آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄ

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ تقرير لما يفهمه الكلام السابق من أنهم لا يؤمنون. والاستجابة بمعنى الإجابة، وكثيرا ما أجري استفعل مجرى أفعل كاستخلص بمعنى أخلص واستوقد بمعنى أوقد إلى غير ذلك. ومنه قول الغنوي:

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
ويدل على ذلك أنه قال مجيب ولم يقل: مستجيب. ومنهم من فرق بين استجاب وأجاب بأن استجاب يدل على قبول، والمراد بالسماع الفرد الكامل وهو سماع الفهم والتدبر بجعل ما عداه كلا سماع أي إنما يجيب دعوتك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع فهم وتدبر دون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى:

صفحة رقم 134

فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [الروم: ٥٢] وَالْمَوْتى أي الكفار كما قال الحسن، ورواه عنه غير واحد يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ من قبورهم إلى المحشر، وقيل: بعثهم هدايتهم إلى الإيمان وليس بشيء ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى سماعهم لما أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا، وفي إطلاق الموتى على الكفار استعارة تبعية مبنية على تشبيه كفرهم وجهلهم بالموت كما قيل:
لا يعجبن الجهول بزيه... فذاك ميت ثيابه كفن
وقيل: الموتى على حقيقته، والكلام تمثيل لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيق أولئك الكفار للإيمان باختصاصه سبحانه بالقدرة على بعث الموتى الذين رمت عظامهم من القبور، وفيه إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم لا يقدر على هدايتهم لأنها كبعث الموتى. وتعقب بأنه على هذا ليس لقوله سبحانه ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ كبير دخل في التمثيل إلا أن يراد أنه إشارة إلى ما يترتب على الإيمان من الآثار، وفي إعراب الْمَوْتى وجهان أحدهما أنه مرفوع على الابتداء، والثاني أنه منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده واختاره أبو البقاء، ويفهم من كلام مجاهد أنه مرفوع بالعطف على الموصول، والجملة بعده في موضع الحال والظاهر خلافه. وقرىء «يرجعون» على البناء للفاعل من رجع رجوعا. والمتواترة أوفى بحق المقام لانبائها عن كون مرجعهم إليه تعالى بطريق الاضطرار.
وَقالُوا أي رؤساء قريش الذين بلغ بهم الجهل والضلال إلى حيث لم يقنعوا بما شاهدوه من الآيات التي تخر لها صم الجبال ولم يعتدوا به لَوْلا أي هلا نُزِّلَ أي أنزل عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ملجئة للإيمان قُلْ يا محمد إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً من الآيات الملجئة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فلا يدرون أن عدم تنزيلها مع ظهور قدرته سبحانه وتعالى عليه لما أن في تنزيلها قلعا لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختيار أو استئصالا لهم بالكلية إذ ذلك من لوازم جحد الآية الملجئة.
وجوز أن لا يكونوا قد طلبوا الملجئ ولا يلزم من عدم الاعتداد بالمشاهد طلبه بل يجوز أن يكونوا قد طلبوا غير الحاصل مما لا يلجىء لجاجا وعنادا، ويكون الجواب بالملجئ حينئذ من أسلوب الحكيم أو يكون جوابا بما يستلزم مطلوبهم بطريق أقوى وهو أبلغ. ومن لابتداء الغاية. والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا بنزل، وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لآية. وما يفيده التعرض لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلية إنما هو بطريق التعريض بالتهكم من جهتهم. والاقتصار في الجواب على بيان قدرته سبحانه وتعالى على التنزيل مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى للآية مع قدرته عليه بحكمة بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبىء عنه الاستدراك. وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة مع الإشعار بالعلية، ومفعول يَعْلَمُونَ إما مطروح بالكلية على معنى أنهم ليسوا من أهل العلم أو محذوف مدلول عليه بقرينة المقام أي لا يعلمون شيئا. وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضهم واقفون على حقيقة الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعنادا. وقرأ ابن كثير «ينزل» بالتخفيف، والمعنى هنا- كما قيل- واحد لأنه لم ينظر إلى التدريج وعدمه.
وقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ كلام مستأنف مسوق- كما قال الطبرسي. وغيره- لبيان كمال قدرته عز وجل وحسن تدبيره وحكمته وشمول علمه سبحانه وتعالى فهو كالدليل على أنه تعالى قادر على الإنزال وإنما لا ينزل محافظة على الحكم الباهرة، وقيل: إنه دليل على أنه سبحانه وتعالى قادر على البعث والحشر والأول أنسب، وزيدت مِنْ تنصيصا على الاستغراق. والدابة ما يدب من الحيوان، وأصله من دب يدب دبيبا إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو، والجار والمجرور متعلق بمحذوف أو مجرور أو مرفوع وقع صفة لدابة، ووصفت بذلك لزيادة التعميم

صفحة رقم 135

كأنه قيل: وما من فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض وجهها أو جوفها، وكذا الوصف في قوله سبحانه وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ لزيادة التعميم أيضا أي ولا فرد من أفراد الطير يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه، وقيل: إنه لقطع مجاز السرعة فقد استعمل الطيران في ذلك كقوله:

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا
وكذا استعمل الطائر في العمل والنصيب مجازا كما في قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: ١٣].
واحتمال التجوز مع ذلك بجعله ترشيحا للمجاز بعيد لا يلتفت إليه بدون قرينة، واختار بعض المتأخرين أن وجه الوصف تصوير تلك الهيئة الغريبة الدالة على كمال القوة والقدرة. وأورد على الوجهين السابقين أنه لو قيل: ولا طائر في السماء لكان أخضر وفي إفادة ذينك الأمرين أظهر مع ما فيه من رعاية المناسبة بين القرينتين بذكر جهة العلو في إحداهما وجهة السفل في الأخرى، ورد- كما قال الشهاب- بأنه لو قيل: في السماء يطير بجناحيه لم يشمل أكثر الطيور لعدم استقرارها في السماء، ثم إن قصد التصوير لا ينافي قطع المجاز إذ لا مانع من إرادتهما جميعا كما لا يخفى، ثم لما كان المقصود من ذكر هذين الأمرين الدلالة على كمال قدرته جل وعلا ببيان ما يعرفونه ويشاهدونه من هذين الجنسين وشمول قدرته وعلمه سبحانه لهما كان غيرهما غير مقصود بالبيان، فالاعتراض بأن أمثال حيتان البحر خارجة عنهما، والجواب بأنها داخلة في القسم الأول لأن الأرض فيه بمعنى جهة السفل مما لا يلتفت إليه، وقرأ ابن أبي عبلة وَلا طائِرٍ بالرفع عطف على محل الجار والمجرور كأنه قيل: وما دابة ولا طائر إِلَّا أُمَمٌ أي طوائف متخالفة أَمْثالُكُمْ في أن أحوالها محفوظة وأمورها معنية ومصالحها مرعية جارية على سنن السداد منتظمة في سلك التقديرات الإلهية والتدبيرات الربانية، وجمع الأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم كما اختاره غير واحد، وهو يقتضي جواز أن يقال: لا رجل قائمون، والقياس- كما قيل- لا يأباه إلا أنه لم يرد إلا مع الفصل. وصرح السيد السند بأن النكرة هاهنا محمولة على المجموع من حيث هو مجموع، ولعل مراده أن النكرة المذكورة من حيث الإخبار عنها محمولة على المجموع لا أنه مراد منها، فلا يرد أن الحكم بقوله سبحانه وتعالى:
إِلَّا أُمَمٌ يأبى أن يكون التنكير فيما سبق على ما أشير إليه للفردية لأن الفرد ليس بجماعة، وكذا يأبى أن يكون للنوعية أيضا لأن الفرد ليس بجماعات وهو ظاهر، وأما ما قيل: إن النوع يشتمل على أصناف وكل صنف أمة أو الأمة كل جماعة في زمان فيدفعه توصيف أمم «بأمثالكم» إذ الخطاب بكم لافراد نوع الإنسان فالمناسب تشبيه النوع بالنوع في كونهما محفوظي الأحوال لا تشبيه الصنف بالنوع أو تشبيه جماعة في وقت بالنوع، نعم قال السكاكي في المفتاح: إن ذكر فِي الْأَرْضِ مع دابة ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ مع طائر لبيان أن القصد من لفظ دابة ولفظ طائر إنما هو إلى الجنسين وإلى تقريرهما، وعليه لا إشكال في صحة الحمل لاشتمال كل من الجنسين على أنواع كثيرة كل منها أمة كالإنسان فكأنه قيل: ما من جنس من هذين الجنسين إلا أمم إلخ، وهذا كما يقال: ما من رجل من هذين الرجلين إلا كذا، ومراده أن لفظ دَابَّةٍ وطائِرٍ حامل لمعنى الجنس والواحدة فلبيان أن القصد من كل منهما إلى الجنس من حيث هو دون الوحدة والكثرة وصف بصفة لازمة للجنس من حيث هو أي بلا شرط شيء منهما والاستغراق المستفاد من كلمة من بالنظر إلى الجنسين، وبهذا يندفع القول بوجوب تأويل كلام السكاكي وإرجاعه إلى ما ذكره الزمخشري في هذا المقام، وعليه لا يتصور كون الوصف مفيدا لزيادة التعميم والإحاطة لأن الجنس من حيث هو أي لا بشرط شيء مفهوم واحد كما لا يخفى.

صفحة رقم 136

واعترض أيضا القول بالعموم بأنه كيف يصح مع وجوب خروج المشبه به عنه. وأجيب بأن القصد أولا إلى العام والمشبه به في حكم المستثنى بقرينة التشبيه كأنه قيل: ما من واحد من أفراد هذين الجنسين بعمومهما سواكم إلا أمم أمثالكم، ولك أن تدعي دخول كل فرد من أفراد المخاطبين بالتزام أن له اعتبارين اعتبار أنه مشبه واعتبار أنه مشبه به فتأمل جميع ذلك ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ التفريط التقصير، وأصله أن يتعدى بفي وقد ضمن هنا معنى أغفلنا وتركنا، فمن شيء في موضع المفعول به ومن زائدة للاستغراق، ويبعد جعلها تبعيضية أي ما فرطنا في الكتاب بعض شيء وإن جوزه بعضهم، والمراد من الكتاب القرآن واختاره البلخي وجماعة فإنه ذكر فيه جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا بل وغير ذلك إما مفصلا وإما مجملا، فعن الشافعي عليه الرحمة ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله تعالى الهدى فيها.
وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى فقالت له امرأة في ذلك: فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له: قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: ٧] قالت: بلى قال: فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه» وقال الشافعي رحمه الله تعالى مرة بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فأجاب بأنه يقتله واستدل عليه بنحو استدلال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال: أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن.
وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله سبحانه وتعالى لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة»
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا ما استأثر الله تعالى به، وقد سمعت من بعضهم والعهدة عليه أن الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قدس الله تعالى سره وقع يوما عن حماره فرضت رجله فجاؤوا ليحملوه فقال: امهلوني فأمهلوه يسيرا ثم أذن لهم فحملوه فقيل له في ذلك فقال: راجعت كتاب الله تعالى فوجدت خبر هذه الحادثة قد ذكر في الفاتحة، وهذا أمر لا تصله عقولنا. ومثله استخراج بعضهم من الفاتحة أيضا أسماء سلاطين آل عثمان وأحوالهم ومدة سلطنتهم إلى ما شاء الله تعالى من الزمان، ولا بدع فهي أم الكتاب وتلد كل أمر عجيب، وعلى هذا لا حاجة إلى القول بتخصيص الشيء بما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والتكاليف، وقال أبو البقاء:
إن شيئا هنا واقع موقع المصدر أي تفريطا، ولا يجوز أن يكون مفعولا به لأن فَرَّطْنا لا تتعدى بنفسها بل بحرف الجر وقد عديت بفي إلى الكتاب فلا تتعدى بحرف آخر وتبعه في ذلك غير واحد، وجعلوا ما يفهم من القاموس من تعدي هذا الفعل بنفسه حيث قال: فرط الشيء وفرط فيه تفريطا ضيعه وقدم العجز فيه وقصر مما تفرد به في مقابلة من هو أطول باعا منه مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضيعة بل مجازية أو بطريق التضمين الذي أشير إليه سابقا، وعلى هذا لا يبقى- كما قال أبو البقاء- في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء، والكلام حينئذ نظير قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران: ١٢٠] أي ضيرا. وأورد عليه أنه ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر كان منفيا على جهة العموم ويلزمه نفي أنواع المصدر وهو يستلزم نفي جميع

صفحة رقم 137

أفراده وليس بشيء لأنه يريد أن المعنى حينئذ أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن وهو مما لا شبهة فيه ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر، وأيا ما كان فالجملة اعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها فإن من جملة الأشياء أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي، وعن الحسن وقتادة أن المراد بالكتاب الكتاب الذي عند الله تعالى وهو مشتمل على ما كان ويكون وهو اللوح المحفوظ، والمراد بالاعتراض حينئذ الإشارة إلى أن أحوال الأمم مستقصاة هناك غير مقصورة على هذا القدر المجمل، وعن أبي مسلم أن المراد منه الأجل أي ما من شيء إلا وقد جعلنا له أجلا هو بالغه ولا يخفى بعده.
وقرأ علقمة «ما فرطنا» بالتخفيف وهو والمشدد بمعنى. وقال أبو العباس: معنى فرطنا المخفف أخرنا كما قالوا فرط الله تعالى عنك المرض أي أزاله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الضمير للأمم المذكورة في الكريم، وصيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم والتعبير عنها بالأمم، وقيل: هو للأمم مطلقا وتكون صيغة الجمع للتغليب أي إلى مالك أمورهم لا إلى غيره يحشرون يوم القيامة فيجازيهم وينصف بعضهم من بعض حتى أنه سبحانه وتعالى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء كما جاء في حديث صحيح رواه الشيخان.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حشر الحيوانات موتها، ومراده رضي الله تعالى عنه- على ما قيل- إن قوله سبحانه وتعالى إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ مجموعه مستعار على سبيل التمثيل للموت كما
ورد في الحديث «من مات فقد قامت قيامته»
فلا يرد عليه أن الحشر بعث من مكان إلى آخر، وتعديته بإلى تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن في الموت أيضا نقلا من الدنيا إلى الآخرة، نعم ما ذكره الجماعة أوفق بمقام تهويل الخطب وتفظيع الحال، هذا وفي رسالة المعاد لأبي علي قال المعترفون بالشريعة من أهل التناسخ: إن هذه الآية دليل عليه لأنه سبحانه قال: وَما مِنْ دَابَّةٍ إلخ، وفيه الحكم بأن الحيوانات الغير الناطقة أمثالنا وليسوا أمثالنا بالفعل فيتعين كونهم أمثالنا بالقوة لضرورة صدق هذا الحكم وعدم الواسطة بين الفعل والقوة، وحينئذ لا بد من القول بحلول النفس الإنسانية في شيء من تلك الحيوانات وهو التناسخ المطلوب.
ولا يخفى أنه دليل كاسد على مذهب فاسد، ومن الناس من جعلها دليلا على أن للحيوانات بأسرها نفوسا ناطقة كما لأفراد الإنسان، وإليه ذهب الصوفية وبعض الحكماء الإسلاميين. وأورد الشعراني في الجواهر والدرر لذلك أدلة غير ما ذكر، منها أنه صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر وتعرض كل من الأنصار لزمام ناقته.
قال عليه الصلاة والسلام: «دعوها فإنها مأمورة»
ووجه الاستدلال بذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر أن الناقة مأمورة ولا يعقل الأمر إلا من له نفس ناطقة، وإذا ثبت أن للناقة نفسا كذلك ثبت للغير إذ لا قائل بالفرق، ومنها ما يشاهد في النحل وصنعتها أقراص الشمع والعناكب واحتيالها لصيد الذباب والنمل وادخاره لقوته على وجه لا يفسد معه ما ادخره. وأورد بعضهم دليلا لذلك أيضا النملة التي كلمت سليمان عليه الصلاة والسلام بما قص الله تعالى لنا عنها مما لا يهتدي إلى ما فيه إلا العالمون وخوف الشاة من ذئب لم تشاهد فعله قبل فإن ذلك لا يكون إلا عن استدلال وهو شأن ذوي النفوس الناطقة، وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه فإن ذلك دليل على اعتقاد النفع ومعرفة الحسن وهو من شأن ذوي النفوس. وأغرب من هذا دعوى الصوفية.
ونقله الشعراني عن شيخه على الخواص قدس الله تعالى سره أن الحيوانات مخاطبة مكلفة من عند الله تعالى ومن حيث لا يشعر المحجوبون ثم قال: ويؤيده قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٢٤] حيث نكر سبحانه وتعالى الأمة والنذير وهم من جملة الأمم.
ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول: جميع ما في الأمم فينا حتى أن فيهم ابن عباس

صفحة رقم 138

مثلي. وذكر في الأجوبة المرضية أن فيهم أنبياء. وفي الجواهر أنه يجوز أن يكون النذير من أنفسهم وأن يكون خارجا عنهم من جنسهم. وحكى شيخه عن بعضهم أنه قال: إن تشبيه الله تعالى من ضل من عباده بالأنعام في قوله سبحانه وتعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ [الفرقان: ٤٤] ليس لنقص فيها وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله تعالى حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى فأعلى ما يصل إليه العلماء بربهم سبحانه وتعالى هو مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عنه أي عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال. ولذلك كان من وصفهم الله عز وجل من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن ذلك لهم والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه وذلك لشدة علمها بالله تعالى اه.
ونقل الشهاب عن ابن المنير أن من ذهب إلى أن البهائم والهوام مكلفة لها رسل من جنسها فهو من الملاحدة الذين لا يعول عليهم كالجاحظ وغيره، وعلى إكفار القائل بذلك نص كثير من الفقهاء والجزاء الذي يكون يوم القيامة للحيوانات عندهم ليس جزاء تكليف، على أن بعضهم ذهب إلى أن الحيوانات لا تحشر يوم القيامة وأول الظواهر الدالة على ذلك. وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أصل له.
والمثلية في الآية لا تدل على شيء مما ذكر. وأغرب الغريب عند أهل الظاهر أن الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم جعلوا كل شيء في الوجود حيا دراكا يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان وما يزيد الحيوان على الجماد إلا بالشهوة، ويستندون في ذلك إلى الشهود. وربما يستدلون بقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤] ولكن لا تفقهون تسبيحهم وبنحو ذلك من الآيات والأخبار.
والذي ذهب إليه الأكثرون من العلماء أن التسبيح حالي لا قالي، ونظير ذلك.

شكى إلى جملي طول السرى و امتلأ الحوض وقال قطني
وما يصدر عن بعض الجمادات من تسبيح قالي كتسبيح الحصى في كفه الشريف صلّى الله عليه وسلّم مثلا إنما هو عن خلق إدراك إذ ذاك، وما يشاهد من الصنائع العجيبة لبعض الحيوانات ليس كما قال الشيخ الرئيس مما يصدر عن استنباط وقياس بل عن إلهام وتسخير، ولذلك لا تختلف ولا تتنوع، والنقض بالحركة الفلكية لا يرد بناء على قواعدنا. وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه ليس عن اعتقاد بل هناك هيئة أخرى نفسانية وهي أن كل حيوان يحب بالطبع ما يلذه والشخص الذي يطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا عن افتراسه. وربما يقع هذا العارض عن إلهام إلهي مثل حب كل حيوان ولده. وعلى هذا الطرز يخرج الخوف مثلا الذي يعتري بعض الحيوانات.
وقد أطالوا الكلام في هذا المقام، وأنا لا أرى مانعا من القول بأن للحيوانات نفوسا ناطقة وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان والشواهد على هذا كثيرة وليس في مقابلتها قطعي يجب تأويلها لأجله. وقد صرح غير واحد أنها عارفة بربها جل شأنه، وأما أن لها رسلا من جنسها فلا أقول به ولا أفتي بكفر من قال به. وأما أن الجمادات حية مدركة فأمر وراء طور عقلي، والله تعالى على كل شيء قدير وهو العليم الخبير وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي القرآن أو سائر الحجج ويدخل دخولا أوليا، والموصول عبارة عن المعهودين في قوله عز وجل وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام: ٢٥] إلخ أو الأعم من أولئك، والكلام متعلق بقوله سبحانه ما فَرَّطْنا إلخ أو بقوله جل شأنه إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ

