان جاهلا بمقدار ما يستحقه من العقاب وما يفوته من الثواب ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي ندم من بعد عمل المعصية وَأَصْلَحَ عمله بالتوبة منه تداركا وعزما على أن لا يعود إليه أبدا فَأَنَّهُ أي الله غَفُورٌ بسبب إزالة العقاب رَحِيمٌ (٥٤) بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد

والنبوة والقضاء والقدر فكذلك نفصل لك حجتنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥).
قرأ نافع «لتستبين» بالتاء خطاب للنبي و «سبيل» بالنصب. أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المشركين فتعاملهم بما يليق بهم. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ليستبين» بالياء و «سبيل» بالرفع. والباقون بالتاء و «سبيل» بالرفع. وقوله و «ليستبين» عطف على المعنى كأنه قيل:
ليظهر الحق وليتضح سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل. قُلْ يا أشرف الخلق للمصرّين على الشرك إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إني نهيت في القرآن عن عبادة ما تعبدونه من دون الله وهو الأصنام قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ في عبادة الأحجار وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير فإنهم كانوا ينحتون تلك الأصنام وإنما يعبدونها بناء على محض الهوى لا على سبيل الحجة فإن اشتغال الأشرف بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عدادهم قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ أي حجة واضحة تفصل بين الحق والباطل وهي الوحي مِنْ رَبِّي في أنه لا معبود سواه وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أي بربي حيث أشركتم به غيره ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي من العذاب أي ليس أمره بمفوض إلى ف «ما» الأولى نافية، و «ما» الثانية موصولة، وسبب نزول هذه الآية أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، وكان النضر بن الحرث وأصحابه يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام على زعمهم فقال تعالى: قل يا أشرف الخلق ليس ما تستحلونه من العذاب الموعود في القرآن وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به وأظهر لكم صدقه إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ما الحكم في نزول العذاب تعجيلا وتأخيرا إلا الله يَقُصُّ الْحَقَّ.
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم «يقص» بالصاد المشددة، وضم القاف، أي ينبئ الحق ويقول الحق لأن كل ما أخبر الله به فهو حق. وقرأ الباقون «يقض» بسكون القاف وكسر الضاد بغير ياء لسقوطها في اللفظ. أي يقضي القضاء الحق أو يصنع الحق لأن كل شيء صنعه الله فهو حق وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) أي أفضل القاضين قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي قل يا أكرم الرسل لو أن في قدرتي ما تطلبون به قبل وقته من العذاب الذي ورد به الوعيد بأن يكون أمره مفوضا إلي من الله تعالى لفصل ما بيني وبينكم بأن نزل عليكم ذلك عقب استعجالكم بقولكم: متى هذا الوعد واسترحت وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) أي أعلم بحال المشركين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج فوقع بالنضر بن الحرث العذاب الذي سأل فقتل صبرا يوم بدر وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ أي علم الغيب لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل بها إلى ما فيها فهو عالم. أو المعنى وعنده