صفحة رقم 139

والواو للاستئناف وما بعدها مبتدأ خبره صُمٌّ وَبُكْمٌ وجوز أن يكون هذا خبر مبتدأ محذوف أي بعضهم صم وبعضهم بكم. والجملة خبر المبتدأ والأول أولى. وهو من التشبيه البليغ على القول الأصح في أمثاله أي أنهم كالصم وكالبكم فلا يسمعون الآيات سماعا تتأثر منه نفوسهم ولا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون ويقولون في الآيات ما يقولون. وقوله سبحانه: فِي الظُّلُماتِ أي في ظلمات الكفر وأنواعه أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل إما خبر بعد خبر للموصول على أنه واقع موقع عُمْيٌ كما في قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: ١٨، ١٧١] ووجه ترك العطف فيه دون ما تقدمه الإيماء إلى أنه وحده كاف في الذم والإعراض عن الحق، واختير العطف فيما تقدم للتلازم، وقد يترك رعاية لنكتة أخرى وإما متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في الخبر كأنه قيل: ضالون خابطين أو كائنين في الظلمات. ورجحت الحالية بأنها أبلغ إذ يفهم حينئذ أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر أو الجهل وأخويه حتى لو أخرجوا منها لسمعوا ونطقوا، وعليها لا يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم في الظلمات وأن يكون صفة لبكم أو ظرفا له أو لصم أو لما ينوب عنهما من الفعل، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بالظلمات ظلمات الآخرة على الحقيقة أي أنهم كذلك يوم القيامة عقابا لهم على كفرهم في الدنيا والكلام عليه متعلق بقوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ على أن الضمير للأمم على الإطلاق وفيه بعد. وقوله سبحانه: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ تحقيق للحق وتقرير لما سبق من حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلا فمن مبتدأ خبره ما بعده ومفعول يشأ محذوف أي إضلاله. ولا يجوز أن يكون من مفعولا مقدما له لفساد المعنى، والمراد من يرد سبحانه أن يخلق فيه الضلال عن الحق يخلقه فيه حسب اختياره الناشئ عن استعداده، وجوز بعضهم أن يكون مَنْ في موضع نصب بفعل مقدر بعده يفسره ما بعده أي من يشق أو يعذب يشأ إضلاله وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ عطف على ما تقدم، والكلام فيه كالكلام فيه، والآية دليل لأهل السنة على أن الكفر والإيمان بإرادته سبحانه وأن الإرادة لا تتخلف عن المراد. والزمخشري لما رأى تخرق عقيدته الفاسدة رام رقعها كما هو دأبه فقال: معنى يُضْلِلْهُ يخذله ولم يلطف به ويَجْعَلْهُ إلخ بلطف به، وقال غيره: المراد من يشأ إضلاله يوم القيامة عن طريق الجنة يضلله ومن يشأ يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة وهو كما ترى.
وكان الظاهر على ما قيل: أن يقال ومن يشأ يهده إلا أنه عدل عنه لأن هدايته تعالى وهي إرشاده إلى الهدى غير مختصة ببعض دون بعض. ولهذا قيل في تفسير يَجْعَلْهُ إلخ أي يرشده إلى الهدى ويحمله عليه قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن يبكتهم ويلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى إنكاره. والتاء على ما قاله أبو البقاء ضمير الفاعل وما بعده حرف خطاب جيء به للتأكيد. وليس اسما لأنه لو كان كذلك لكان إما مجرورا ولا جار هنا. أو مرفوعا وليس من ضمائر الرفع. ولا مقتضي له أيضا أو منصوبا وهو باطل لثلاثة أوجه، الأول أن هذا الفعل قلبي بمعنى علم يتعدى إلى مفعولين كقولك: أرأيت زيدا ما فعل فلو جعل المذكور مفعولا لكان ثالثا.
والثاني أنه لو جعل مفعولا لكان هو الفاعل في المعنى. وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك. ولذلك قلت: أرأيتك زيدا وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث أنه لو جعل كذلك لظهرت علامة التثنية. والجمع والتأنيث في التاء فكنت تقول: أرأيتما كما وأ رأيتموكم وأ رأيتكن وهذا مذهب البصريين.
والمفعولان في هذه الآية قيل: الأول منهما محذوف تقديره أرأيتكم إياه أو إياها أي العذاب أو الساعة الواقعين في قوله سبحانه: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أي الدنيوي حسبما أتى من قبلكم أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أي هو لها كما يدل

صفحة رقم 140

عليه ما بعد لأن الكلام من باب التنازع حيث تنازع رأي وأتى في معمول واحد وهو عَذابُ اللَّهِ والساعة فاعمل الثاني وأضمر في الأول. والثاني منهما جملة الاستفهام وهي قوله تعالى أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ والرابط لها بالمفعول الأول محذوف أي أغير الله تدعون لكشف ذلك. وقيل: لا تنازع والتقدير أرأيتكم عبادتكم للأصنام أو الأصنام التي تعبدونها هل تنفعكم، وقيل: إن الجملة الاستفهامية سادة مسد المفعولين.
وذهب الرضي تبعا لغيره أن رأى هنا بصرية. وقيل: قلبية بمعنى عرف. وهي على القولين متعدية لواحد وأصل اللفظ الاستفهام عن العلم أو العرفان أو الإبصار إلا أنه تجوز به عن معنى أخبرني ولا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء. وفيه- على ما قال الكرماني-. وغيره تجوزان إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار لأن الرؤية بأي معنى كانت سبب له. وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب. وقول بعضهم: إن الاستفهام للتعجيب لا ينافي كون ذلك بمعنى أخبرني لما قيل: إنه بالنظر إلى أصل الكلام. ونقل عن أبي حيان أن الأخفش قال: إن العرب أخرجت هذا اللفظ عن معناه بالكلية فقالوا: أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة الثانية إذا كان بمعنى أخبرت. وإذا كان بمعنى أبصرت لم تحذف همزته وألزمته أيضا الخطاب على هذا المعنى فلا تقول أبدا أراني زيد عمرا ما صنع وتقول هذا على معنى أعلم، وأخرجته أيضا عن موضوعه بالكلية لمعنى إما بدليل دخول الفاء بعده كقوله تعالى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ [الكهف: ٦٣] الآية. فما دخلت الفاء إلا وقد خرجت لمعنى أما. والمعنى أما إذا أوينا إلى الصخرة فالأمر كذا وكذا.
وقد أخرجته أيضا إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كان بهذا المعنى فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه وتلزم الجملة بعد الاستفهام. وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان اه ولم يوافق في جميع ذلك.
وذهب شيخ أهل الكوفة الكسائي إلى أن التاء ضمير الفاعل وأداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول.
وذهب الفراء إلى أن التاء حرف خطاب واللواحق بعده في موضع الرفع على الفاعلية وهي ضمائر نصب استعملت استعمال ضمائر الرفع. والكلام على ذلك مبسوط في محله. والمختار عند كثير من المحققين ما ذهب إليه البصريون من جعل كم هنا وكذا سائر اللواحق حرف خطاب ومتعلق الاستخبار عندهم ومحط التبكيت قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ إلخ. وقوله سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ متعلق بأريتكم مؤكد للتبكيت كاشف عن كذبهم. وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه، والتقدير- على ما قيل- إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة أو أن عبادتكم لها نافعة أو إن كنتم قوما من شأنكم الصدق فأخبروني أإلها غير الله تعالى تدعون إن أتاكم عذاب الله إلخ فإن صدقهم من موجبات أخبارهم بدعائهم غيره سبحانه.
وقيل: إن الجواب ما يدل عليه قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أعني فادعوه على أن الضمير لغير الله، واعترض بأنه يخل بجزالة النظم الكريم كيف لا والمطلوب منهم إنما هو الإخبار بدعائهم غيره جل شأنه عند إتيان ما يأتي لا نفس دعائهم إياه، وجوز آخرون كون متعلق الاستخبار محذوفا تقديره أخبروني إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون، وجعلوا قوله سبحانه: أَغَيْرَ اللَّهِ إلخ استئنافا للتبكيت على معنى أتخصون آلهتكم بالدعوة كما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله تعالى دونها، وعليه فتقديم المفعول للتخصيص.
وبعضهم جعل تقديمه لأن الإنكار متعلق به وأنكر تعلقه بالتخصيص، نعم التقديم في قوله تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ للتخصيص أي بل تخصونه سبحانه بالدعاء وليس لرعاية الفواصل، والتخصيص مستفاد مما بعد وهو عطف على جملة منفية تفهم من الكلام السابق كأنه قيل: لا غير الله تدعون بل إياه تدعون، وجعله في الكشف عطفا على أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وأورد الزمخشري على كون أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ متعلق الاستخبار أن قوله سبحانه:

صفحة رقم 141

فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي ما تدعونه إلى كشفه مع قوله تعالى: أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ يأباه فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين. وأجاب بأنه قد اشترط في الكشف المشيئة بقوله جل شأنه: إِنْ شاءَ وهو عز وجل لا يشاء كشف هاتيك القوارع عنهم، وخص الإيراد بذلك الوجه- على ما في الكشف- لأن الشرطين فيه لما كانا متعلقين بقوله سبحانه: أَغَيْرَ إلخ وكان بَلْ إِيَّاهُ إلخ عطفا عليه إضرابا عنه والمعطوف في حكم المعطوف عليه وجب أن يكونا متعلقين به أيضا. ولما كان الكشف مستعقب الدعاء مستفادا عنه وجب أن يكونا متعلقين به أيضا فجاء سؤال أن قوارع الساعة لا تكشف. وأما في الوجه الآخر فلأن أَغَيْرَ إلخ لما كان كلاما مستقلا لم تتعلق به الشرطان لفظا بل جاز أن يقدرا أو هو الظاهران ساعد المعنى، وأن يقدر واحد منهما حسب استدعاء المقام وذلك أنه سبحانه بكتهم بما كانوا عليه من اختصاصهم إياه تعالى بالدعاء عند الكرب ألا ترى إلى قوله جل شأنه: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النحل: ٥٣] فلا مانع من ذكر أمرين والتقريع على أحدهما دون الآخر لا سيما عند اختصاصه بالتقريع انتهى. وربما يقال: إن كشف القوارع الدنيوية والأخروية بدعاء المؤمن أو المشرك بل قبول الدعاء مطلقا مشروط بالمشيئة وبذلك تقيد آية ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: ١٨٦] لكن انتفاء المشيئة متحقق في بعض الصور كما في قبول دعاء الكفار بكشف قوارع الساعة وما يلقونه من سواء الجزاء على كفرهم وكشف بعض الأهوال عنهم ككرب طول الوقوف حين يشفع صلّى الله عليه وسلّم فيشفع في الفصل بين الخلائق يومئذ ليس من باب استجابة دعائهم في شيء.
على أن كرب طول الوقوف الذي يفارقونه نعيم بالنسبة إلى ما يلاقونه بعد وإن لم يعلموا ذلك قبل فالقوارع محيطة بهم في ذلك اليوم لا تفارقهم أصلا وإنما ينتقلون فيها من شديد إلى أشد. فقول بعضهم إثر قول الزمخشري:
فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين الأحسن عندي
أن هول القيامة يكشف أيضا ككرب الموقف إذا طال كما ورد في حديث الشفاعة العظمى
إلا أن الزمخشري لم يذكره لأن المعتزلة قائلون بنفي الشفاعة وقد غفل عن هذا من اتبعه كلام خال عن التحقيق، والمعتزلة على ما في مجمع البحار لا ينفون الشفاعة في فصل القضاء وإنما ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر والكفار في النجاة من النار.
هذا واختلف المفسرون في جواب الشرط الأول فقيل محذوف تقديره فمن تدعون، وقيل: وعليه أبو البقاء تقديره دعوتم الله تعالى، وقيل: إنه مذكور وهو أرأيتكم، وقيل: ونسب للرضي هو الجملة المتضمنة للاستفهام بعده وهو كالمتعين على بعض الأقوال، ورده الدماميني بأن الجملة كذلك لا تقع جوابا للشرط بدون فاء.
وبحث في ذلك الشهاب في حواشيه على شرح الكافية للرضي وقال أبو حيان وتبعه غير واحد الذي أذهب إليه أن يكون الجواب محذوفا لدلالة أَرَأَيْتَكُمْ عليه تقديره إن أتاكم عذاب الله تعالى فأخبروني عنه أتدعون غير الله تعالى لكشفه كما تقول: أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به فإن التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه. ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت انتهى فافهم ولا تغفل. وقوله تعالى: وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ عطف على تَدْعُونَ والنسيان مجاز عن الترك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي تتركون ما تشركون به تعالى من الأصنام تركا كليا، وقيل: يحتمل أن يكون على حقيقته فإنهم لشدة الهول ينسون ذلك حقيقة، ولا يخطر لهم ببال ولا يلزم حينئذ أن ينسى الله تعالى لأن المعتاد في الشدائد أن يلهج بذكره تعالى وينسى ما سواه سبحانه، وقدم الكشف مع تأخره عن النسيان كتأخره عن الدعاء لإظهار كمال العناية بشأنه والإيذان بترتبه على الدعاء خاصة

صفحة رقم 142

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كلام مستأنف سيق لبيان أن من المشركين من لا يدعو الله تعالى عند إتيان العذاب لتماديه في الغي والضلال ولا يتأثر بالزواجر التكوينية كما لا يتأثر بالزواجر التنزيلية، وقيل: مسوق لتسليته صلّى الله عليه وسلّم. وتصدير الجملة بالقسم لإظهار مزيد الاهتمام بمضمونها، والمفعول محذوف لأن مقتضى المقام بيان حال المرسل إليهم لا حال المرسلين وتنوين أُمَمٍ للتكثير ومِنْ ابتدائية أو بمعنى في أو زائدة بناء على جواز زيادتها في الإثبات وضعف أي تالله لقد أرسلنا رسلا إلى أمم كثيرة كائنة من زمان أو في زمان قبل زمانك فَأَخَذْناهُمْ أي فكذبوا فعاقبناهم بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ أي البؤس والضر.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير أنه قال: خوف السلطان. وغلاء السعر. وقيل: البأساء القحط والجوع والضراء المرض ونقصان الأنفس والأموال وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما على أفعل كأحمر حمراء كما هو القياس فإنه لم يقل أضر وأبأس صفة بل للتفضيل لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي لكي يتذللوا فيدعوا ويتوبوا من كفرهم فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا أي فلم يتضرعوا حينئذ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع الذي يعذرون به، «ولولا» عند الهروي تكون نافية حقيقة وجعل من ذلك قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس: ٩٨] والجمهور حملوه على التوبيخ والتنديم وهو يفيد الترك وعدم الوقوع ولذا ظهر الاستدراك والعطف في قوله تعالى:
وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وليست لولا هنا تحضيضية كما توهم لأنها تختص بالمضارع، واختار بعضهم ما ذهب إليه الهروي. ولما كان التضرع ناشئا من لين القلب كان نفيه نفيه فكأنه قيل: فما لانت قلوبهم ولكن قست، وقيل: كان الظاهر أن يقال لكن يجب عليهم التضرع إلا أنه عدل إلى ما ذكر لأن قساوة القلب التي هي المانع يشعر بأن عليهم ما ذكر، ومعنى قَسَتْ إلخ استمرت على ما هي عليه من القساوة أو ازدادت قساوة وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله. والتزيين له معان، أحدها إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر كقوله تعالى: زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا [الصافات: ٦] والثاني جعله مزينا من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس. والثالث جعله محبوبا للنفس مشتهى للطبع وإن لم يكن في نفسه كذلك وهذا إما بمعنى خلق الميل في النفس والطبع وإما بمعنى تزويقه وترويجه بالقول وما يشبه كالوسوسة والإغواء، وعلى هذا يبنى أمر إسناده فإنه جاء في النظم الكريم تارة مسندا إلى الشيطان كما في هذه الآية وتارة إليه سبحانه كما في قوله سبحانه: وكَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: ١٠٨] وتارة إلى البشر كقوله عز وجل: زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام: ١٣٧] فإن كان بالمعنى الأول فإسناده إلى الله تعالى حقيقة، وكذا إذا كان بالمعنى الثالث بناء على المراد منه أولا، وإن كان بالمعنى الثاني أو الثالث بناء على المراد منه ثانيا فإسناده إلى الشيطان أو البشر حقيقة، ولا يمكن إسناد ما يكون بالإغواء والوسوسة إليه سبحانه كذلك. وجاء أيضا غير مذكور الفاعل كقوله سبحانه زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ [يونس: ١٢] وحينئذ يقدر في كل مكان ما يليق به، وقد مر لك ما يتعلق بهذا البحث فتذكر.
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما دعاهم الرسل عليهم الصلاة والسلام إليه وردوه عليهم ولم يتعظوا به كما روي عن ابن جريج، وقيل: المراد أنهم انهمكوا في معاصيهم ولم يتعظوا بما نالهم من البأساء والضراء فلما لم يتعظوا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من النعم الكثيرة كالرخاء وسعة الرزق مكرا بهم واستدراجا لهم.
فقد روى أحمد، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عقبة بن عامر مرفوعا «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَلَمَّا نَسُوا الآية وما

صفحة رقم 143

بعدها».
وروي عن الحسن أنه لما سمع الآية قال: «مكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا» وقيل: المراد فتحنا عليهم ذلك إلزاما للحجة وإزاحة للعلة، والظاهر أن فَتَحْنا جواب لما لأن فيها سواء قيل بحرفيتها أو اسميتها معنى الشرط.
واستشكل ذلك بأنه لا يظهر وجه سببية النسيان لفتح أبواب الخير. وأجيب بأن النسيان سبب للاستدراج المتوقف على فتح أبواب الخير، وسببية شيء لآخر تستلزم سببيته لما يتوقف عليه. ويقال: إن الجواب ما ذكر باعتبار ماله ومحصله وهو ألزمناهم الحجة ونحوه وتسببه عنه ظاهر، وقيل: إنه مسبب عنه باعتبار غايته وهو أخذهم بغتة. وقرأ أبو جعفر وابن عامر «فتّحنا» بالتشديد للتكثير حَتَّى إِذا فَرِحُوا فرح بطر بِما أُوتُوا من النعم ولم يقوموا بحق المنعم جل شأنه أَخَذْناهُمْ عاقبناهم وأنزلنا بهم العذاب بَغْتَةً أي فجأة ليكون أشد عليهم وأفظع هولا، وهي نصب على الحالية من الفاعل أو المفعول أي مباغتين أو مبغوتين أو على المصدرية أي بغتناهم بغتة فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ أي آيسون من النجاة والرحمة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقال البلخي: أذلة خاضعون، وعن السدي الإبلاس تغير الوجه.
ومنه سمي إبليس لأن الله تعالى نكس وجهه وغيره، وعن مجاهد هو بمعنى الاكتئاب.
وفي الحواشي الشهابية للإبلاس ثلاثة معان في اللغة، الحزن، والحسرة، واليأس وهي معان متقاربة. وقال الراغب: هو الحزن المعترض من شدة اليأس، ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل: أبلس فلان إذا سكت وإذا انقطعت حجته وإِذا هي الفجائية وهي ظرف مكان كما نص عليه أبو البقاء وعن جماعة أنها ظرف زمان، ومذهب الكوفيين أنها حرف وعلى القولين الأولين الناصب لها خبر المبتدأ أي أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي آخرهم كما قال غير واحد، وهو من دبره إذا تبعه فكأنه في دبره أي خلفه، ومنه إن من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا أي في آخر الوقت.
وقال الأصمعي: الدابر الأصل ومنه قطع الله دابره أي أصله وأيّا ما كان فالمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب ولم يبق منهم أحد، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على ما جرى عليهم من النكال والإهلاك فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها فهذا منه تعالى تعليم للعباد أن يحمدوه على مثل ذلك، واختار الطبرسي أنه حمد منه عز اسمه لنفسه على ذلك الفعل قُلْ يا محمد على سبيل التبكيت والإلزام أيضا أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أي أصمكم وأعماكم فأخذهما مجاز عما ذكر لأنه لازم له، والاستدلال بالآية على بقاء العرض زمانين محل نظر.
وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقل وفهم أصلا. وقيل: يجوز أن يكون الختم عطفا تفسيريا للأخذ فإن البصر والسمع طريقان للقلب منهما يرد ما يرده من المدركات فأخذهما سد لبابه بالكلية وهو السر في تقديم أخذهما على الختم عليها. واعترض بأن من المدركات ما لا يتوقف على السمع والبصر، ولهذا قال غير واحد بوجوب الإيمان بالله تعالى على من ولد أعمى أصم وبلغ سن التكليف، وقيل في التقديم: إنه من باب تقديم ما يتعلق بالظاهر على ما يتعلق بالباطن. ووجه تقديم السمع وافراده قد تقدمت الإشارة إليه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك على أن الضمير مستعار لاسم الإشارة المفرد لأنه الذي كثر في الاستعمال التعبير به عن أشياء عدة وأما الضمير المفرد فقد قيل فيه ذلك. ونقل عن الزجاج أن الضمير راجع إلى المأخوذ والمختوم عليه في ضمن ما مر أي المسلوب منكم أو راجع إلى السمع وما بعده داخل معه في القصد ولا يخفى بعده.

صفحة رقم 144

وجوز أن يكون راجعا إلى أحد هذه المذكورات، ومَنْ مبتدأ وإِلهٌ خبره وغَيْرُ صفة للخبر ويَأْتِيكُمْ صفة أخرى، والجملة- كما قال غير واحد- متعلق الرؤية ومناط الاستخبار أي أخبروني أن سلب الله تعالى مشاعركم من إله غيره سبحانه يأتيكم به وترك كاف الخطاب هنا قيل: لأن التخويف فيه أخف مما تقدم ومما يأتي.
وقيل: اكتفاء بالسابق واللاحق لتوسط هذا الخطاب بينهما، وقيل: لما كان هذا العذاب مما لا يبقى القوم معه أهلا للخطاب حذفت كافه إيماء لذلك ورعاية لمناسبة خفية انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نكررها على أنحاء مختلفة، ومنه تصريف الرياح. والمراد من الآيات- على ما روي عن الكلبي- الآيات القرآنية وهل هي على الإطلاق أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا أو ما ذكر قبل هذا أقوال أقربها عندي الأقرب وفيها الدال على وجود الصانع وتوحيده وما فيه الترغيب والترهيب والتنبيه والتذكير. وهذا تعجيب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: لمن يصلح للخطاب من عدم تأثرهم بما مر من الآيات الباهرات.
ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ أي يعرضون عن ذلك: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنشد لهذا المعنى قول أبي سفيان بن الحارث:

عجبت لحكم الله فينا وقد بدا له صدفنا عن كل حق منزل
وذكر بعضهم أنه يقال: صدف عن الشيء صدوفا إذا مال عنه. وأصله من الصدف الجانب والناحية ومثله الصدفة وتطلق على كل بناء مرتفع.
وجاء في الخبر أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بصدف مائل فأسرع.
والجملة عطف على «نصرف» داخل معه في حكمه وهو العمدة في التعجيب. وثُمَّ للاستبعاد أي أنهم بعد ذلك التصريف الموجب للإقبال والإيمان يدبرون ويكفرون قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ تبكيت آخر لهم بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أي العاجل الخاص بكم كما أتى أضرابكم من الأمم قبلكم بَغْتَةً أي فجأة من غير ظهور أمارة وشعور. ولتضمنها بهذا الاعتبار ما في الخفية من عدم الشعور صح مقابلتها بقوله سبحانه: أَوْ جَهْرَةً وبدأ بها لأنها أردع من الجهرة. وإنما لم يقل: خفية لأن الإخفاء لا يناسب شأنه تعالى.
وزعم بعضهم أن البغتة استعارة للخفية بقرينة مقابلتها بالجهرة وأنها مكنية من غير تخييلية. ولا يخفى أنه على ما فيه تعسف لا حاجة إليه فإن المقابلة بين الشيء والقريب من مقابله كثيرة في الفصيح. ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم «بشروا ولا تنفروا».
وعن الحسن أن البغتة أن يأتيهم ليلا. والجهرة أن يأتيهم نهارا. وقرىء «بغتة أو جهرة» بفتح الغين والهاء على أنهما مصدران كالغلبة أي إتيانا بغتة أو إتيانا جهرة. وفي المحتسب لابن جني أن مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتح لا يحرك إلا على أنه لغة فيه كالنهر والنهر والشعر والشعر والحلب والحلب والطرد والطرد.
ومذهب الكوفيين أنه يجوز تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا قياسا مطردا كالبحر والبحر، وما أرى الحق إلا معهم، وكذا سمعت من عامه عقيل. وسمعت الشجري يقول: أنا محموم بفتح الحاء. وليس في كلام العرب مفعول بفتح الفاء. وقالوا: اللحم يريد اللحم. وسمعته يقول تغدوا بمعنى تغدوا. وليس في كلامهم مفعل بفتح الفاء وقالوا: سار نحوه بفتح الحاء ولو كانت الحركة أصلية ما صحت اللام أصلا اه. وهي- كما قال الشهاب- فائدة ينبغي حفظها.
وقرىء «بغتة وجهرة» بالواو الواصلة.
هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أي إلا أنتم. ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وإيذانا بأن مناط إهلاكهم ظلمهم ووضعهم الكفر موضع الإيمان والإعراض موضع الإقبال. وهذا- كما قال الجماعة- متعلق

صفحة رقم 145

الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل تقريرا لهم باختصاص الهلاك بهم أخبروني إن أتاكم عذابه جل شأنه حسبما تستحقونه هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يهلك غيركم ممن لا يستحقه، وقيل: المراد بالقوم الظالمين الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا. واعترض بأنه يأباه تخصيص الإتيان بهم، وقيل: الاستفهام بمعنى النفي لأن الاستثناء مفرغ والأصل فيه النفي، ومتعلق الاستخبار حينئذ محذوف كأنه قيل: أخبروني إن أتاكم عذابه عز وجل بغتة أو جهرة ماذا يكون الحال. ثم قيل: بيانا لذلك ما يهلك إلا القوم الظالمون أي ما يهلك بذلك العذاب الخاص بكم إلا أنتم.
وقيد الطبرسي وغيره الهلاك بهلاك التعذيب والسخط توجيها للحصر إذ قد يهلك غير الظالم لكن ذلك رحمة منه تعالى به ليجزيه الجزاء الأوفى على ابتلائه، ولعله اشتغال بما لا يعني. وقرىء «يهلك» بفتح الياء.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم إِلَّا مُبَشِّرِينَ من أطاع منهم بالثواب وَمُنْذِرِينَ من عصى منهم بالعذاب، واقتصر بعضهم على الجنة والنار لأنهما أعظم ما يبشر به وينذر به، والمتعاطفان منصوبان على أنهما حالان مقدرتان مفيدتان للتعليل. وصيغة المضارع للإيذان بأن ذلك أمر مستمر جرت عليه العادة الإلهية، والآية مرتبطة بقوله سبحانه: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس: ٢٠] أي ما نرسل المرسلين إلا لأجل أن يبشروا قومهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعذاب على المعصية ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويسخر بهم فَمَنْ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَأَصْلَحَ ما يجب إصلاحه والإتيان به على وفق الشريعة، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ومن موصولة ولشبه الموصول بالشرط دخلت الفاء في قوله سبحانه: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب الذي أنذر الرسل به وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوات الثواب الذي بشروا به، وقد تقدم الكلام في هذه الآية غير مرة، وجمع الضمائر الثلاثة الراجعة إلى من باعتبار معناها كما أن إفراد الضميرين السابقين باعتبار لفظها.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي التي بلغتها الرسل عليهم الصلاة والسلام عند التبشير والإنذار، وقيل: المراد بها نبينا صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته والأول هو الظاهر، والموصول مبتدأ وقوله تعالى: يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ خبره والجملة عطف على «من آمن» إلخ. والمراد بالعذاب العذاب الذي أنذروه عاجلا أو آجلا أو حقيقة العذاب وجنسه المنتظم لذلك انتظاما أوليا وفي جعله ماسا إيذان بتنزيله منزلة الحي الفاعل لما يريد ففيه استعارة مكنية على ما قيل. وجوز الطيبي أن يكون في المس استعارة تبعية من غير استعارة في العذاب، والظاهر أن ما ذكر مبني على أن المس من خواص الأحياء، وفي البحر أنه يشعر بالاختيار، ومنع ذلك بعضهم، وادعى عصام الملة أنه أشير بالمس إلى أن العذاب لا يأخذهم بحيث يعدمهم حتى يتخلصوا بالهلاك وله وجه بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم.
نعم أخرج ابن جرير عن ابن زيد أن كل فسق في القرآن معناه الكذب، ولعله في حيز المنع وخروجهم المستمر عن حظيرة الإيمان والطاعة، وقد يقال: الفاسق لمن خرج عن التزام بعض الأحكام لكنه غير مناسب هاهنا.
قُلْ أيها الرسول البشير النذير للكفرة الذين يقترحون عليك ما يقترحون: لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي مقدوراته جمع خزينة أو خزانة وهي في الأصل ما يحفظ فيه الأشياء النفيسة تجوز فيها عما ذكر، وعلى ذلك الجبائي وغيره، ولم يقل: لا أقدر على ما يقدر عليه الله قيل: لأنه أبلغ لدلالته على أنه لقوة قدرته كأن مقدوراته مخزونة حاضرة عنده، وقيل: إن الخزائن مجاز عن المرزوقات من إطلاق المحل على الحال أو اللازم على الملزوم وقيل: الكلام على حذف مضاف أي خزائن رزق الله تعالى أو مقدوراته، والمعنى لا أدعي أن هاتيك الخزائن مفوضة

صفحة رقم 146

إلي أتصرف فيها كيفما أشاء استقلالا أو استدعاء حتى تقترحوا علي تنزل الآيات أو إنزال العذاب أو قلب الجبال ذهبا أو غير ذلك مما لا يليق بشأني.
وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على محل عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فهو مقول أَقُولُ أيضا، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه يؤدي إلى أن يصير التقدير ولا أقول لكم لا أعلم الغيب وليس بصحيح. وأجيب بأن التقدير ولا أقول لكم أعلم الغيب بإضمار القول بين لا وأعلم لا بين الواو وَلا، وقيل: لا في- لا أعلم- مزيدة مؤكدة للنفي.
وقال أبو حيان: الظاهر أنه عطف على لا أَقُولُ لا معمول له فهو أمران يخبر عن نفسه بهذه الجمل فهي معمولة للأمر الذي هو قُلْ، وتعقب بأنه لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب وإنما الفائدة في الإخبار بأني لا أقول ذلك ليكون نفيا لادعاء الأمرين اللذين هما من خواص الإلهية ليكون المعنى إني لا أدعي الإلهية.
وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ولا أدعي الملكية، ويكون تكرير لا أَقُولُ إشارة إلى هذا المعنى. وقال بعض المحققين: إن مفهومي عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ. وإِنِّي مَلَكٌ لما كان حالهما معلوما عند الناس لم يكن حاجة إلى نفيهما وإنما الحاجة إلى نفي ادعائهما تبريا عن دعوى الباطل، ومفهوم إني لا أعلم الغيب لما لم يكن معلوما احتيج هنا إلى نفيه فدعوى أنه لا فائدة في الاخبار بذلك منظور فيها. والذي اختاره مولانا شيخ الإسلام القول الأول وأن المعنى ولا أدعي أيضا أني أعلم الغيب من أفعاله عز وجل حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت إنزال العذاب أو نحوهما.
وخص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغيب بعاقبة ما يصيرون إليه أي لا أدعي ذلك ولا أدعي أيضا الملكية حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في السماء ونحوه أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في أمري كما ينبىء عنه قولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ [الفرقان: ٧] يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وليس في الآية على هذا دليل على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما هو محل النزاع كما زعم الجبائي لأنها إنما وردت ردا على الكفار في قولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ إلخ وتكليفهم له عليهم الصلاة والسلام بنحو الرقي في السماء. ونحن لا ندعي تميز الأنبياء على الملائكة عليهم الصلاة والسلام في عدم الأكل مثلا والقدرة على الأفاعيل الخارقة كالرقي ونحوه ولا مساواتهم لهم في ذلك بل كون الملائكة متميزين عليهم عليهم الصلاة والسلام في ذلك مما أجمع عليه الموافق والمخالف ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل منهم بالمعنى المتنازع فيه وإلا لكان كثير من الحيوانات أفضل من الإنسان ولا يدعي ذلك إلا جماد.
وهذا الجواب أظهر مما نقل عن القاضي زكريا من أن هذا القول منه صلّى الله عليه وسلّم من باب التواضع وإظهار العبودية نظير
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تفضلوني على ابن متى»
في رأي بل هو ليس بشيء كما لا يخفى. وقيل: إن الأفضلية مبنية على زعم المخاطبين وهو من ضيق العطن، وقيل: حيث كان معنى الآية لا أدعي الألوهية ولا الملكية لا يكون فيها ترق من الأدنى إلى الأعلى بل هي حينئذ ظاهرة في التدلي، وبذلك تهدم قاعدة استدلال الزمخشري في قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء: ١٧٢] على تفضيل الملك على البشر إذ لا يتصور الترقي من الألوهية إلى ما هو أعلا منها إذ لا أعلا ليترقى إليه. وتعقب بأنه لا هدم لها مع إعادة لا أَقُولُ الذي جعله أمرا مستقلا كالإضراب إذ المعنى لا أدعي الألوهية بل ولا الملكية، ولذا كرر لا أقول.
وقال بعضهم في التفرقة بين المقامين: إن مقام نفي الاستنكاف ينبغي فيه أن يكون المتأخر أعلا لئلا يلغو ذكره، ومقام نفي الادعاء بالعكس فإن من لا يتجاسر على دعوى الملكية أولى أن لا يتجاسر على دعوى الألوهية الأشد

صفحة رقم 147

استبعادا، نعم في كون المراد من الأول نفي دعوى الألوهية والتبري منها نظر وإلا لقيل لا أقول لكم إني إله كما قيل وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وأيضا في الكناية عن الألوهية بعندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة، وإضافة الخزائن إليه تعالى منافية لها. ودفع المنافاة بأن دعوى الألوهية ليس دعوى أن يكون هو الله تعالى بل أن يكون شريكا له عز اسمه في الألوهية فيه نظر لأن إضافة الخزائن إليه تعالى اختصاصية فتنافي الشركة اللهم إلا أن يكون خزائن مثل خزائن أو تنسب إليه وهو كما ترى. ومن هنا قال شيخ الإسلام: إن جعل ذلك تبريا عن دعوى الألوهية مما لا وجه له قطعا.
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي من غير أن يكون لي مدخل ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء أو بوجه آخر من الوجوه أصلا. وحاصله أني عبد يمتثل أمر مولاه ويتبع ما أوحاه ولا أدعي شيئا من تلك الأشياء حتى تقترحوا علي ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك دليلا على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة. ولا يخفى أن هذا أبلغ من أني نبي أو رسول ولذا عدل إليه.
ولا دلالة فيه لنفاة القياس ولا لمانعي جواز اجتهاده عليه الصلاة والسلام كما لا يخفى. وذهب البعض إلى أن المقصود من هذا الرد على الكفرة كأنه قيل: إن هذه دعوى وليست مما يستبعد إنما المستبعد ادعاء البشر الألوهية أو الملكية ولست أدعيهما. وقد علمت آنفا ما في دعوى أن المقصود مما تقدم نفي ادعاء الألوهية والملكية قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي الضال والمهتدي على الإطلاق كما قال غير واحد.
والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق ومن يعلمها مع الإشعار بكمال ظهورها والتنفير عن الضلال والترغيب في الاهتداء، وتكرير الأمر لتثبيت التبكيت وتأكيد الإلزام أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه أو أتسمعونه فلا تتفكرون.
والاستفهام للتقرير والتوبيخ. والكلام داخل تحت الأمر. ومناط التوبيخ عدم الأمرين على الأول وعدم التفكر مع تحقق ما يوجبه على الثاني.
وذكر بعضهم أن في الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ثلاث احتمالات إما أن يكونا مثالا للضال والمهتدي أو مثالا للجاهل والعالم أو مثالا لمدعي المستحيل كالألوهية والملكية. ومدعي المستقيم كالنبوة. وإن المعنى لا يستوي هذان الصنفان أفلا تتفكرون في ذلك فتهتدوا أي فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه. والجملة تذييل لما مضى إما من أول السورة إلى هنا أو لقوله سبحانه إِنْ أَتَّبِعُ إلخ أو لقوله عز شأنه لا أَقُولُ. ورجح في الكشف الأول ثم الثاني ولا يخفى بعد هذا الترجيح. واعترض القول بإحالة الملكية بأنها من الممكنات لأن الجواهر متماثلة والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها.
وأجيب بعد تسليم ما فيه أن البشر حال كونه بشرا محال أن يكون ملكا لتمايزهما بالعوارض المتنافية- بلا خلاف. وإقدام آدم عليه الصلاة والسلام بعد سماع ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الأعراف: ٢٠] على الأكل ليس طمعا في الملكية حال البشرية على أنه يجوز أن يقال: إنه لم يطمع في الملكية أصلا وإنما طمع في الخلود فأكل وَأَنْذِرْ أي عظ وخوف يا محمد بِهِ أي بما يوحى أو بالقرآن كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والزجاج، وقيل: أي بالله تعالى. وروي ذلك عن الضحاك.
وهذا أمر منه سبحانه وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما حكى سبحانه وتعالى له أن من الكفرة من لا يتعظ ولا يتأثر قد التحق بالأموات وانتظم في سلك الجمادات فما ينجع فيه دواء الإنذار ولا يفيده العظة والتذكار إذ ينذر من يتوقع في

صفحة رقم 148

الجملة منهم الانتفاع ويرجى منهم القبول والسماع وهم المشار إليهم بقوله سبحانه: الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ فالمراد من الموصول المجوزون للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخرين أو المترددين فيهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديثه يخافون أن يكون حقا، وأما المنكرون للحشر رأسا. والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم كذا قال شيخ الإسلام.
وروي عن ابن عباس، والحسن رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموصول المؤمنون.
وارتضاه غير واحد إلا أنهم قيدوا بالمفرطين لأنه المناسب للإنذار ورجاء التقوى. وتعقبه الشيخ بأنه مما لا يساعده السباق ولا السياق بل فيه ما يقضي بعدم صحته وبينه بما سيذكر قريبا إن شاء الله تعالى، وقيل: المراد المؤمنون والكافرون. وعلله الإمام الرازي بأنه لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر سواء قطع بحصوله أو كان شاكا فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة فكان هذا الخوف قائما في حق الكل وبأنه عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إلى الكل فكان مأمورا بالتبليغ إليه ولا يخفى ما فيه، والمفعول الثاني للإنذار إما العذاب الأخروي المدلول عليه بما في حيز الصلة، وإما مطلق العذاب الذي ورد به الوعيد. والتعرض لعنوان الربوبية بتحقيق المخافة إما باعتبار أن التربية المفهومة منها مقتضية خلاف ما خافوا لأجله الحشر. وإما باعتبار أنها منبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي كما قيل. والمراد من الحشر إليه سبحانه الحشر إلى المكان الذي جعله عز وجل محلا لاجتماعهم وللقضاء عليهم فلا تصلح الآية دليلا للمجسمة.
وقوله سبحانه: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ في حيز النصب على الحالية من ضمير يُحْشَرُوا والعامل فيه فعله. ونقل الإمام عن الزجاج أنه حال من ضمير يَخافُونَ والأول أولى. ومِنْ دُونِهِ متعلق بمحذوف وقع حالا من اسم ليس لأنه في الأصل صفة له فلما قدم عليه انتصب على الحالية، والحال الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيق أن ما نيط به الخوف تلك الحالة لا الحشر كيفما كان ضرورة أن المعترفين به الجازمين بنصرة غيره تعالى بمنزلة المنكرين له في عدم الخوف الذي يدور عليه أمر الإنذار والحال الثانية لتحقيق مدار خوفهم وهو فقدان ما علقوا به رجاءهم وذلك إنما هو غيره سبحانه كما في قوله جل شأنه: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ [الأحقاف: ٣٢] وليست لإخراج الولي الذي لم يقيد بها عن حيز الانتفاء لاستلزامه ثبوت ولايته تعالى لهم كما في قوله سبحانه: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة: ١٠٧] وذلك فاسد. والمعنى أنذر به الذين يخافون حشرهم غير منصورين من جهة أنصارهم بزعمهم قاله شيخ الإسلام، ثم قال: ومن هذا اتضح أن لا سبيل إلى كون المراد بالخائفين المفرطين من المؤمنين إذ ليس لهم ولي ولا شفيع سواه عز وجل ليخافوا الحشر بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته سبحانه انتهى. وهو تحقيق لم أره لغيره ويصغر لديه ما في التفسير الكبير، ولعل ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم لم يثبت عنهما فتدبر.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو على هذا تعليل للأمر بالإنذار، وجوز أن يكون حالا عن ضمير الأمر أي أنذرهم راجيا تقواهم أو من الموصول أي أنذرهم مرجوا منهم التقوى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ.
لما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإنذار المذكورين لعلهم ينتظمون في سلك المتقين نهى عليه الصلاة والسلام عن كون ذلك

صفحة رقم 149

بحيث يؤدي إلى طردهم ويفهم من بعض الروايات أن الآيتين نزلتا معا ولا يفهم ذلك من البعض الآخر،
فقد أخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «مر الملأ من قريش على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك أهؤلاء منّ الله تعالى عليهم من بيننا أنحن نكون تبعا لهؤلاء اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فأنزل الله تعالى فيهم القرآن وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، وغيرهم عن خباب رضي الله تعالى عنه قال: جاء الأقرع ابن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا النبي صلّى الله عليه وسلّم قاعدا مع بلال، وصهيب، وعمار، وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب له فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال: نعم قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابا فدعا بالصحيفة ودعا عليا كرم الله تعالى وجهه ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرائيل بهذه الآية وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ إلخ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: «سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة»
فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف: ٢٨] إلخ فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم،
وأخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة قال: مشى عتبة وشيبة ابنا ربيعة وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم: وما يصيرون إليه من أمرهم فأنزل الله سبحانه: وَأَنْذِرْ بِهِ إلى قوله سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وكانوا بلالا، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيحا مولى أسيد، والحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، ومرثد بن أبي مرثد، وأشباههم، ونزل في أئمة الكفر من قريش، والموالي، والحلفاء وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية فلما نزلت أقبل عمر رضي الله تعالى عنه فاعتذر من مقالته فأنزل الله تعالى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا الآية.
والغداة أصله غدوة قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأصل العشي عشوى قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وفاء بالقاعدة، والظاهر أنه مفرد كالعشية وجمعه عشايا وعشيات، وقيل: هو جمع عشية وفيه بعد، ومعنى الأول لغة البكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، ومعنى الثاني آخر النهار، والمراد بهما هاهنا الدوام كما يقال فعله مساء وصباحا إذا داوم عليه، والمراد بالدعاء حقيقته أو الصلاة أو الذكر أو قراءة القرآن أقوال.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنهما عبارة عن صلاتي الصبح والعصر لأن الزمان كثيرا ما يذكر ويراد به ما يقع فيه كما يقال صلى الصبح والمراد صلاته وقد يعكس فيراد بالصلاة زمانها نحو قربت الصلاة أي وقتها، وقد يراد بها مكانها كما قيل في قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣] أن المراد بالصلاة المساجد، وخصا بالذكر لشرفهما. والأقوال في الدعاء جارية على هذا القول خلا الثاني، وقرأ ابن عامر هنا وفي الكهف «الغدوة» بالواو وهي قراءة الحسن، ومالك بن دينار، وأبي رجاء العطاردي، وغيرهم، وزعم أبو عبيد أن من قرأ بالواو فقد أخطأ لأن غدوة علم جنس لا تدخله الألف واللام، ومنشأ خطئه أنه اتبع رسم الخط لأن الغداة تكتب بالواو

صفحة رقم 150

كالصلاة والزكاة وقد أخطأ في هذه التخطئة لأن غدوة وإن كان المعروف فيها ما ذكره لكن قد سمع مجيئها اسم جنس أيضا منكرا مصروفا فتدخلها أل حينئذ، وقد نقل ذلك سيبويه عن الخليل، وتصديره بالزعم لا يدل على ضعفه كما يشير إليه كلام الإمام النووي في شرح مسلم وذكره جم غفير من أهل اللغة.
وذكر المبرد أيضا عن العرب تنكير غدوة وصرفها وإدخال اللام عليها إذا لم يرد بها غدوة يوم بعينه والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكفى بوروده في القراءة المتواترة حجة فلا حاجة- كما قيل- إلى التزام أنها علم لكنها نكرت فدخلتها أل لأن تنكير العلم وإدخال أل عليه أقل قليل في كلامهم بل إن تنكير علم الجنس لم يعهد ولا إلى التزام أنها معرفة ودخلتها اللام لمشاكلة العشي كما دخلت على يزيد لمشاكلة الوليد في قوله:

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كاهله
لأن هذا النوع من المشاكلة وهو المشاكلة الحقيقية قليل أيضا، والكثير في المشاكلة المجاز ولا دلالة في الآية على أنه صلّى الله عليه وسلّم وقع منه الطرد ليخدش وجه العصمة، والذي تحكيه الآثار أنه عليه الصلاة والسلام هم أن يجعل لأولئك الداعين المتقين وقتا خاصا ولأشراف قريش وقتا آخر ليتألفوا فيقودهم إلى الإيمان وأولئك رضي الله تعالى عنهم يعلمون ما قصد صلّى الله عليه وسلّم فلا يحصل لهم إهانة وانكسار قلب منه عليه الصلاة والسلام.
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ في موضع الحال من ضمير يَدْعُونَ. وفي المراد بالوجه عند المؤولين خلاف فقيل- وهو المشهور- إنه الذات أي مريدين ذاته تعالى، ومعنى إرادة الذات على ما قيل الإخلاص لها بناء على استحالة كون الله تعالى مرادا لذاته سبحانه وتعالى لأن الإرادة صفة لا تتعلق إلا بالممكنات لأنها تقتضي ترجيح أحد طرفي المراد على الآخر وذلك لا يعقل إلا فيها أي يدعون ربهم مخلصين له سبحانه فيه، وقيد بذلك لتأكيد عليته للنهي فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد، وقيل: المراد به الجهة والطريق، والمعنى مريدين الطريق الذي أمرهم جل شأنه بإرادته وهو الذي يقتضيه كلام الزجاج، وقيل: إنه كناية عن المحبة وطلب الرضا لأن من أحب ذاتا أحب أن يرى وجهه فرؤية الوجه من لوازم المحبة فلهذا جعل كناية عنها قاله الإمام وهو كما ترى.
وجوز أيضا أن يكون ذكر الوجه للتعظيم كما يقال: هذا وجه الرأي وهذا وجهه الدليل، والمعنى يريدونه ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ضمير الجمع للموصول السابق كما روي عن عطاء وغالب المفسرين.
وجوز في ما أن تكون تميمية وحجازية. وفي شَيْءٍ أن يكون فاعل الظرف المعتمد على النفي ومِنْ حِسابِهِمْ وصف له قدم فصار حالا، وأن يكون في موضع رفع بالابتداء والظرف متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما له و «من» زائدة للاستغراق، وكلام الزمخشري يشير إلى اختياره، والجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريرا له ودفعا لما عسى أن يتوهم كونه مسوغا لطرد المتقين من أقاويل الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود: ٢٧]، والمعنى ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطلة كما يقوله المشركون حتى تتصدى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتك حسبما هو شأن منصب الرسالة النظر إلى ظواهر الأمور وإجراء الأحكام على موجبها وتفويض البواطن وحسابها إلى اللطيف الخبير، وظواهر هؤلاء دعاء ربهم بالغداة والعشي وروي عن ابن زيد أن المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم أي من فقرهم، والمراد لا يضرك فقرهم شيئا ليصح لك الإقدام على ما أراده المشركون منك فيهم.
وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ عطف على ما قبله، وجيء به مع أن الجواب قد تم بذلك مبالغة في بيان كون انتفاء حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا وهو انتفاء كون حسابه صلّى الله عليه وسلّم

صفحة رقم 151

عليهم فهو على طريقة قوله سبحانه: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: ٣٤] في رأي.
وقال الزمخشري: إن الجملتين في معنى جملة واحدة تؤدي مؤدى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤] كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، وحينئذ لا بد من الجملتين، وتعقب بأنه غير حقيق بجلالة التنزيل وتقديم خطابه صلّى الله عليه وسلّم في الموضعين- قيل- للتشريف له عليه أشرف الصلاة وأفضل السلام وإلا كان الظاهر وما عليهم من حسابك من شيء بتقديم على ومجرورها كما في الأول، وقيل: إن تقديم عليك في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلّى الله عليه وسلّم إذ هو الداعي إلى تصديه عليه الصلاة والسلام لحسابهم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن ضمير الجمع للمشركين وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى أنك لا تؤاخذ بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، والضمير في قوله سبحانه فَتَطْرُدَهُمْ للمؤمنين على كل حال، والفعل منصوب على أنه جواب النفي، والمراد انتفاء الطرد لا انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام ضرورة انتفاء المسبب لانتفاء سببه كأنه قيل: ما يكون منك ذلك فكيف يقع منك طرد وهو أحد معنيين في مثل هذا التركيب يمتنع ثانيهما هنا، وقوله تعالى: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب للنهي، وجوز الإمام والزمخشري أن يكون عطفا على فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبب لأن الكون ظالما معلول طردهم وسبب له. واعترض بأن الاشتراك في النصب بالعطف يقتضي الاشتراك في سبب النصب وهو توقف الثاني على الأول بحيث يلزم من انتفاء الأول انتفاؤه والكون من الظالمين منتف سواء لوحظ ابتداء أو بعد ترتبه على الطرد وجعله مترتبا على الطرد بلا اعتبار كونه مترتبا على المنفي ومنتفيا بانتفائه يفوت وجود سببية العطف. وأجيب بأن الظلم بالطرد يتوقف انتفاؤه على انتفاء الطرد كما لا يتوقف وجوده على وجوده وانتفاء الطرد متوقف على انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام فانتفاء الظلم بالطرد يتوقف على ذلك أيضا فيلزم من الانتفاء الانتفاء ويتحقق الاشتراك في سبب النصب وهو ظاهر وإنكاره مكابرة. واعترض أيضا بأن العطف مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض الحساب إليه صلّى الله عليه وسلّم فيفهم منه أنه لو كان حسابهم عليه صلّى الله عليه وسلّم وطردهم لكان ظلما وليس كذلك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وأجيب بأنه على حد- نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه-. وفي الكشف في بيان مراد صاحب الكشاف أنه أراد أن الطرد سبب للظلم فقيل: ما عليك من حسابهم لتطردهم فتظلم به ويفهم منه أنه لو كان عليه حسابهم لم يكن طرده إياهم ظلما وذلك لأن الطرد جعل سببا للظلم على تقدير أن لا يملك حسابهم وعليه لا حاجة إلى جعله على حد- نعم العبد- إلخ بل هو خروج عن الحد، وجوز بعضهم أن يكون الأول جوابا للنهي كما جاز أن يكون جوابا للنفي، ونقل عن الدر المصون وقال: الكلام عليه بحسب الظاهر ولا تطردهم فتطردهم وهو كما ترى، وجعل بعضهم اجتماع ذينك النفيين السابقين على هذا الجواب من قبيل التنازع خلا أنه لا يمكن كون الجواب للثاني بوجه أصلا إذ يلزم المعنى حينئذ أنه لو كان عليهم شيء من حسابه عليه الصلاة والسلام كان طرده إياهم حسنا وهو خلف لا يجوز حمل القرآن عليه وليس في هذا خروج عن مختار البصريين لأعمال الثاني لأن شرطه عندهم أن يكون المعنى مستقيما فيهما فإن لم يستقم أعمل الأول اتفاقا كما في قوله:

ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال
وأنت إذا علمت أن الجملة الثانية لماذا أتى بها علمت ما في هذا الكلام فافهم وأيّا ما كان فالمراد فتكون من

صفحة رقم 152

الظالمين لأنفسهم أو لأولئك المؤمنين أو فتكون ممن اتصف بصفة الظلم وَكَذلِكَ فَتَنَّا أي ابتلينا واختبرنا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ والمراد عاملناهم معاملة المختبر وذلك إشارة إلى الفتن المذكور في النظم الكريم، وعبر عنه بذلك إيذانا بتفخيمه كقولك: ضربت ذلك الضرب. والكاف مقحمة بمعنى أن التشبيه غير مقصود منها بل المقصود لازمه الكنائي أو المجازي وهو التحقق والتقرر وهو إقحام مطرد وليست زائدة كما توهم. والمعنى مثل ذلك الفتن العظيم البديع فتنا بعض الناس ببعضهم حيث قدمنا الآخرين في أمر الدين على الأولين المتقدمين عليهم في أمر الدنيا، ويؤول إلى أن هذا الأمر العظيم متحقق منا. ومن ظن أن التشبيه هو المقصود لم يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور لما يلزمه من تشبيه الشيء بنفسه. وتكلف لوجه التشبيه والمغايرة بجعل المشبه به الأمر المقرر في العقول والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي، وقيل: المراد مثل ما فتنا الكفار بحسب غناهم وفقر المؤمنين حتى أهانوهم لاختلافهم في الأسباب الدنيوية فتناهم بحسب سبق المؤمنين إلى الإيمان وتخلفهم عنه حتى حسدوهم وقالوا ما قالوا لاختلاف أديانهم، ولا يخفى أن الأول أدق نظرا وأعلى كعبا وقد سلف بعض الكلام على ذلك لِيَقُولُوا أي البعض الأولون مشيرين إلى الآخرين محقرين لهم أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأن وفقهم لإصابة الحق والفوز بما يسعدهم عنده سبحانه مِنْ بَيْنِنا أي من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء وغرضهم بذلك إنكار المن رأسا على حد قولهم: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: ١١] لا تحقير الممنون عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراض عليه سبحانه، وذكر الإمام أنه سبحانه وتعالى بين في هذه الآية أن كلّا من الفريقين المؤمنين والكفار مبتلى بصاحبه فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كونهم سابقين في الإسلام متسارعين إلى قبوله فقالوا: لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء وكان ذلك يشق عليهم. ونظيره قوله تعالى: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر: ٢٥] ولَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحة والمسرة والخصب والسعة فكانوا يقولون: كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار مع أنا في الشدة والضيق والقلة، وأما المحققون المحقون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه إما بحكم المالكية كما نقول أو بحسب المصلحة كما يقول المعتزلة انتهى. وفيه نظر لأن صدر كلامه صريح في أن الكفار معترفون بوقوع المن للمشار إليهم حاسدون لهم على وقوعه وهو مناف لتنظيره بقولهم: لَوْ كانَ خَيْراً إلخ. وأيضا كلامه كالصريح في أن فقراء المؤمنين حسدوا الكفار على دنياهم واعترضوا على الله سبحانه بالترفيه على أعدائه والتضييق على أحبائه وذلك مما يجل عنه أدنى المؤمنين فكيف أولئك الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأيضا مقابلة فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالمحققين المحقين يدل على أنهم وحاشاهم لم يكونوا كذلك وهو بديهي البطلان عند المحققين المحقين فتدبر.
واللام ظاهرة في التعليل وهي متعلقة بفتنا وما بعدها علة له. والسلف- كما قال شيخنا إبراهيم الكوراني وقاضي القضاة تقي الدين محمد التنوخي. وغيرهما- على إثبات العلة لأفعاله تعالى استدلالا بنحو عشرة آلاف دليل على ذلك. واحتج النافون لذلك بوجوه ردها الثاني في المحتبر، وذكر الأول في مسلك السداد ما يعلم منه ردها، وهذا بحث قد فرغ منه وطوي بساطه، وقال غير واحد: هي لام العاقبة، ونقل عن شرح المقاصد ما يأبى ذلك وهو أن لام العاقبة إنما تكون فيما لا يكون للفاعل شعور بالترتب وقت الفعل أو قبله فيفعل لغرض ولا يحصل له ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفعل لذلك الغرض الفاسد تنبيها على خطئه ولا يتصور هذا في كلام علام الغيوب بالنظر إلى أفعاله وإن وقع فيه بالنظر إلى فعل غيره سبحانه كقوله عز وجل: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إذ ترتب

صفحة رقم 153

فوائد أفعاله تعالى عليها مبنية على العلم التام، نعم إن ابن هشام وكثيرا من النحاة لم يعتبروا هذا القيد، وقالوا: إنها لام تدل على الصيرورة والمآل مطلقا فيجوز أن تقع في كلامه تعالى حينئذ على وجه لا فساد فيه. ومن الناس من قال: إنها للتعليل مقابلا به احتمال العاقبة على أن فَتَنَّا متضمن معنى خذلنا أو على أن الفتن مراد به الخذلان من إطلاق المسبب على السبب.
واعترض بأن التعليل هنا ليس بمعناه الحقيقي بناء على أن أفعاله تعالى منزهة عن العلل فيكون مجازا عن مجرد الترتب وهو في الحقيقة معنى لام العاقبة فلا وجه للمقابلة. وأجيب بأنهما مختلفان بالاعتبار فإن اعتبر تشبيه الترتب بالتعليل كانت لام تعليل وإن لم يعتبر كانت لام عاقبة، واعترض بأن العاقبة أيضا استعارة فلا يتم هذا الفرق إلا على القول بأنه معنى حقيقي وعلى خلافه يحتاج إلى فرق آخر، وقد يقال: في الفرق أن في التعليل المقابل للعاقبة سببية واقتضاء وفي العاقبة مجرد ترتب وإفضاء وفي التعليل الحقيقي يعتبر البعث على الفعل وهذا هو مراد من قال: إن أفعال الله تعالى لا تعلل: وحينئذ يصح أن يقال: إن اللام على تقدير تضمين فَتَنَّا معنى خذلنا أو أن الفتن مراد به الخذلان للتعليل مجازا لأن هناك تسببا واقتضاء فقد من دون بعث، وعلى تقدير عدم القول بالتضمين وإبقاء اللفظ على المتبادر منه هي لام العاقبة وهو تعليل مجازي أيضا لكن ليس فيه إلا التأدي فإن ابتلاء بعضهم ببعض مؤد للحسد وهو مؤد إلى القول المذكور وليس هناك تسبب ولا بعث أصلا. والحاصل أن كلّا من العاقبة والتعليل المقابل لها مجاز عن التعليل الحقيقي إلا أن التعليل المقابل أقرب إليه من العاقبة ومنشأ الأقربية هو الفارق، والبحث بعد محتاج إلى تأمل فتأمل وإذا فتح لك فاشكر الله سبحانه.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ رد لقولهم ذلك وإشارة إلى أن مدار استحقاق ذلك الأنعام معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم. والاستفهام للتقرير بعلمه البالغ بذلك، والباء الأولى سيف خطيب والثانية متعلقة بأعلم ويكفي أفعل العمل في مثله. وفي الدر المصون العلم يتعدى بالباء لتضمنه معنى الإحاطة وهو كثير في كلام الناس نحو علم بكذا وله علم به، والمعنى أليس الله تعالى عالما على أتم وجه محيطا علمه بالشاكرين لنعمه حتى يستبعدوا أنعامه عز وجل عليهم، وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى عليهم من التوفيق للإيمان والسبق إليه وغير ذلك شاكرون عليه مع التعريض بأن القائلين في مهامه الضلال بمعزل عن ذلك كله ما لا يخفى.
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا هم كما روي عن عكرمة الذين نهى صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم، والمراد بالآيات الآيات القرآنية أو الحجج مطلقا، وجوز في الباء أن تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به بسبب نزول الآيات أو النظر فيها والاستدلال بها. وفي وصف أولئك الكرام بالإيمان بعد وصفهم بما وصفهم سبحانه به تنبيه على حيازتهم لفضيلتي العلم والعمل، وتأخير هذا الوصف مع أنه كالمنشأ للوصف السابق لما أن مدار الوعد بالرحمة هو الإيمان كما أن مناط النهي عن الطرد فما سبق هو المداومة على العبادة، وتقدم في رواية ابن المنذر عن عكرمة ما يشير إلى أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأمر صيغة الجمع على هذا ظاهر.
وأخرج عبد بن حميد، ومسدد في مسنده، وابن جرير، وآخرون عن ماهان قال: أتى قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليه الصلاة والسلام عليهم شيئا فانصرفوا فأنزل الله تعالى الآية فدعاهم صلّى الله عليه وسلّم فقرأها عليهم.
وروي عن أنس مثل ذلك،
وقيل: لم تنزل في قوم بأعيانهم بل هي محمولة على إطلاقها واختاره الإمام. والمشهور الأول وسياق الآية يرجح ما روي عن ماهان.

صفحة رقم 154

فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أمر منه تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يبدأهم بالسلام في محل لا ابتداء به فيه إكراما لهم بخصوصهم كما روي عن عكرمة، واختاره الجبائي، وقيل: أمره سبحانه أن يبلغهم تحيته عز شأنه وروي ذلك عن الحسن، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى اقبل عذرهم واعترافهم وبشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه.
وعليه لا يكون السلام بمعنى التحية وهو أيضا مبني على سبب النزول عنده رضي الله تعالى عنه، واختار بعضهم أنه بهذا المعنى أيضا على تقدير أن يراد بالموصول ما روي عن عكرمة فيكون الكلام أمرا له عليه الصلاة والسلام أن يبشرهم بالسلام من كل مكروه بعد إنذار مقابليهم.
وقوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجبها على ذاته المقدسة تفضلا وإحسانا بالذات لا بتوسط شيء. أصلا وفيه احتمال آخر تقدم تبشير لهم بسعة رحمة الله تعالى. ولم يعطف على جملة السلام مع أنه محكي بالقول أيضا قيل لأنها دعائية إنشائية، وقيل: إشارة إلى استقلال كل من مضموني الجملتين وهما السلامة من المكاره ونيل المطالب بالبشارة. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار للطف بهم وإشعار بعلة الحكم. وتمام الكلام في الآية قد مر عن قريب. وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بفتح الهمزة كما قرأ بذلك نافع، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب بدل من الرَّحْمَةَ كما قال أبو علي الفارسي وغيره. وقيل: إنه مفعول كَتَبَ والرحمة مفعول له، وقيل: إنه على تقدير اللام، وجوز أبو البقاء أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عليه سبحانه أنه إلخ ودل على ذلك ما قبله. وقرأ الباقون «إنه» بالكسر على الاستئناف النحوي أو البياني كأنه قيل: وما هذه الرحمة؟ والضمير للشأن. ومن موصولة أو شرطية وموضعها مبتدأ ومِنْكُمْ في موضع الحال من ضمير الفاعل. وقوله سبحانه: بِجَهالَةٍ حال أيضا على الأظهر أي من عمل ذنبا وهو جاهل أي فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل الجهل والسفه لا من أهل الحكمة والتدبير أو جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة.
وعن الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل ثُمَّ تابَ عن ذلك مِنْ بَعْدِهِ أي العمل أو السوء وَأَصْلَحَ أي في توبته بأن أتى بشروطها من التدارك والعزم على عدم العود أبدا فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فشأنه سبحانه وأمره مبالغ في المغفرة والرحمة له. فإن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، والجملة خبر مَنْ أو جواب الشرط، والخبر حينئذ على الخلاف، وقدر بعضهم فله أنه إلخ أو فعلية إنه إلخ، وحينئذ يجوز الرفع على الابتداء والرفع على الفاعلية، وقيل: إن المنسبك في موضع نصب بفعل محذوف أي فليعلم أنه إلخ، وقيل: إن هذا تكرير لما تقدم لبعد العهد، وقيل: بدل منه، قال أبو البقاء: وكلاهما ضعيف لوجهين الأول أن البدل لا يصحبه حرف معنى إلا أن يجعل الفاء زائدة وهو ضعيف، والثاني أن ذلك يؤدي إلى أن لا يبقى لمن خبر ولا جواب على تقدير شرطيتها، والتزام الحذف بعيد، وفتح الهمزة هنا قراءة من فتح هناك سوى نافع فإنه كباقي القراء قرأ بالكسر.
وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية، وهي قراءة الأعرج، والزهري، وأبي عمرو الداني، ولم يطلع- على ما قيل- أبو شامة عليه الرحمة على ذلك فقال: إنه محتمل أعرابي وإن لم يقرأ به، وليس كما قال: ومن الناس من قال: إن هذه الآية تقوي مذهب المعتزلة حيث ذكر سبحانه في بيان سعة رحمته أن عمل السوء إذ قارن الجهل والتوبة والإصلاح فإنه يغفر، ولذا قيل: إنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو أجبتهم لما قالوا لعل الله تعالى يأتي بهم ولم يكن يعلم المضرة ثم إنه تاب وأصلح حتى أنه بكى وقال معتذرا: ما أردت إلا خيرا. وأورد

صفحة رقم 155

عليه أنه من المقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزولها في حق عمر رضي الله تعالى عنه لا يدفع الإشكال.
وتعقب بأن مراد المجيب أن اللفظ ليس عاما وخطاب مِنْكُمْ لمن كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله تعالى عنه فلا إشكال. وأنت تعلم أن بناء الجواب على هذه الرواية ليس من المتانة بمكان إذ للخصم أن يقول: لا نسلم تلك الرواية. فلعل الأولى في الجواب أن ما ذكر في الآية إنما هو المغفرة الواجبة حسب وجوب الرحمة في صدر الآية. ولا يلزم من تقييد ذلك بما تقدم تقييد مطلق المغفرة به. فحينئذ يمكن أن يقال: إنه تعالى قد يغفر لمن لم يتب مثلا إلا أنه سبحانه لم يكتب ذلك على نفسه جل شأنه فافهمه فإنه دقيق.
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ أي دائما الْآياتِ أي القرآنية في صفة أهل الطاعة وأهل الإجرام المصرين منهم والأوابين. والتشبيه هنا مثله فيما تقدم آنفا وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل.
وهي قراءة ابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور لم يقصد تعليله بها بخصوصها، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر أو علة لفعل مقدر وهو عبارة عن المذكور كما يشير إليه أبو البقاء فيكون مستأنفا أي ولتتبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل. وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أن الفعل متعد أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم. وقرأ الباقون بالياء التحتية ورفع السبيل على أن الفعل مسند للمذكر. وتأنيث السبيل وتذكيره لغتان مشهورتان.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قال ابن عطاء: أخبر سبحانه بهذه الآية أن أهل السماع هم الأحياء وهم أهل الخطاب والجواب. وأخبر أن الآخرين هم الأموات. وقال غيره: المعنى أنه لا يستجيب إلا من فتح الله سبحانه سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفاء الاستعداد ونور الفطرة لا موتى الجهل الذين ماتت غرائزهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فإنهم قد صموا عن السماع ولا يمكنهم ذلك بل يبعثهم الله تعالى إليه بالنشأة الثانية ثم يرجعون إليه سبحانه في عين الجمع المطلق للجزاء والمكافأة مع احتجابهم، وقيل: الآية إشارة إلى أهل الصحو وأهل المحو وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ حيث فطروا على التوحيد وجبلوا على المعرفة ولهم مشارب من بحر خطاب الله تعالى وأفنان من أشجار رياض كلماته سبحانه وحنين إليه عز وجل وتغريد باسمه عز اسمه. قيل: إن سمنون المحب كان إذا تكلم في المحبة يسقط الطير من الهواء.
وروي في بعض الآثار أن الضب بعد أن تكلم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهد برسالته أنشأ يقول:

ألا يا رسول الله إنك صادق فبوركت مهديا وبوركت هاديا
وبوركت في الآزال حيا وميتا وبوركت مولودا وبوركت ناشيا
وإن فيهم أيضا المحتجبين ومرتكبي الرذائل وغير ذلك. وقد تقدم الكلام في هذا المبحث مفصلا ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ أي كتاب أعمالهم مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ في عين الجمع وَالَّذِينَ كَذَّبُوا لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم بِآياتِنا وهي تجليات الصفات صُمٌّ فلا يسمعون بآذان القلوب وَبُكْمٌ فلا ينطقون بألسنة العقول فِي الظُّلُماتِ وهي ظلمات الطبيعة وغياهب الجهل مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ

صفحة رقم 156

بإسبال حجب جلاله وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بإشراق سبحات جماله قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ من المرض وسائر أنواع الشدائد أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ الصغرى أو الكبرى أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ لكشف ما ينالكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ لكشف ذلك. قال بعض العارفين مرجع الخواص إلى الحق جل شأنه من أول البداية ومرجع العوام إليه سبحانه بعد اليأس من الخلق وكان هذا في وقت هذا العارف. وأما في وقتنا فنرى العامة إذا ضاق بهم الخناق تركوا دعاء الملك الخلاق ودعوا سكان الثرى ومن لا يسمع ولا يرى. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي ليطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عند تجلي صفة القهر وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشي الهوى وحب الدنيا وأصل كل ذلك سوء الاستعداد قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ فلم تسمعوا خطابه وَأَبْصارَكُمْ فلم تشاهدوا عجائب قدرته وأسرار صنعته وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ فلم يدخلها شيء من معرفته سبحانه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي هل يقدر أحد سواه جلت قدرته على فتح باب من هذه الأبواب كلا بل هو القادر الفعال لما يريد قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي أي من حيث أنا خَزائِنُ اللَّهِ أي مقدوراته وَلا أَعْلَمُ
أي من حيث أنا أيضا الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أي روح مجرد لا أحتاج إلى طعام ولا شراب إِنْ أَتَّبِعُ أي من تلك الحيثية إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من الله تعالى. وله صلّى الله عليه وسلّم مقام وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. وإِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الأنفال: ١٧] وليس لطير العقل طيران في ذلك الجو قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى عن نور الله تعالى وإحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى وظهوره بما شاء حسب الحكمة وعدم تقيده سبحانه بشيء من المظاهر وَالْبَصِيرُ بذلك فيتكلم في كل مقام بمقال وَلا تَطْرُدِ أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال بِالْغَداةِ أي وقت تجلي الجمال وَالْعَشِيِّ أي وقت تجلي العظمة والجلال يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدونه سبحانه بذاته وصفاته ويطلبون تجليه عز وجل لقلوبهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ أي حساب أعمالهم القلبية من شيء لأن الله تعالى قد تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقول تعالى: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ عطف على سابقه أتى به للمبالغة على ما مر في العبارة. ويحتمل أن يراد لا تطرد السالكين لأجل المحجوبين فما عليك من حساب السالكين أو المحجوبين شيء ومعنى ذلك يعرف بأدنى التفات فَتَطْرُدَهُمْ عن الجلوس معك فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعاية شأنهم. ومن المؤولين من قال: إن الآية في أهل الوحدة أي لا تزجر الواصلين الكاملين ولا تنذرهم فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينجع في الذين طاشوا وتلاشوا في الله تعالى وهم الذين يخصونه سبحانه بالعبادة دائما بحضور القلب وعدم مشاهدة شيء سواه حتى ذواتهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ فيما يعملون مِنْ شَيْءٍ إذ لا واسطة بينهم وبين ربهم وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة لاشتغالهم به سبحانه عمن سواه ودوام حضورهم معه فَتَطْرُدَهُمْ عما هم عليه من دوام الحضور بدعوتك لهم لشغل ديني فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لتشويشك عليهم أوقاتهم. والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ أي الناس وهم المحجوبون بِبَعْضٍ وهم العارفون لِيَقُولُوا أي المحجوبون مشيرين إلى العارفين مستحقرين لهم حيث لم يروا منهم سوى حالهم في الظاهر وفقرهم ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن وغرهم ما
هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهداية والمعرفة مِنْ بَيْنِنا أرادوا أنه سبحانه لم يمن عليهم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أي الذين يشكرونه حق شكره فيمن عليهم بعظيم جوده.

صفحة رقم 157

وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا أي بواسطتها فَقُلْ لهم أنت أيها الوسيلة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] وباقي الآية ظاهر.
وقال الإمام الرازي: إن قوله سبحانه: وَإِذا جاءَكَ إلخ مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه وآيات وحدانيته وما سواه سبحانه لا نهاية له فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار. ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات. وهذا شرح إجمالي لا نهاية لتفاصيله.
ثم إن العبد إذا صار موصوفا بهذه الصفة فعند هذا أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة: وقوله سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة. أما السلامة فبالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغيرات والتبدلات، وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال انتهى.
وقال آخر: الإشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا بمحو صفاتهم في صفاتنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي ألزم ذاته المقدسة رحمة إبدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفا عن كل ما فات أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ أي ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى الحضور وَأَصْلَحَ أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه سبحانه والرياضة فَأَنَّهُ عز شأنه غَفُورٌ يسترها عنه رَحِيمٌ يرحمه بهبة التمكين ونعمة الاستقامة وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل ذلك التبيين الذي بيناه لهؤلاء المؤمنين نبين لك صفاتنا وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ وهم المحجوبون بصفاتهم الذين يفعلون لذلك ما يفعلون. والله تعالى الموفق للصواب.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أمر له صلّى الله عليه وسلّم بالرجوع إلى خطاب المصرين على الشرك إثر ما أمر بمعاملة من عداهم بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعا لأطماعهم الفارغة عن ركونك إليهم وبيانا لكون ما هم عليه هوى محضا وضلالا صرفا إني صرفت ومنعت بالأدلة الحقانية والآيات القرآنية أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ أي عن عبادة الآلهة الذين تَدْعُونَ أي تعبدونهم أو تسمونهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ سواء كانوا ذوي عقول أم لا.

صفحة رقم 159

وقد يقال: إن المراد بهم الأصنام إلا أنه عبر بصيغة العقلاء جريا على زعمهم قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ تكرير الأمر مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به وإيذانا باختلاف القولين من حيث إن الأول حكاية لما مر من جهته تعالى من النهي والثاني لما من جهته عليه الصلاة والسلام من الانتهاء عن عبادة ما يعبدون. وفي هذا القول استجهال لهم وتنصيص على أنهم فيما هم فيه من عبادة غير الله تعالى تابعون لأهواء باطلة وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلا وإشعار بما يوجب النهي والانتهاء. وفيه- كما قيل- إشارة إلى عدم كفاية التقليد الصرف في مثل هذه المطالب، وقيل وهو في غاية البعد: إن المراد لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وهو استئناف مؤكد لانتهائه عليه الصلاة والسلام عما نهي عنه مقرر لكونه في غاية الضلال.
وقرأ يحيى بن وثاب «ضللت» بكسر اللام وهو لغة فيه، والفتح كما قال أبو عبيدة- هو الغالب-.
وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ عطف على ما قبله، والعدول إلى الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوام النفي واستمراره لا نفي الدوام والاستمرار، والمراد- كما قيل-، وما أنا إذا في شيء من الهدى حتى أعد في عدادهم، وفيه تعريض بأن المقول لهم كذلك قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ تبيين للحق الذي عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبيان لاتباعه إياه إثر إبطال الباطل الذي فيه الكفرة وبيان عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام له في وقت من الأوقات. والبينة- كما قال الراغب- الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أي الانفصال، وأيا ما كان فالمراد بها القرآن- كما قال الجبائي- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد أني على يقين. وعن الحسن أن المراد بها النبوة وهو غير ظاهر كتفسيرها بالحجج العقلية أو ما يعمها، والتنوين للتفخيم أن بينة جليلة الشأن مِنْ رَبِّي أي كائنة من جهته سبحانه. ووصفها بذلك لتأكيد ما أفاده التنوين.
وجوز أن تكون مِنْ اتصالية، وفي الكلام مضاف أي بينة متصلة بمعرفة ربي، وقيل: هي أجلية متعلقة بما تعلق به الخبر ويقدر المضاف أيضا أي كائن على بينة لأجل معرفة ربي والأول أظهر، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى.
وقوله سبحانه: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ- كما قال أبو البقاء- جملة إما مستأنفة أو حالية بتقدير قد في المشهور جيء بها لاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه أو للتفرقة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم، والضمير للبينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد، وقال الزجاج: لأنها بمعنى البيان، وجوز أن يكون الضمير لربي على معنى إني صدقت به ووحدته وأنتم كذبتم به وأشركتم.
وقوله تعالى: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالقرآن وهو عدم مجيء ما وعد فيه من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم بطريق الاستهزاء أو الإلزام زعمهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، وقال الإمام: إنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك فقال لهم: ما عِنْدِي إلخ وكأن الكلام مبين أيضا لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لعدم الالتفات إلى نهي الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه والإخبار بنزول العذاب بسببه أي ليس عندي ما يستعجلونه من العذاب الموعود به وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيب القرآن أو عدم الالتفات إلى النهي عنه والوعيد عليه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به أي ليس أمره مفوضا إلي إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم في تأخير ذلك إِلَّا لِلَّهِ وحده من غير أن يكون لغيره سبحانه خل ما فيه بوجه من الوجوه.

صفحة رقم 160

واختار بعضهم التعميم في متعلق الحكم أي ما الحكم في ذلك تأخيرا أو تعجيلا أو ما الحكم في جميع الأشياء فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ورجح الأول بأن المقصود من قوله سبحانه: إِنِ الْحُكْمُ إلخ التأسف على وقوع خلاف المطلوب كما يشهد به موارد استعماله وهو على التأخير فقط يَقُصُّ أي يتبع الْحَقَّ والحكمة فيما يحكم به ويقدره كائنا ما كان أو يبينه بيانا شافيا من قص الأثر أو الخبر وهو من قبيل التكميل للخاص على ما اخترناه بإردافه بأمر عام كقوله تعالى: بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: ١]. وقرأ الكسائي وغيره «يقضي» من القضاء وحذفت الياء في الخط تبعا لحذفها في اللفظ لالتقاء الساكنين، وأصله أن يتعدى بالباء لا بنفسه فنصب الْحَقَّ إما على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه أي يقضي القضاء الحق أو على أنه مفعول به ويقضي متضمن معنى ينفذ أو هو متعد من قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره كقول الهذلي.
مسرودتان قضاهما داود. وفي الكلام على هذا استعارة تبعية، واحتج مجاهد للقراءة الأولى بعدم الباء المحتاج إليها في الثانية وقد علمت فساده.
واحتج أبو عمرو للثانية بقوله سبحانه: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ فإن الفصل إنما يكون في القضاء لا في القصص ولو كان ذلك في الآية لقيل خير القاصين. وأجاب أبو علي الفارسي بأن القصص هاهنا بمعنى القول وقد جاء الفصل فيه قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: ١٣] كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: ١] وَنُفَصِّلُ الْآياتِ [التوبة: ١١] على أنك تعلم بأدنى التفات إلى أن القصص هنا قد يؤول بلا تكلف وبعد إلى معنى القضاء. وفي إرشاد العقل السليم أن أصل القضاء الفصل بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عن التعدي إلى صاحبه، وجملة وَهُوَ خَيْرُ إلخ تذييل مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق هاهنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل فافهم.
واحتج بعض أهل السنة بقوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إلخ لإفادته الحصر على أنه لا يقدر العبد على شيء من الأشياء إلا إذا قضى الله تعالى به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله تعالى به وحكم، وكذلك في جميع الأفعال.
وقالت المعتزلة: إن قوله سبحانه: «يقضي الحق» معناه أن كل ما يقضي به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق ولا يخفى ما فيه قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي في قدرتي وإمكاني ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي بأن ينزل عليكم إثر استعجالكم، وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعين الفاعل الذي هو الله جلت عظمته وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب ما لا يخفى.
وقال الزمخشري ومن تبعه: المعنى لو كان ذلك في مكنتي لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي عز وجل وامتعاضا من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعا، ولا يساعده المقام، ومثله حمل ما يستعجلون به على الآيات المقترحة وقضاء الأمر على قيام الساعة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ أي بحالهم وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب، ولذلك لم يفوض الأمر إلي ولم يقض بتعجيل العذاب، والجملة مقررة لما أفادته الجملة الامتناعية من انتفاء كون أمر العذاب مفوضا إليه عليه الصلاة والسلام والمستتبع لانتفاء قضاء الأمر وتعليل له.
وقيل: هي في معنى الاستدراك كأنه قيل: لو قدرت أهلكتكم ولكن الله تعالى أعلم بمن يهلك عن غيره وله حكمة في عدم التمكين منه، وأيا ما كان فلا حاجة إلى حذف مضاف، وزعم بعضهم ذلك، والتقدير وقت عقوبة الظالمين وهو كما ترى والله تعالى أعلم.
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ أي مفاتيحه كما قرىء به فهو جمع مفتح بكسر الميم وهو كمفتاح آلة الفتح.

صفحة رقم 161

وقيل: إنه جمع مفتاح كما قيل في جمع محراب محارب، والكلام على الاستعارة حيث شبه الغيب بالأشياء المستوثق منها بالإقفال وأثبت له المفاتيح تخييلا وهي باقية على معناها الحقيقي، وجعلها بمعنى العلم قرينة المكنية بناء على أنه لا يلزم أن تكون حقيقة بعيد، وأبعد منه تكلف التمثيل. وقيل: الأقرب أن يعتبر هناك استعارة مصرحة تحقيقية بأن يستعار العلم للمفاتح وتجعل القرينة الإضافة إلى الغيب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أن المراد من المفاتح الخزائن فهي حينئذ جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن.
وجوز الواحدي أن يكون مصدرا بمعنى الفتح وليس بالمتبادر. وفي الكلام استعارة مكنية تخييلية، وتقديم الخبر لإفادة الحصر. والمراد بالغيب المغيبات على سبيل الاستغراق، والمقصود على كل تقدير أنه سبحانه هو العالم بالمغيبات جميعها كما هي ابتداء لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ في موضع الحال من مفاتح، والعامل فيها- كما قال أبو البقاء- ما تعلق به الظرف أو نفسه إن رفعت به، ويجوز أن يكون تأكيدا لمضمون ما قبله، والكلام إما مسوق لبيان اختصاص المقدورات الغيبية به سبحانه من حيث العلم إثر بيان اختصاص كلها به تعالى من حيث القدرة، والمعنى أن ما تستعجلون به من العذاب ليس مقدورا لي حتى ألزمكم بتعجيله ولا معلوما لدي حتى أخبركم بوقت نزوله بل هو مما يختص به جل شأنه قدرة وعلما فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم، وأما لإثبات العلم العام له سبحانه وهو علمه بكل شيء بعد إثبات العلم الخاص وهو علمه بالظالمين، وذكر الإمام أن معنى الآية على تقدير أن يراد بالمفاتح الخزائن أنه سبحانه القادر على جميع الممكنات كما في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: ٢١].
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: مفاتح الغيب خمس وتلا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: ٣٤] الآية، وروي نحوه عن ابن مسعود، وأخرج أحمد، والبخاري، وغيرهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا نحو ذلك، ولعل الحمل على الاستغراق أولى، وما في الأخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر إذ لا شبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه أيضا إلا الله تعالى.
وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عطف على جملة وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ إلخ أو على الجملة قبله وهو ظاهر على تقدير حاليتها، وأما على تقدير كونها تأكيدا فقد منعه البعض لأن المعطوف لا يصلح للتأكيد ولو كان علمه سبحانه بالمغيبات عند المحقين على وجه التفصيل والاختصاص لأن علم الغيب والشهادة متغايران فلا يؤكد أحدهما الآخر.
نعم قيل: من لم يجعلها مؤكدة جوز العطف عليها فيكون الجملتان مستأنفتين لتفصيل علمه سبحانه وشموله لا غير، وجوز أن يكون المجموع مؤكدا لاشتماله على مضمون ما قبله لأنه ليس توكيدا اصطلاحيا، والمراد من هذه الجملة- كما قال غير واحد- بيان تعلق علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملة له وتنبيها على أن الكل بالنسبة إلى علمه المحيط سواء، والمراد من من البر الصحراء ومن البحر خلافه، وفي القاموس أنه الماء الكثير أو الملح فقط ويجمع وجمعه أبحر وبحوز وبحار وتصغيره أبيحر لا بحير. وعن مجاهد أن المراد بالبر القفار وبالبحر كل قرية فيها ماء وهو خلاف الظاهر، وأيا ما كان فالمعنى يعلم ما فيهما من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها.
وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها أي وما تسقط ورقة من أي شجرة كانت إلا عالما بها، فمن زائدة في الفاعل، والجملة بعد إلا في موضع الحال منه، وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النفي، والتفريغ في الحال شائع سائغ.

صفحة رقم 162

وجوز أن تكون في موضع النعت للنكرة، والكلام مسوّق- كما قيل- لبيان تعلق علمه تعالى بأحوال المشاهدات المتغيرة بعد بيان تعلقه بذواتها فإن تخصيص حال السقوط بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاء بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكر أحوال الورقة وما عطف عليها خاصة دون أحوال سائر ما في البر والبحر من الموجودات التي لا يحيط بها نطاق الحصر باعتبار أنها أنموذج لأحوال سائرها، قيل: ولعل الاكتفاء بحال السقوط دون الاكتفاء بغيرها من الأحوال لشدة ملاءمتها لما سيأتي إن شاء الله تعالى في آية التوفي، ولأن التغيير فيها أظهر فهو أوفق بما سيقت له الآية، وقيل: لأن العلم بالسقوط لكونه من الأحوال الساقطة التي يغفل عنها يستلزم العلم بغيره من الأحوال المعتنى بها فتدبر، فكأنه قيل: وما تتغير ورقة من حال إلى حال إلا يعلمها وَلا حَبَّةٍ عطف على وَرَقَةٍ.
وقوله سبحانه: فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة مفيدة لكمال ظهور علمه تعالى.
والمراد من ظلمات الأرض بطونها، وكني بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك فيه كما لا يدرك في الظلمة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد ظلمات الأرض ما تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع أو تحت حجر أو شيء، وقوله تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ عطف على «ورقة» أيضا داخل معها في حكمها، والمراد بالرطب واليابس رطب ويابس من شأنهما السقوط كالثمار مثلا لاقتضاء العطف ذلك وقوله سبحانه: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله سبحانه إِلَّا يَعْلَمُها لأن معناهما واحد في المآل سواء أريد بالكتاب المبين علمه تعالى أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته سبحانه، وإلى هذا ذهب الزمخشري وأراد كما قال السعد: إنه تكرير من جهة المعنى، وأما من جهة اللفظ فهو صفة للمذكورات كما أن إِلَّا يَعْلَمُها صفة لورقة. وأورد عليه بأن صفة شيء كيف تكون تكريرا لصفة شيء آخر معنى. وأجيب بأنه غير وارد لأن الورقة داخلة في الرطب واليابس فلا تغاير بحسب المعنى فيصح ما ذكر، وقيل: إنه بدل من الاستثناء الأول بدل الكل إن فسر الكتاب بالعلم وبدل الاشتمال إن فسر باللوح وفيه تأمل. وقرىء «ولا حبة»، «ولا رطب ولا يابس» بالرفع على العطف على محل وَرَقَةٍ وخص بعضهم هذه القراءة بالأخيرين.
وجوز أن يكون الرفع على الابتداء والخبر إِلَّا فِي كِتابٍ قيل وهو الأنسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذ لما ليس من شأنه السقوط. وقد جعلهما غير واحد شاملين لجميع الأشياء لأن الأجسام كلها لا تخلو من أن تكون رطبة أو يابسة ويدخل في ذلك الحار والبارد، والمراد من كل معناه اللغوي لا مصطلح الأطباء كما لا يخفى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرطب ما ينبت وباليابس ما لا ينبت. وفي رواية أخرى عنه أن الأول الماء والثاني الثرى. وروى أبو الشيخ عنه ما يفيد العموم، ولعله الأولى بالقبول، وقيل: الرطب الحي واليابس الميت.
وروى الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: الورقة السقط والحبة الولد وظلمات الأرض الأرحام والرطب ما يحيا واليابس ما يغيض،
وأنا أجل أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه عن التفوه بهذا التفسير إذ هو خلاف الظاهر جدا، ومثله في عدم التبادر ما أخرجه أبو الشيخ عن محمد بن جحادة أنه قال: إن لله تعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، وذلك قوله سبحانه: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ثم إن تفسير الكتاب باللوح هو الذي مشى عليه جماعة من المفسرين منهم الزجاج فقد قال: إنه تعالى أثبت المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال سبحانه: إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الحديد:
٢٢].
وفي رواية لمسلم «أن الله تعالى كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة».

صفحة رقم 163

وفائدة ذلك أمور: أحدها اعتبار الملائكة عليهم السلام موافقات المحدثات للمعلومات الإلهية. وثانيها وعليه اقتصر الحسن تنبيه المكلفين على عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب حيث ذكر أن الورقة والحبة في الكتاب. وثالثها عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب، ولذا
جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة»،
وهذا الكتاب يسمى اللوح المحفوظ لحفظه عن التحريف ووصول الشياطين إليه أو من المحو والإثبات بناء على أنهما إنما يكونان في صحف الملائكة دونه. والبلخي اختار أن معنى قوله تعالى: فِي كِتابٍ مُبِينٍ أنه محفوظ غير منسي ولا مغفول عنه، كما يقول القائل لغيره ما تصنعه مسطور مكتوب عندي فإنه إنما يريد أنه حافظ له يريد مكافأته عليه. وأنشد ذلك:
إن لسلمى عندنا ديوانا وذكر الإمام هاهنا ما سماه دقيقة، وهو أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة وهم كالكبريت الأحمر وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ من تلك القضايا وحيث أريد إيصالها إلى كل عقل لأن القرآن إنما نزل لينتفع به جميع الخلق ذكر مثال من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوما لكل واحد فذكر وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ليكشف به عن حقيقة عظمة ذلك المعقول. وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحواله وكثرة ما فيه.
وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب فإذا استحضر الخيال معلومات البر والبحر وعرف أن مجموعها حقير من جنب ما دخل في دائرة عموم، وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يصير ذلك مقويا ومكملا للعظمة الحاصلة تحت ذلك، ثم كشف سبحانه عن عظمة البر والبحر بقوله عز وجل: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في الأرض من المدن والقرى والمفاوز والمهالك ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر. ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها، ثم ذكر مثالا أشد هيبة وهو وَلا حَبَّةٍ إلخ.
وذلك لأن الحبة تكون في غاية الصغر، وظُلُماتِ الْأَرْضِ يخفى فيها أكبر الأجسام وأعظمها فإذا سمع العاقل أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظلمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج من علمه سبحانه انتبه غاية الانتباه وفاز من مجموع ذلك بالحظ الأوفر من المعنى المشار إليه في صدر الآية، ثم إنه تعالى لما قوى ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة عاد إلى ذكر تلك القضية بعبارة أخرى وهي قوله عز اسمه وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ فإنه عين ما تقدم، وهذا مبني على أحد الوجوه في الآية فلا تغفل، وفيها دليل على أن الله تعالى عالم بالجزئيات.
ونسبت المخالفة فيه للفلاسفة، والحق أنهم لا ينكرون ذلك. وإنما ينكرون علمه سبحانه بها بوجه جزئي وهو بحث طويل الذيل. وكذا بحث علمه تعالى من حيث هو. وقد ألفت فيه الرسائل وصار معترك أفهام الأواخر والأوائل وسبحان من لا يقدر قدره غيره.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي ينيمكم فيه كما نقل عن الزجاج، والجبائي، ففيه استعارة تبعية حيث استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال إحساس الحواس الظاهرة والتمييز، قيل: والباطنة أيضا، وأصله قبض الشيء بتمامه، ويقال: توفيت الشيء واستوفيته بمعنى وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أي ما كسبتم

صفحة رقم 164

وعملتم فيه من الإثم كما أخرج ذلك ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقتادة وهو الذي يقتضيه سياق الآية فإنه للتهديد والتوبيخ، ولهذا أوثر يَتَوَفَّاكُمْ على ينيمكم ونحوه وجَرَحْتُمْ على كسبتم إدخالا للمخاطبين الكفرة في جنس جوارح الطير والسباع، وبعضهم يجعل الخطاب عاما والمراد من الليل والنهار الجنس المتحقق في كل فرد من أفرادهما إذ بالتوفي والبعث الموجودين فيهما متحقق قضاء الأجل المسمى المترتب عليهما، والباء في الموضعين بمعنى في كما أشرنا إليه.
والمراد بعلمه سبحانه ذلك كما قيل: علمه قبل الجرح كما يلوح به تقديم ذكره على البعث أي يعلم ما تجرحون، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وتخصيص التوفي بالليل والجرح بالنهار للجري على السنن المعتاد وإلا فقد يعكس ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم في النهار، وهل هي حقيقة في هذا المعنى أو مجاز فيه قولان.
والمتبادر منه في عرف الشرع إحياء الموتى في الآخرة وجعلوه ترشيحا للتوفي وهو ظاهر جدا على المتبادر في عرف الشرع لاختصاصه بالمشبه به. ويقال على غيره: إنه لا يشترط في الترشيح اختصاصه بالمشبه به بل أن يكون أخص به بوجه كما قرروه في قوله:
له لبد أظفاره لم تقلم والبعث في الموتى أقوى لأن عدم الإحساس فيه كذلك فإزالته أشد. وقد صرحوا أيضا أن الترشيح يجوز أن يكون باقيا على حقيقته تابعا للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها.
ويجوز أن يكون مستعارا من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له، والجملة عطف على يَتَوَفَّاكُمْ وتوسيط وَيَعْلَمُ إلخ بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيم الإحسان إليهم بالتنبيه على أن ما يكسبونه من الإثم مع كونه مما يستأهلون به إبقاءهم على التوفي بل إهلاكهم بالمرة يفيض سبحانه عليهم الحياة ويمهلهم كما ينبىء عنه كلمة التراخي كأنه قيل: هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس الأنهار مع علمه جل شأنه بما يرتكبون فيها لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى معين لكل فرد وهو أجل بقائه في الدنيا، وتكلف الزمخشري في تفسير الآية فجعل ضمير «فيه» جاريا مجرى اسم الإشارة عائدا على مضمون كونهم متوفين وكاسبين و «في» بمعنى لام العلة كما في قولك: فيم دعوتني، والأجل المسمى هو الكون في القبور أي ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ومن أجله ليقضي الأجل الذي سماه سبحانه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم، وما ذكرناه هو الذي ذهب إليه الزجاج، والجبائي، وغالب المفسرين وهو عري عن التكلف الذي لا حاجة إليه.
وزعم بعضهم أن الداعي إليه هو أن قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ دال على حال اليقظة وكسبهم فيها، وكلمة- ثم- تقتضي تأخير البعث عنها فلهذا عدل الزمخشري إلى ما عدل إليه، وقال بعض المحققين: إن قوله سبحانه: وَيَعْلَمُ إلخ إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل والواو للحال ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي وأن قولنا: يفعل ذلك التوفي لتقضي مدة الحياة المقدرة كلام منتظم غاية الانتظام، ولا يخفى أن فيه تكلفا أيضا مع أن واو الحال لا تدخل على المضارع إلا شذوذا أو ضرورة في المشهور» ووجه سنان التراخي المفاد بثم بأن حقيقة الإماتة في الليل تتحقق في أوله والإيقاظ متراخ عنه وإن لم يتراخ عن جملته.
واعترض بأنه حينئذ لا وجه لتوسيط وَيَعْلَمُ إلخ بينهما وفيه نظر يعلم مما ذكرنا ثُمَّ إِلَيْهِ سبحانه لا

صفحة رقم 165

إلى غيره أصلا مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم ومصيركم بالموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم داومتم على عملها في الدنيا.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فلا يعجزه أحد منهم ولا يحول بينه سبحانه وبين ما يريده فيهم، وفَوْقَ نصب على الظرفية حال أو خبر بعد خبر، وقد تقدم الكلام مبسوطا فيما للعلماء في هذه الآية وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً من الملائكة وهم الكرام الكاتبون المذكورون في قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: ١٠، ١١] أو المعقبات المذكورة في قوله سبحانه: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: ١١]، وقيل: المراد ما يشمل الصنفين، ويقدر المحفوظ الأعمال والأنفس والأعم. وعن قتادة يحفظون العمل والرزق والأجل.
والذي ذهب إليه أكثر المفسرين المعنى الأول في الحفظة، وهم عند بعض يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها كما يشعر بذلك مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩] وجاء في الأثر تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك وما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٨] وقال آخرون: لا يكتبون المباحات إذ لا يترتب عليها شيء.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مع كل إنسان ملكين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار: لتنتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتب عليه والمشهور أنهما على الكتفين، وقيل: على الذقن، وقيل: في الفم يمينه ويساره. واللازم الإيمان بهما دون تعيين محلهما والبحث عن كيفية كتابتهما، وظواهر الآيات تدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال كقوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ، إلخ، وقوله سبحانه: يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار: ١٢] وأما على صفات القلوب كالإيمان والكفر مثلا فليس في الظواهر ما يدل على اطلاعهم عليها، والأخبار بعضها يدل على الاطلاع
كخبر «إذا هم العبد بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة»
فإن الهم من أعمال القلب كالإيمان والكفر، وبعضها يدل على عدم الاطلاع
كخبر «إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف محكمة فيقول الله تعالى اقبلوا هذا وردوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل فيقول سبحانه: «إن عمله كان لغيري وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي»
وفي رواية مرسلة لابن المبارك «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى فيستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص في عمله فاجعلوه في سجين» الحديث.
والقائل بأنهم لا يكتبون إلا الأعمال الظاهرة يقول: معنى- كتبت- في حديث الهم بالحسنة ثبتت عندنا وتحققت لا كتبت في صحف الملائكة.
والقائل بأنهم يكتبون الأعمال القلبية يقول باستثناء الرياء فيكتبون العمل دونه ويخفيه الله تعالى عنهم ليبطل سبحانه به عمل المرائي بعد كتابته إما في الآخرة أو في الدنيا زيادة في تنكيله وتفظيع حاله، ولعل هذا كما يفعل به يوم القيامة من رده إلى النار بعد تقريبه من الجنة.
فقد روى أبو نعيم، والبيهقي، وابن عساكر، وابن النجار أنه يؤمر بناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها فيقولون: ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا قال: ذلك أردت بكم يا أشقياء كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس

صفحة رقم 166

ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتم من الثواب،
والكل عندي محتمل ولا قطع فتدبر.
واختلفوا في أن الحفظة هل يتجددون كل يوم وليلة أم لا؟ فقيل: إنهم يتجددون وملائكة الليل غير ملائكة النهار دائما إلى الموت، وقيل: إن ملائكة الليل يذهبون فتأتي ملائكة النهار ثم إذا جاء الليل ذهبوا ونزل ملائكة الليل الأولون لا غيرهم وهكذا، وقيل: إن ملائكة الحسنات يتجددون دون ملائكة السيئات وهو الذي يقتضيه حسن الظن بالله تعالى. واختلف في مقرهم بعد موت المكلف فقيل: يرجعون مطلقا إلى معابدهم في السماء، وقيل: يبقون حذاء قبر المؤمن يستغفرون له حتى يقوم من قبره. وصحح غير واحد أن كاتب الحسنات لا ينحصر في واحد لحديث رأيت كذا وكذا يبتدرونها أيهم يكتبها أول، والحكمة في هؤلاء الحفظة أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على ستره وعفوه لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه، وقول الإمام: يحتمل أن تكون الفائدة في الكتابة أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن بخلاف وزن الصحائف فإنه ممكن ليس بشيء كما لا يخفى، والقول بوزن الصحائف أنفسها قول لبعضهم، هذا وَيُرْسِلُ إما مستأنف أو عطف على في الْقاهِرُ لأنه بمعنى الذي يقهر، وعطفه كما زعم أبو البقاء على يَتَوَفَّاكُمْ وما بعده من الأفعال المضارعة ليس بشيء كاحتمال جعله حالا من الضمير في الْقاهِرُ أو في الظرف لأن الواو الحالية كما أشرنا إليه آنفا لا تدخل على المضارع، وتقدير المبتدأ لا يخرجه عن الشذوذ على الصحيح. وعَلَيْكُمْ متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقيل: هو متعلق بمحذوف وقع حالا من حفظه إذ لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم.
وقيل: متعلق بحفظة وهو جمع حافظ ككتبة وكاتب، و «حتى» في قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها كأنه قيل: ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاء أسباب الموت ومباديه تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا الآخرون المفوض إليهم ذلك وانتهى هناك حفظ الحفظة والمراد بالرسل على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أعوان ملك الموت، ونحوه ما أخرجاه عن قتادة قال: إن ملك الموت له رسل يباشرون قبض الأرواح ثم يدفعونها إلى ملك الملك.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يلي ذلك ثم يدفع الروح إن كانت مؤمنة إلى ملائكة الرحمة وإن كانت كافرة إلى ملائكة العذاب. والأكثرون على أن المباشر ملك الموت وله أعوان من الملائكة، وإسناد الفعل إلى المباشر والمعاون معا مجاز كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم، وقد جاء إسناد الفعل إلى ملك الموت فقط باعتبار أنه المباشر وإلى الله تعالى باعتبار أنه سبحانه الآمر الحقيقي. وقد أشرنا فيما تقدم أن بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم قال: إن المتوفى تارة يكون هو الله تعالى بلا واسطة وتارة الملك وتارة الرسل وغيره وذلك حسب اختلاف أحوال المتوفى. وعن الزجاج وهو غريب أن المراد بالرسل هنا الحفظة فيكون المعنى يرسلهم للحفظ في الحياة والتوفي عند مجيء الممات. وقرأ حمزة «توفاه» بألف ممالة. وقرىء في الشواذ «تتوفاه» وَهُمْ أي الرسل لا يُفَرِّطُونَ بالتواني والتأخير.
وقرأ الأعرج «يفرطون» بالتخفيف من الإفراط. وهو مجاوزة الحد وتكون بالزيادة والنقصان أي لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان، والجملة حال من رُسُلُنا وقيل: مستأنفة سيقت لبيان اعتنائهم بما أمروا به ثُمَّ رُدُّوا

صفحة رقم 167

عطف على «توفته» والضمير- كما قيل- للكل المدلول عليه بأحد وهو السر في مجيئه بطريق الالتفات، والإفراد أولا والجمع آخرا لوقوع التوفي على الانفراد والرد على الاجتماع.
وذهب بعض المحققين أن فيه التفاتا من الخطاب إلى الغيبة ومن التكلم إليها لأن الرد يناسبه الغيبة بلا شبهة وإن لم يكن الرد حقيقة لأنهم ما خرجوا من قبضة حكمه سبحانه طرفة عين. ونقل الإمام القول بعود الضمير على الرسل أي أنهم يموتون كما يموت بنو آدم، والأول هو الذي عليه غالب المفسرين. والمراد «ثم ردوا» بعد البعث والحشر أو من البرزخ إِلَى اللَّهِ أي إلى حكمه وجزائه أو إلى موضع العرض والسؤال مَوْلاهُمُ أي مالكهم الذي يلي أمورهم على الإطلاق ولا ينافي ذلك قوله تعالى: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد: ١١] لأن المولى فيه بمعنى الناصر الْحَقِّ أي العدل أو مظهر الحق أو الصادق الوعد.
وذكر حجة الإسلام قدس سره أن الحق مقابل الباطل وكل ما يخبر عنه فإما باطل مطلقا وإما حق مطلقا وإما حق من وجه باطل من وجه، فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقا والواجب بذاته هو الحق مطلقا والممكن بذاته الواجب بغيره حق من وجه باطل من وجه، فمن حيث ذاته لا وجود له فهو باطل ومن جهة غيره مستفيد للوجود فهو حق من الوجه الذي يلي مفيد الوجود، فمعنى الحق المطلق هو الموجود الحقيقي بذاته الذي منه يؤخذ كل حقيقة وليس ذلك إلا الله تعالى، وهذا هو مراد القائل إن الحق هو الثابت الباقي الذي لا فناء له، وفي التفسير الكبير أن لفظ المولى والولي مشتقان من القرب وهو سبحانه القريب ويطلق المولى أيضا على المعتق وذلك كالمشعر بأنه جل شأنه أعتقهم من العذاب وهو المراد من
قوله سبحانه «سبقت رحمتي غضبي»
وأيضا أضاف نفسه إلى العبيد وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة، وأيضا قال عز اسمه: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس، والشهوة، والغضب كما قال سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: ٢٣] فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرف المولى الحق انتهى. وهو كما ترى.
وادعى أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية لأن صريحها يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله تعالى والميت مع كونه ميتا لا يمكن أن يرد إلى الله تعالى لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة لتعاليه سبحانه عنهما بل يجب أن يكون مفسرا بكونه منقادا لحكم الله تعالى مطيعا لقضائه وما لم يكن حيا لا يصح هذا المعنى فيه فثبت أنه حصل هاهنا موت وحياة أما الموت فنصيب البدن فتبقى الحياة نصيب الروح ولما قال سبحانه: رُدُّوا وثبت أن المردود هو الروح ثبت أن الإنسان ليس إلا هي وهو المطلوب، وكذا تشعر بكون الروح موجودة قبل التعلق بالبدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون لو كانت موجودة كذلك، ونظيره قوله سبحانه: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] وقوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ولا يخفى ما في ذلك فتدبر. وقرىء «الحق» بالنصب على المدح.
وجوز أن يكون على أنه صفة للمفعول المطلق أي الرد الحق فلا يكون حينئذ المراد به الله عز وجل والأول أظهر أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ صورة ومعنى لا لغيره بوجه من الوجوه. واستدل بذلك على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله تعالى حكم وهو أخذ الثواب وهو ينافي ما دلت عليه الآية من الحصر وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب جميع الخلائق بنفسه في أسرع زمان وأقصره، ويلزم هذا أن لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن.
وفي الحديث أنه تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة.
وفي بعض الأخبار في مقدار نصف يوم.
وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يحاسب الخلق بنفسه بل يأمر سبحانه الملائكة عليهم السلام فيحاسب كل واحد منهم واحدا من العباد. وذهب آخرون إلى أنه عز وجل إنما يحاسب

صفحة رقم 168

المؤمنين بنفسه وأما الكفار فتحاسبهم الملائكة لأنه تعالى لو حاسبهم لتكلم معهم وذلك باطل لقوله تعالى في صفتهم: وَلا يُكَلِّمُهُمُ وأجاب الأولون عن هذا بأن المراد أنه تعالى لا يكلمهم بما ينفعهم فإن ظواهر الآيات ومنها ما تقدم في هذه السورة من قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: ٢٢] وقوله سبحانه وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام: ٣٠] تدل على تكليمه تعالى لهم في ذلك اليوم، ثم إن كيفية ذلك الحساب مما لا تحيط بتفصيلها عقول البشر من طريق الفكر أصلا وليس لنا إلا الإيمان به مع تفويض الكيفية وتفصيلها إلى عالم الغيب والشهادة. وادعى الفلاسفة أن كثرة الأفعال وتكررها يوجب حدوث الملكات الراسخة وأنه يجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة بل يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في ذلك وحينئذ يقال: إن الأفعال الصادرة من اليد هي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل فتكون الأيدي والأرجل شاهدة على الإنسان بمعنى أن تلك الآثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح فكأن ذلك الصدور جاريا مجرى الشهادة بحصول تلك الآثار في جواهر النفس. وأما الحساب فالمقصود منه استعلام ما بقي من الدخل والخرج، ولما كان لكل ذرة من الأعمال أثر حسن أو قبيح حسب حسن العمل وقبحه ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها معارضا بالبعض وبعد حصول المعارضة يبقى في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد وقدر آخر من الذميم فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك وهو إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه فيقطع فيه تعلق النفس من البدن فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب، وزعم من نقل هذا عنهم أنه من تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية، وأنا أقول:
راحت مشرقة ورحت مغربا... شتان بين مشرق ومغرب
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي قل لهم تقريرا بانحطاط شركائهم عن رتبة الإلهية، والمراد من ظلمات البر والبحر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شدائدهما وأهوالهما التي تبطل الحواس وتدهش العقول. والعرب- كما قال الزجاج- تقول لليوم الذي يلقى فيه شدة: يوم مظلم حتى أنهم يقولون: يوم ذو كواكب أي أنه يوم قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته، وأنشد:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
ومن الأمثال القديمة- رأى الكواكب ظهرا- أي أظلم عليه يومه لاشتداد الأمر فيه حتى كأنه أبصر النجم نهارا، ومن ذلك قول طرفة:
أن تنوله فقد تمنعه... وتريه النجم يجري بالظهر
وقيل: المراد ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة البحر، وقيل: ظلمة البر بالخسف فيه وظلمة البحر بالغرق فيه، والظلمات على الأول- كما قيل- استعارة وعلى الأخيرين حقيقة. ومنهم من جعلها كناية عن الخسف والغرق والكلام في الكناية معلوم. ومن جوز جمع الحقيقة والمجاز فسر الظلمات بظلمة الليل، والغيم، والبحر، والتيه، والخوف، وقرأ يعقوب وسهل «ينجيكم» بالتخفيف من الإنجاء والمعنى واحد، وقوله تعالى: تَدْعُونَهُ في موضع الحال من مفعول يُنَجِّيكُمْ كما قال أبو البقاء، والضمير لمن أي من ينجيكم منها حال كونكم داعين له.

صفحة رقم 169

وجوز أن يكون حالا من فاعله أي من ينجيكم منها حال كونه مدعوا من جهتكم تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي إعلانا وإسرارا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فنصبهما على المصدرية، وقيل: بنزع الخافض، والإعلان والإسرار يحتمل أن يراد بهما ما باللسان، ويحتمل أن يراد بهما ما باللسان والقلب، وجوز أن يكونا منصوبين على الحال من فاعل «تدعون» أي معلنين ومسرين.
وقرأ أبو بكر عن عاصم «خفية» بكسر الخاء وهو لغة فيه كالأسوة والأسوة، وقوله سبحانه لَئِنْ أَنْجانا في محل النصب على المفعولية لقول مقدر وقع حالا من فاعل تدعون أيضا أي قائلين: لئن أنجيتنا، والكوفيون يحكون بما يدل على معنى القول كتدعون من غير تقدير والصحيح التقدير، وقيل: إن الجملة القسمية تفسير للدعاء فلا محل لها.
وقرأ أهل الكوفة «أنجانا» بلفظ الغيبة مراعاة لتدعونه دون حكاية خطابهم في حالة الدعاء غير أن عاصما قرأ بالتفخيم والباقون بالإمالة، وقوله سبحانه مِنْ هذِهِ إشارة إلى ما هم فيها المعبر عنها بالظلمات لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمة الجليلة أو جميع النعم التي هذه من جملتها قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ أي غم يأخذ بالنفس، والمراد به إما ما يعم ما تقدم والتعميم بعد التخصيص كثير أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى كالأمراض والأسقام، وأمره صلّى الله عليه وسلّم بالجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بظهوره وتعينه أو للإهانة لهم مع بناء قوله سبحانه: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه ومن غيره ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعم الجليلة تعودون إلى الشرك في عبادته سبحانه ولا توفون بالعهد. ووضع تُشْرِكُونَ موضع لا تشكرون الذي هو الظاهر المناسب لوعدهم السابق المشار إليه بقوله تعالى: لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ للتنبيه على أن من أشرك في عبادة الله تعالى فكأنه لم يعبده رأسا إذا التوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة، وقيل: لعل المقصود التوبيخ بأنهم مع علمهم بأنه لم ينجهم إلا الله تعالى كما أفاده تقديم المسند إليه أشركوا ولم يخصوا الله تعالى بالعبادة فذكر الإشراك في موقعه، وكلمه- ثم- ليس للتراخي الزماني بل لكمال البعد بين إحسان الله تعالى عليهم وعصيانهم، ولم يذكر متعلق الشرك لتنزيله منزلة اللازم تنبيها على استبعاد الشرك في نفسه.
وقرأ أهل الكوفة، وأبو جعفر، وهشام عن ابن عامر «ينجّيكم» بالتشديد والباقون بالتخفيف.
قُلْ يا محمد لهؤلاء الكفار هُوَ الْقادِرُ لا غيره سبحانه عَلى أَنْ يَبْعَثَ أي يرسل عَلَيْكُمْ متعلق بيبعث. وتقديمه على المفعول الصريح وهو قوله سبحانه: عَذاباً للاعتناء به والمسارعة إلى بيان كون المبعوث مما يضرهم ولتهويل أمر المؤخر، والكلام استئناف مسوق لبيان أنه تعالى هو القادر على إلقائهم في المهالك إثر بيان أنه سبحانه هو المنجي لهم منها، وفيه وعيد ضمني بالعذاب لإشراكهم المذكور، والتنوين للتفخيم أي عذابا عظيما مِنْ فَوْقِكُمْ أي من جهة العلو كالصيحة، والحجارة، والريح، وإرسال السماء أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أي من جهة السفل كالرجفة، والخسف، والإغراق، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: من فوقكم أي من قبل أمرائكم وأشرافكم ومن تحت أرجلكم أي من قبل سفلتكم وعبيدكم وفي رواية أخرى عنه تفسير الأول بأئمة السوء والثاني بخدم السوء والمتبادر ما قدمنا وهو المروي عن غير واحد من المفسرين. والجار والمجرور متعلق بيبعث أيضا، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لعذاب. وأو لمنع الخلو دون الجمع فلا منع لما كان من الجهتين معا كما فعل بقوم نوح عليه الصلاة والسلام.
أَوْ يَلْبِسَكُمْ أي يخلط أمركم عليكم ففي الكلام مقدر، وخلط أمرهم عليهم يجعلهم مختلفي الأهواء،

صفحة رقم 170

وقيل: المراد اختلاط الناس في القتال بعضهم ببعض فلا تقدير، وعليه قول السلمي:

وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي
وقرىء «يلبسكم» بضم الياء وهو عطف على يَبْعَثَ وقوله تعالى: شِيَعاً جمع شيعة كسدرة وسدر وهم كل قوم اجتمعوا على أمر نصب على الحال، وقيل: إنه مصدر منصوب بيلبسكم من غير لفظه، وجوز على هذا أن يكون حالا أيضا أي مختلفين، وقوله سبحانه: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ عطف على «يبعث» كما نقل عن السمين، ويفهم من كلام البعض أنه عطف على يلبس وهو من قبيل عطف التفسير أو من عطف المسبب على السبب.
وقرىء «نذيق» بنون العظمة على طريق الالتفات لتهويل الأمر والمبالغة في التحذير. والبعض الأول على- ما قيل- الكفار والثاني المؤمنون ففيه حينئذ وعد ووعيد، وقيل: كلا البعضين من الكفار أي نذيق كلّا بأس الآخر وقيل البعضان من المؤمنين فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال في قوله سبحانه: عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ هذا للمشركين وفي قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ إلخ هذا للمسلمين ولا يخفى أنه تفكيك للنظم الكريم، ولعل مراد الحسن أن هذا يكون للمسلمين ويقع فيهم دون الأول،
وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال: «لما نزلت هذه الآية قام النبي صلّى الله عليه وسلّم فتوضأ فسأل ربه عز وجل أن لا يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولا يلبس أمته شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل فهبط إليه صلّى الله عليه وسلّم جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد إنك سألت ربك أربعا فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم فإنهما عذابان لكل أمة استجمعت على تكذيب نبيها ورد كتاب ربها ولكنهم يلبسون شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتب والتصديق بالأنبياء عليهم السلام»
وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة والحاكم وصححه واللفظ له عن ثوبان أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن ربي زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض وإن أمتي سيبلغ ملكا ما زوى لي منها وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا عن غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها وقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء لم يرد إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة عامة ولا أظهر عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم عامة ولو اجتمع من بين أقطارها حتى يكون بعضهم هو يهلك بعضا وبعضهم هو يسبي بعضا» الحديث.
وأخرج أحمد، والطبراني وغيرهما عن أبي بصرة الغفاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سألت ربي أربعا فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلكت الأمم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها»
والأخبار في هذا المعنى كثيرة. وفي بعضها دلالة على عد اللبس والإذاقة أمرا واحدا وفي بعضها دلالة على عد ذلك أمرين، ومن هنا نشأ الاختلاف السابق في العطف، وأيد بعضهم العطف على يلبس لا على يَبْعَثَ بكونه بالواو دون أو. ولا يعارض ما روي عن الحسن من عدم وقوع الأولين في هذه الأمة ما
أخرجه أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الآية: أما أنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد،
وكذا ما أخرج الأول في مسنده من طريق أبي العالية عن ابن كعب أنه قال في الآية: هن أربع وكلهن واقع لا محالة لجواز أن يراد بالوقوع وقوع لا على وجه الاستئصال وبعدم الوقوع عدمه على وجه الاستئصال وكلام الحسن كالصريح في هذا فافهم.

صفحة رقم 171

انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نحولها من نوع إلى آخر من أنواع الكلام تقريرا للمعنى وتقريبا إلى الفهم أو نصرفها بالوعد والوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ أي كي يعلموا جلية الأمر فيرجعوا عما هم عليه من المكابرة والعناد، واستدل بعض أهل السنة بالآية على أن الله تعالى خالق للخير والشر، وقال بعض الحشوية والمقلدة: إنها من أدل الدلائل على المنع من النظر والاستدلال لما أن في ذلك فتح باب التفرق والاختلاف المذموم بحكم الآية وليس بشيء كما لا يخفى وَكَذَّبَ بِهِ أي القرآن كما قال الأزهري وروي ذلك عن الحسن وقيل: الضمير لتصريف الآيات، واختاره الجبائي، والبلخي، وقيل: هو للعذاب واختاره غالب المفسرين قَوْمُكَ أي قريش، وقيل: هم وسائر العرب، وأيا ما كان فالمراد المعاندون منهم، قيل: ولعل إيرادهم بهذا العنوان للإيذان بكمال سوء حالهم فإن تكذيبهم بذلك مع كونهم من قومه عليه الصلاة والسلام مما يقضي بغاية عتوهم ومكابرتهم، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا.
وَهُوَ الْحَقُّ أي الكتاب الصادق في كل ما نطق به لا ريب فيه أو المتحقق الدلالة أو الواقع لا محالة.
والواو حالية والجملة بعدها في موضع الحال من الضمير المجرور، وقيل: الواو استئنافية (١) وبعدها مستأنفة. وأيّا ما كان ففيه دلالة على عظم جنايتهم ونهاية قبحها قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بموكل فوض أمركم إلى أحفظ أعمالكم لأجازيكم بها إنما أنا منذر ولم آل جهدا في الإنذار والله سبحانه هو المجازي قاله الحسن.
وقال الزجاج: المراد أني لم أؤمر بحربكم ومنعكم عن التكذيب. وفي معناه ما نقل عن الجبائي. والآية على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منسوخة بآية القتال ولا بعد في ذلك على المعنى الثاني.
لِكُلِّ نَبَإٍ أي لكل شيء ينبأ به من الأنباء التي من جملتها عذابكم أو لكل خبر من الأخبار التي من جملتها خبر مجيئه مُسْتَقَرٌّ أي وقت استقرار ووقوع البتة أو وقت استقراره بوقوع مدلوله وليس مصدرا ميميا.
وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي حال نبئكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا، وسوف للتأكيد.
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها كما هو دأب قريش وديدنهم في أنديتهم وهم المراد بالموصول. وعن مجاهد أهل الكتاب فإن ديدنهم ذلك أيضا، ولذا أتى بإذا الدالة على التحقيق، وهذا بخلاف النسيان الآتي، وأصل الخوض من خاض القوم في الحديث وتخاوضوا إذا تفاوضوا فيه، وقال الطبرسي: الخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث واللعب وترك التفهم والتبيين، وقال بعض المحققين:
أصل معنى الخوض عبور الماء استعير للتفاوض في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن للذم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي اتركهم ولا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ أي كلام غَيْرِهِ أي غير آياتنا. والتذكير باعتبار كونها حديثا فإن وصف الحديث بمغايرتها مشير إلى اعتبارها بعنوان الحديثية، وقيل: باعتبار كونها قرآنا، والمراد بالخوض هنا التفاوض لا بقيد التكذيب والاستهزاء. وادعى بعضهم أن المعنى حتى يشتغلوا بحديث غيره وأن ذكر يَخُوضُوا للمشاكلة، واستظهر عود الضمير إلى الخوض. واستدل بعض العلماء بالآية على أن إِذا تفيد التكرار لحرمة القعود مع الخائض كما خاض. ونظر فيه بأن التكرار ليس من إذا بل من ترتب الحكم على مأخذ الاشتقاق.
واستدلال بعض الحشوية بها على النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته زاعما أن ذلك

(١) قوله وبعدها مستأنفة كذا بخطه والأمر سهل

صفحة رقم 172

خوض في آيات الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن يشغلك فتنسى الأمر بالإعراض عنهم فتجالسهم ابتداء أو بقاء، وهذا على سبيل الفرض إذ لم يقع وأنى للشيطان سبيل إلى إشغال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولذا عبر بأن الشرطية المزيدة ما بعدها.
وذهب بعض المحققين أن الخطاب هنا وفيما قبل لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمراد غيره، وقيل: «لغيره ابتداء أي إذا رأيت أيها السامع وإن أنساك أيها السامع» والمشهور عن الرافضة اختيار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم منزه عن النسيان لقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: ٦] وإن غيرهم ذهب إلى جوازه. وعلى نسبة الأول إليهم نص صاحب الأحكام، والجبائي، وغيرهما، وقال الأخير: إن الآية دليل على بطلان قولهم ذلك. والذي وقفت عليه في معتبرات كتبهم أنهم لا يجوزون النسيان، وكذا السهو على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا على سائر الأنبياء عليهم السلام فيما يؤديه عن الله تعالى من القرآن والوحي. وأما ما سوى ذلك فيجوزون عليه عليه الصلاة والسلام أن ينساه ما لم يؤد إلى إخلال بالدين.
وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتفصيل الكلام في ذلك على ما في معتبرات كتبنا أن مذهب جمهور العلماء جواز النسيان عليه صلّى الله عليه وسلّم في أحكام الشرع وهو ظاهر القرآن والأحاديث لكن اتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به، ثم قال الأكثرون: يشترط تنبهه عليه الصلاة والسلام على الفور متصلا بالحادثة ولا يقع فيه تأخير، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته صلّى الله عليه وسلّم واختاره إمام الحرمين، ومنعت ذلك طائفة من العلماء في الأفعال البلاغية والعبادات كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه صلّى الله عليه وسلّم في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك. وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني، وصحح النووي الأول فإن ذلك لا ينافي النبوة، وإذا لم يقر عليه لم يتحصل منه مفسدة ولا ينافي الأمر بالاتباع بل يحصل منه فائدة وهو بيان أحكام الناسي وتقرر الأحكام.
وذكر القاضي أنهم اختلفوا في جواز السهو عليه صلّى الله عليه وسلّم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه فجوزه الجمهور. وأما السهو في الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع تعمده، وأما السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها ولا يضاف إلى وحي فجوزه قوم إذ لا مفسدة فيه، ثم قال: والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من قال:
يمتنع ذلك على الأنبياء عليهم السلام في كل خبر من الأخبار كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا لا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب، وحسبك في ذلك أن سيره صلّى الله عليه وسلّم وكلامه وأفعاله مجموعة يعتني بها على مر الزمان ويتناولها الموافق والمخالف والمؤمن والمرتاب فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة ونومه عليه الصلاة والسلام عنها واستدراكه رأيه في تلقيح النخل وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك. وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع. وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على هذا المبحث عند تفسير قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: ٥٢] الآية.
وقرأ ابن عامر «ينسّينّك» بتشديد السين ونسي بمعنى أنسى، وقال ابن عطية: نسي أبلغ من أنسى والنون في القراءتين مشددة وهي نون التوكيد، والمشهور أنها لازمة في الفعل الواقع بعد أن الشرطية المصحوبة بما الزائدة، وقيل:
لا يلزم فيه ذلك، وعليه قول ابن دريد:

صفحة رقم 173

أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى
فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى أي بعد تذكر الأمر بالإعراض كما عليه جمهور المفسرين. وقال أبو مسلم:
المعنى بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين ونهيك لهم عن الخوض في الآيات وليس بشيء.
وجوز الزمخشري أن تكون الذِّكْرى بمعنى تذكير الله تعالى إياه وأن المعنى وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه، ولا يخفى أنه وجه بعيد مبني على قاعدة القبح والحسن التي هدمتها معاول أفكار العلماء الراسخين، ثم إنا لا نسلم أن مجالسة المستهزئين مما ينكره العقول مطلقا، وذكر ابن المنير أن اللائق على ما قال- وإن أنساك- دون وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ على أن إنساء الشيطان إن صح فعن السمعي أيسر، وليس هذا أول خوض من الزمخشري في تأويل الآيات بل ذلك دأبه مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم فوضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم أنهم بذلك الخوض ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك، وفي الآية- كما قال غير واحد- إيذان بعدم تكليف الناسي، وهذه من المسائل المتنازع فيها بينهم وعنونوها بمسألة تكليف الغافل وعدوا منه الناسي. وللأشعري فيها قولان وصوب عدم التكليف لعدم الفائدة فيه أصلا بخلاف التكليف بالمحال.
ونقل ابن برهان في الأوسط عن الفقهاء القول بصحة تكليفه على معنى ثبوت الفعل بالذمة، وعن المتكلمين المنع إذ لا يتصور ذلك عندهم، وقد يظن أن الشافعي لنصه على تكليف السكران يرى تكليف الغافل وهو من بعض الظن فإنه إنما كلف السكران عقوبة له لأنه تسبب بمحرم حصل باختياره ولهذا وجب عليه الحد بخلاف الغافل. وأورد على القول بالامتناع أن العبد مكلف بمعرفة الله تعالى بدون العلم بالأمر وذلك لأن الأمر بمعرفته سبحانه وارد فلا جائز أن يكون واردا بعد حصولها لامتناع تحصيل الحاصل فيكون واردا قبله فيستحيل الإطلاق على هذا الأمر لأن معرفة أمره تعالى بدون معرفته سبحانه مستحيل فقد كلف معرفة الله تعالى مع غفلته عن ذلك التكليف.
وأجيب: بأن المعرفة الإجمالية كافية في انتفاء الغفلة والمكلف به هو المعرفة التفصيلية أو بأن شرط التكليف إنما هو فهم المكلف له بأن يفهم الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بأن يصدق بتكليفه وإلا لزم الدور وعدم تكليف الكفار وهو هنا قد فهم ذلك وإن لم يصدق به. وصاحب المنهاج تبعا لصاحب الحاصل أجاب بأن التكليف بمعرفة الله تعالى خارج عن القاعدة بالإجماع، وتمام البحث يطلب من كتب الأصول. وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ قال أبو جعفر عليه الرحمة: لما نزلت فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى إلخ قال المسلمون: لئن كنا نقول كلما استهزأ المشركون بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت فنزلت: أي وما يلزم الذين يتقون قبائح إعمال الخائضين وأحوالهم.
مِنْ حِسابِهِمْ أي مما يحاسب الخائضون الظالمون عليه من الجرائر مِنْ شَيْءٍ أي شيء ما على أن من زائدة للاستغراق و «شيء» في محل الرفع مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية ومِنْ حِسابِهِمْ كما قال أبو البقاء حال منه لأن نعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالا. وليست مِنْ بمعنى الأجل خلافا لمن تكلفه.
وعَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ متعلق بمحذوف مرفوع وقع خبرا للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يجيز إعمالها في الخبر المقدم مطلقا أو منصوب وقع خبرا لما على رأي من يجوز إعمالها في الخبر المقدم عند كونه ظرفا أو حرف جر.
وَلكِنْ ذِكْرى استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما

صفحة رقم 174

أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير، ومحل ذِكْرى عند كثير من المحققين إما النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكروهم تذكيرا أو الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي ولكن عليهم ذكرى، وجوز أبو البقاء النصب والرفع أيضا لكن قدر في الأول نذكرهم ذكرى بنون العظمة، وفي الثاني، هذه ذكرى، وإلى ذلك يشير كلام البلخي، ولم يجوز الزمخشري عطفه على محل «من شيء» لأن من حسابهم يأباه إذ يصير المعنى «ولكن ذكرى» من حسابهم وهو كما ترى.
واعترض بأنه لا يلزم من العطف على مقيد اعتبار ذلك القيد في المعطوف، والعلامة الثاني يقول: إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف البتة بحكم الاستعمال تقول: ما جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكبا أو من هؤلاء القوم رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون من القوم البتة ولم يجىء الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب، قالوا:
والسر فيه أن تقدم القيود يدل على أنها أمر مسلم مفروغ عنه وأنها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وأن هذه القاعدة مخصوصة بالمفرد لذلك، وأما في الجمل فالقيد إن جعل جزءا من المعطوف عليه وإن سبق لم يشاركه فيه المعطوف كما في قوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: ٣٤] على ما في شرح المفتاح، وهذا إذا لم تقم القرينة على خلافه كما في قولك: جاءني من تميم رجل وامرأة من قريش.
وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره بعض المحققين ما يقتضيه الذوق، ومنهم من عمها كما قال الحلبي: إن أهل اللسان والأصوليين يقولون: إن العطف للتشريك في الظاهر. فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت: ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا فالظاهر اشتراك زيد وعمرو في الضرب مقيدا بيوم الجمعة. وإذا قلت: وعمرا يوم السبت لم يشاركه في قيده. والآية من القبيل الأول. فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي في المنع. وبحث فيه السفاقسي وغيره فتدبر.
ومن منع العطف على محل مِنْ شَيْءٍ لما تقدم منع العطف على «شيء» لذلك أيضا ولأن من لا تقدر عاملة بعد الإثبات لأنها إذا عملت كانت في قوة المذكورة المزيدة وهي لا تزاد في الإثبات في غير الظروف أو مطلقا عند الجمهور لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. وجوز أن يكون الضمير للذين يتقون أي لكن يذكر المتقون الخائضين ليثبت المتقون على تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر أو ليزدادوا تقوى بذلك. وهذه الآية- كما أخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأبو الشيخ عن السدي وابن جبير- منسوخة بقوله تعالى النازل في المدينة وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها [النساء: ١٤] إلخ وإليه ذهب البلخي والجبائي وفي الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ أنه لا نسخ عند أهل التحقيق في ذلك لأن قوله سبحانه: وَما عَلَى الَّذِينَ إلخ خبر ولا نسخ في الأخبار فافهم.
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي فرض عليهم وكلفوه وأمروا بإقامة مواجبه وهو الإسلام لَعِباً وَلَهْواً حيث سخرا به واستهزؤوا، وجوز أن يكون المعنى اتخذوا الدين الواجب شيئا من جنس اللعب واللهو كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ونحو ذلك أو اتخذوا ما يتدينون به وينتحلونه بمنزلة الدين لأهل الأديان شيئا من اللعب واللهو. وحاصله أنهم اتخذوا اللعب واللهو دينا، وقيل: المراد بالدين العيد الذي يعاد إليه كل حين معهود بالوجه الذي شرعه الله تعالى كعيد المسلمين أو بالوجه الذي لم يشرع من اللعب واللهو كأعياد الكفرة لأن أصل معنى الدين

صفحة رقم 175

العادة والعيد معتاد كل عام» ونسب ذلك لابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى على سائر الأقوال لا تبال بهؤلاء وامض لما أمرت به.
وأخرج ابن جرير وغيره أن المعنى على التهديد كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: ١١] وذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [الحجر: ٣]، وقيل: المراد الأمر بالكف عنهم وترك التعرض لهم. والآية عليه منسوخة بآية السيف، وهو مروي عن قتادة. ونصب لَعِباً على أنه مفعول ثان لاتخذوا وهو اختيار السفاقسي، ويفهم من ظاهر كلام البعض أنه مفعول أول و «دينهم» ثان، وفيه أخبار عن النكرة بالمعرفة. ويفهم من كلام الإمام أنه مفعول لأجله واتخذ متعد لواحد فإنه قال بعد سرد وجوه التفسير في الآية: والخامس وهو الأقرب أن المحق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أن قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا، وقد حكم الله تعالى عليها في سائر الآيات بأنها لعب ولهو. فالمراد من قوله سبحانه: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا إلخ هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه. وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الآية اه.
ولا يفى أنه أبعد من العيوق فلا تغتر به وإن جل قائله وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي خدعتهم وأطمعتهم بالباطل حتى أنكروا البعث وزعموا أن لا حياة بعدها واستهزؤوا بآيات الله تعالى. وجعل بعضهم غر من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم لذاتها حتى نسوا الآخرة. وعليه قوله:

ولما التقينا بالعشية غرني بمعروفه حتى خرجت أفوق
وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن. وقد جاء مصرحا به في قوله سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق:
٤٥] والقرآن يفسر بعضه بعضا. وقيل: الضمير لحسابهم، وقيل: للدين. وقيل: إنه ضمير يفسره قوله سبحانه: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ فيكون بدلا منه واختاره أبو حيان. وعلى الأوجه الأخر هو مفعول لأجله أي لئلا تبسل أو مخافة أو كراهة أن تبسل. ومنهم من جعله مفعولا به لذكر. ومعنى «تبسل» تحبس كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأنشد له قول زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع وقلبي مبسل علقا
وفي رواية ابن أبي حاتم عنه تسلم. وروي ذلك أيضا عن الحسن، ومجاهد، والسدي واختاره الجبائي والفراء، وفي رواية ابن جرير وغيره تفضح. وقال الراغب: تُبْسَلَ هنا بمعنى تحرم الثواب. وذكر غير واحد أن الإبسال والبسل في الأصل المنع، ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه متمنع، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه، وجاء البسل بمعنى الحرام وفرق الراغب بينهما بأن الحرام عام لما منع منه بحكم أو قهر والبسل الممنوع بالقهر، ويكون بسل بمعنى أجل ونعم، واسم فعل بمعنى اكفف وتنكير نَفْسٌ للعموم مثله في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: ١٤] أي لئلا تحبس وترهن كل نفس في الهلاك أو في النار أو تسلم إلى ذلك أو تفضح أو تحرم الثواب بسبب عملها السوء أو ذكر بحبس أو حبس كل نفس بذلك، وحمل النكرة على العموم مع أنها في الإثبات لاقتضاء السياق له، وقيل: إنها هنا في النفي معنى، وفيما اختاره أبو حيان من التفخيم وزيادة التقرير ما لا يخفى.
وقوله تعالى: لَيْسَ لَها أي النفس مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ إما استئناف للأخبار بذلك أو في محل رفع صفة نَفْسٌ أو في محل نصب على الحالية من ضمير كَسَبَتْ أو من نفس فإنه في قوة نفس

صفحة رقم 176

كافرة أو نفوس كثيرة واستظهر بعض الحالية. ومن دون الله متعلق بمحذوف وقع حالا من «ولي»، وقيل: خبرا لليس، ولَها حينئذ متعلق بمحذوف على البيان، ومن جعلها زائدة لم يعلقها بشيء، والمراد أنه لا يحول بينها وبين الله تعالى بأن يدفع عقابه سبحانه عنها ولي ولا شفيع وَإِنْ تَعْدِلْ أي إن تفد تلك النفس كُلَّ عَدْلٍ أي كل فداء. و «كل» نصب على المصدرية لأنه بحسب ما يضاف إليه لا مفعول به، وقيل: إنه صفة لمحذوف وهو بمعنى الكامل كقولك: هو رجل كل رجل أي كامل في الرجولية. والتقدير عدلا كل عدل. ورد بأن كلا بهذا المعنى يلزم التبعية والإضافة إلى مثل المتبوع نعتا لا توكيدا كما في التسهيل ولا يجوز حذف موصوفه.
وقوله تعالى: لا يُؤْخَذْ مِنْها جواب الشرط، والفعل مسند إلى الجار والمجرور كسير من البلد لا إلى ضمير العدل لأن العدل كما علمت مصدر وليس بمأخوذ بخلافه في قوله تعالى: لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ [البقرة:
٤٨] فإنه فيه بمعنى المفدى به، وجوز كون الإسناد إلى ضميره مرادا به الفدية على الاستخدام إلا أنه لا حاجة إليه مع صحة الإسناد إلى الجار والمجرور، وبذلك يستغنى أيضا عن القول بكونه راجعا إلى المعدول به المأخوذ من السياق.
وقيل: معنى الآية وإن تقسط تلك النفس كل قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة وإنما تقبل في الدنيا أُولئِكَ أي المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا الَّذِينَ أُبْسِلُوا أي حرموا الثواب وسلموا للعذاب أو بأحد المعاني الباقية للإبسال بِما كَسَبُوا أي بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة.
واسم الإشارة مبتدأ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجة المشار إليهم في سوء الحال، وخبره الموصول بعده، والجملة استئناف سيق إثر تحذير أولئك من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتلون بذلك.
وقوله سبحانه لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ استئناف آخر مبين لكيفية الإبسال المذكور مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: ماذا لهم حين أبسلوا؟ فقيل: لهم شراب من حميم أي ماء حار يتجرجر ويتردد في بطونهم ويتقطع به أمعاؤهم وَعَذابٌ أَلِيمٌ بنار تشتعل بأبدانهم كما هو المتبادر من العذاب بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا، ويطلق الحميم على الماء البارد فهو ضد كما في القاموس. وجوز أبو البقاء أن تكون جملة لَهُمْ شَرابٌ حالا من ضمير أُبْسِلُوا وأن تكون خبرا لاسم الإشارة ويكون الَّذِينَ نعتا له أو بدلا منه.
وأن تكون خبرا ثانيا. واختار كما يشير إليه كلامه أن تكون الإشارة إلى النفس المدلول عليها بنفس وجعلت الجملة لبيان تبعة الإبسال. واختار كثير من المحققين ما أشرنا إليه.
وترتيب ما ذكر من العذابين على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضا حسبما ينطق به قوله سبحانه بِما كَسَبُوا لأنه العمدة في أسباب العذاب والأهم في باب التحذير أو أريد- كما قيل-: بكفرهم ما هو أعم منه ومن مستتبعاته من المعاصي.
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي أن المشركين قالوا للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال الله تعالى: قُلْ إلخ.
وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأصنام. وفي توجيه الأمر إليه صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى من تعظيم شأن المؤمنين أو أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادة الله تعالى الجامع لجميع صفات الألوهية التي من جملتها القدرة على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا إن عبدناه ولا على ضرنا إذا تركناه، وأدنى مراتب المعبودية القدرة على ذلك. وفاعل «ندعو» وكذا ما عطف عليه من قوله سبحانه: وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا عام لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم ولغيره وليس مخصوصا بالصديق رضي الله تعالى عنه

صفحة رقم 177

بناء على أنه سبب النزول. وفي الآية تغليب إذ لا يتصور الرد على العقب المراد به الرجوع إلى الشرك منه صلّى الله عليه وسلّم.
والمعنى أيليق بنا معشر المسلمين ذلك. والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال: رجع على عقبه إذا انثنى راجعا.
ويكنى به- كما قيل- عن الذهاب من غير رؤية موضع القدم وهو ذهاب بلا علم بخلاف الذهاب مع الإقبال وقيل:
الرد على الأعقاب بمعنى الرجوع إلى الضلال والجهل شركا أو غيره. والجمهور على الأول. والتعبير عن الرجوع إلى الشرك بالرد على الأعقاب- كما قال شيخ الإسلام- لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر. وإيثار نُرَدُّ على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد برد الغير تصريحا بمخالفة المضلين وقطعا لأطماعهم الفارغة وإيذانا بأن الارتداد من غير راد ليس في حيز الاحتمال ليحتاج إلى نفيه وإنكاره بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ أي إلى التوحيد والإسلام أو إلى سائر ما يترتب عليه الفوز في الآخرة على ما قيل. والظرف متعلق بنرد مسوق لتأكيد النكير لا لتحقيق معنى الرد وتصويره فقط وإلا لكفى أن يقال: بعد إذ اهتدينا كأنه قيل: أنرد إلى ذلك بإضلال المضل بعد إذ هدانا الله الذي لا هادي سواه. وليست الآية من باب التنازع فيما يظهر. ولا أن جملة «نرد» في موضع الحال من ضمير «ندعو» أي ونحن نرد وجوزه أبو البقاء.
وقوله سبحانه: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ نعت لمصدر محذوف أي أنرد ردا مثل رد الذي استهوته إلخ.
وقدر الطبرسي أندعو دعاء مثل دعاء الذي إلخ وليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إنه في موضع الحال من فاعل «نرد» أي أنرد على أعقابنا مشبهين بذلك. واعترضه صاحب الفرائد بأن حاصل الحالية أنرد في حال مشابهتنا كقولك: جاء زيدا راكبا أي في حال ركوبه والرد ليس في حال المشابهة كما أن المجيء في حال الركوب.
وأجاب عنه الطيبي بأن الحال مؤكدة كقوله سبحانه: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: ٢٥] فلا يلزم ذلك ولا يخفى أنه في حيز المنع. والاستهواء استفعال من هوى في الأرض يهوي إذا ذهب كما هو المعروف في اللغة كأنها طلبت هويه وحرصت عليه أي كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة والقفار. والكلام من المركب العقلي أو من التمثيل حيث شبه فيه من خلص من الشرك ثم نكص على عقبيه بحال من ذهبت به الشياطين في المهمة وأضلته بعد ما كان على الجادة المستقيمة. وليس هذا مبنيا على زعمات العرب كما زعم من استهوته الشياطين. وادعى بعضهم أن استهوى من هوى بمعنى سقط يقال: هوى يهوي هويا بفتح الهاء إذا سقط من أعلى إلى أسفل. والمقصود تشبيه حال هذا الضال بحال من سقط من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة لأنه في غاية الاضطراب والضعف والدهشة. ونظير ذلك قوله تعالى: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ [الحج: ٣١] وفيه بعد وإن قال الإمام:
إنه أولى من المعنى الأول مع أنه يتوقف على ورود الاستفعال من هوى بهذا المعنى، وجوز أبو البقاء في «الذي» أن يكون مفردا أي كالرجل أو كالفريق الذي وأن يكون جنسا. والمراد الذين.
وقرأ حمزة «استهواه» بألف ممالة مع التذكير فِي الْأَرْضِ أي جنسها. والجار متعلق باستهوته أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي كائنا في الأرض. وكذا قوله سبحانه: حَيْرانَ حال منه أيضا على أنها بدل من الأولى أو حال ثانية عند من يجيزها أو من «الذي» أو من المستكن في الظرف. وجوز أبو البقاء أن يكون الجار حالا من حَيْرانَ وهو ممنوع من الصرف ومؤنثه حيرى أي تائها ضالا عن الجادة لا يدري ما يصنع.
لَهُ أي للمستهوي أَصْحابٌ أرى رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي الطريق المستقيم أطلق عليه مبالغة على حد- زيد عدل- والجار الأول متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وأَصْحابٌ مبتدأ، والجملة إما في محل نصب على أنها صفة لحيران أو حال من الضمير فيه أو من الضمير في الظرف أو بدل من الحال التي قبلها. وإما

صفحة رقم 178

لا محل لها على أنها مستأنفة، وجملة يَدْعُونَهُ صفة لأصحاب. وقوله سبحانه: ائْتِنا يقدر فيه قول على أنه بدل من يَدْعُونَهُ أو حال من فاعله. وقيل: محكي بالدعاء لأنه بمعنى القول. وهذا مبني على الخلاف بين البصريين والكوفيين في أمثال ذلك. والمشهور التقدير أي يقول ائتنا. وفيه إشارة إلى أنهم مهتدون ثابتون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق ليدعى إلى إتيانه وإنما يدرك سمت الداعي ومورد النعيق.
وقرأ ابن مسعود كما رواه ابن جرير وابن الأنباري عن أبي إسحاق «بينا» على أنه حال من الهدى أي واضحا قُلْ لهؤلاء الكفار إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هدانا إليه وهو الإسلام هُوَ الْهُدى أي وحده كما يدل عليه تعريف الطرفين أو ضمير الفصل وما عداه ضلال محض وغي صرف. وتكرير الأمر للاعتناء بشأن المأمور به أو لأن ما سبق للزجر عن الشرك وهذا حث على الإسلام وهو توطئة لما بعده فإن اختصاص الهدى بهداه تعالى مما يوجب امتثال الأوامر بعده وَأُمِرْنا عطف على إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى داخل معه تحت القول، واللام في قوله سبحانه: لِنُسْلِمَ للتعليل ومفعول أمرنا الثاني محذوف أي أمرنا بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وقيل: هي بمعنى الباء أي «أمرنا» بالإسلام. وتعقبه أبو حيان بأنه غريب لا تعرفه النحاة، وقيل: زائدة أي أمرنا أن نسلم على حذف الباء، وقال الخليل، وسيبويه، ومن تابعهما: الفعل في هذا وفي نحو يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: ٢٦] مؤول بالمصدر وهو مبتدأ واللام وما بعدها خبره أي أمرنا للإسلام، وهو نظير- تسمع بالمعيدي خير من أن تراه- ولا يخفى بعده.
وذهب الكسائي والفراء إلى أن اللام حرف مصدري بمعنى أن بعد أردت وأمرت خاصة فكأنه قيل: وأمرنا أن نسلم، والتعرض لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمر وتأكيد وجوب الامتثال به.
وقوله تعالى: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ أي الرب في مخالفة أمره سبحانه بتقدير حرف الجر وهو عطف على الجار والمجرور السابق، وقد صرح بدخول أن المصدرية على الأمر سيبويه وجماعة، وجوز أن يعطف أَنْ أَقِيمُوا على موضع لِنُسْلِمَ كأنه قيل: أمرنا أن نسلم وأن أقيموا. وقيل: العطف على مفعول الأمر المقدر أي أمرنا بالإيمان وإقامة الصلاة، وقيل: على قوله تعالى: إِنَّ هُدَى اللَّهِ إلخ. أي قل لهم إن هدى الله هو الهدى وأن أقيموا، وقيل: على ائْتِنا، وقيل: غير ذلك.
وذكر الإمام أنه كان الظاهر أن يقال: أمرنا لنسلم ولأن نقيم إلا أنه عدل لما ذكر للإيذان بأن الكافر ما دام كافرا كان كالغائب الأجنبي فخوطب بما خوطب به الغيب وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين صار كالقريب الحاضر فخوطب بما يخاطب به الحاضرون.
وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جملة مستأنفة موجبة للامتثال بما أمر به سبحانه من الأمور الثلاثة، وتقديم المعمول لإفادة الحصر مع رعاية الفواصل أي إليه سبحانه لا إلى غيره تحشرون يوم القيامة.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي هذين الأمرين العظيمين. ولعله أريد بخلقهما خلق ما فيهما أيضا، وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العلويات والسفليات. وقوله سبحانه: بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل خَلَقَ أي قائما بالحق، ومعنى الآية حينئذ كما قيل كقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: ٢٧] وجوز أن يكون حالا من المفعول أي متلبسة بالحق، وأن يكون صفة لمصدر الفعل المؤكد أي خلقا متلبسا بالحق وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ تذييل لما تقدم والواو للاستئناف. واليوم بمعنى الحين متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وقَوْلُهُ مبتدأ والْحَقُّ صفته. والمراد

صفحة رقم 179

بالقول المعنى المصدري أي القضاء الصواب الجاري على وفق الحكمة فلذا صح الإخبار عنه بظرف الزمان أي وقضاؤه سبحانه المعروف بالحقية كائن حين يقول سبحانه لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء وتقديم الخبر للاهتمام بعموم الوقت كما قيل، ونفي السعد كونه للحصر لعدم مناسبته وجعل التقديم لكونه الاستعمال الشائع.
وتعقب بأن المعروف الشائع تقديم الخبر الظرفي إذا كان المبتدأ نكرة غير موصوفة أو نكرة موصوفة أما إذا كان معرفة فلم يقله أحد. وقيل: إن قَوْلُهُ الْحَقُّ مبتدأ وخبر ويَوْمَ ظرف لمضمون الجملة والواو بحسب المعنى داخلة عليها والتقديم للاعتناء به من حيث إنه مدار الحقية، وترك ذكر المقول له للثقة بغاية ظهوره. والمراد بالقول كلمة كُنْ تحقيقا أو تمثيلا والمعنى وأمره سبحانه المتعلق بكل شيء يريد خلقه من الأشياء حين تعلقه به لا قبله ولا بعده من أفراد الأحيان الحق أي المشهود له بالحقية، وقيل: إن الواو للعطف ويَوْمَ إما معطوف على السَّماواتِ فهو مفعول لخلق مثله، والمراد به يوم الحشر أي وهو الذي أوجد السماوات والأرض وما فيهما وأوجد يوم الحشر والمعاد، وإما على الهاء في «اتقوه» فهو مفعول به مثله أيضا، والكلام على حذف مضاف أي اتقوا الله تعالى واتقوا هول ذلك اليوم وعقابه وفزعه. وإما متعلق بمحذوف دل عليه «بالحق» أي يقوم بالحق يوم إلخ، وهو إعراب متكلف كما قال أبو حيان. وقيل: إنه معطوف على «بالحق» وهو ظرف لخلق أي خلق السماوات والأرض بعظمها حين قال كن فكان. والتعبير بصيغة الماضي إحضار للأمر البديع. وفيه أنه يتوقف على صحة عطف الظرف على الحال بناء على أن الحال ظرف في المعنى وهو تكلف. «وقوله الحق» مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون. والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين يقوم القيامة فيكون التكوين إحياء الأموات للحشر. وقيل غير ذلك فتدبر.
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي استقر الملك له في ذلك اليوم صورة ومعنى بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا المصححة للمالكية في الجملة فلا يدعيه غيره بوجه. والصور قرن ينفخ فيه كما ثبت في الأحاديث والله تعالى أعلم بحقيقته. وقد فصلت أحواله في كتب السنة. وصاحبه إسرافيل عليه السلام على المشهور.
وأخرج البزار والحاكم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن ملكين موكلين بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان.
وقرأ قتادة «في الصّور» جمع صورة والمراد بها الأبدان التي تقوم بعد نفخ الروح فيها لرب العالمين عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي كل غيب وشهادة وَهُوَ الْحَكِيمُ في كل ما يفعله الْخَبِيرُ بجميع الأمور الخفية والجلية.
والجملة تذييل لما تقدم وفيه لف ونشر مرتب هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ. اعلم أن بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ذكروا أن للغيب مراتب، أولاها غيب الغيوب وهو علم الله تعالى المسمى بالعناية الأولى.
وثانيتها غيب عالم الأرواح وهو انتقاش صورة كل ما وجد وسيوجد من الأزل إلى الأبد في العالم الأول العقلي الذي هو روح العالم المسمى بأم الكتاب على وجه كلي وهو القضاء السابق. وثالثتها غيب عالم القلوب وهو ذلك الانتقاش بعينه مفصلا تفصيلا علميا كليا وجزئيا في عالم النفس الكلية التي هي قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ. ورابعتها غيب عالم الخيال وهو انتقاش الكائنات بأسرها في النفوس الجزئية الفلكية منطبعة في أجرامها معينة مشخصة مقارنة لأوقاتها على ما يقع بعينه. وذلك العالم هو الذي يعبر عنه بالسماء الدنيا إذ هو أقرب مراتب الغيوب إلى عالم الشهادة ولوح القدر الإلهي الذي هو تفصيل قضائه سبحانه، وذكروا أن علم الله تعالى الذي هو العناية الأولى عبارة عن إحاطته سبحانه بالكل حضورا فالخزائن المشتملة على جميع الغيوب حاضرة لذاته وليس هناك شيء زائد ولا يعلمها إلا هو

صفحة رقم 180

سبحانه. وكذا أبواب تلك الخزائن مغلقة ومفاتيحها بيده تعالى لا يطلع على ما فيها أحد غيره عز وجل وقد يفتح منها ما شاء لمن يشاء.
هذا وقد يقال: حقق كثير من الراسخين في العلم أن حقائق الأشياء وماهياتها ثابتة في الأزل وهي في ثبوتها غير مجعولة وإنما المجعول الصور الوجودية وهي لا تتبدل ولا تتغير ولا تتصف بالهلاك أصلا كما يشير إليه قوله تعالى:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] بناء على عود الضمير إلى الشيء وتفسير الوجه بالحقيقة وعلم الله تعالى بها حضوري وهي كالمرايا لصورها الحادثة فتكون تلك الصورة مشهودة لله تعالى أزلا مع عدمها في نفسها ذهنا وخارجا، وقد بينوا انطواء العلم بها في العلم بالذات بجميع اعتباراته التي منها كونه سبحانه مبدأ لإفاضة وجوداتها عليها بمقتضى الحكمة فيمكن أن يقال: إن المفاتح بمعنى الخزائن إشارة إلى تلك الماهيات الأزلية التي هي كالمرايا لما غاب عنا من الصور وتلك حاضرة عنده تعالى أزلا ولا يعلمها علما حضوريا غير محتاج إلى صورة ظلية إلا هو جل وعلا، وهذا ظاهر لمن أخذت العناية بيده. وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ أي بر النفوس من ألوان الشهوات ومراتبها وَالْبَحْرِ أي بحر القلوب من لآلىء الحكم ومرجان العرفان. وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ من أوراق أشجار اللطف والقهر في مهيع النفس وخصم القلب إِلَّا يَعْلَمُها في سائر أحوالها. وَلا حَبَّةٍ من بذر الجلال والجمال فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وهو عالم الطبائع والأشباح وَلا رَطْبٍ من الإلهامات التي ترد على القلب بلطف من غير انزعاج وَلا يابِسٍ من الوساوس والخطرات التي تفزغ منها النفس حين ترد عليها إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وهو علمه سبحانه الجامع، وبعضهم لم يؤول شيئا من المذكورات وفسر الكتاب بسماء الدنيا لتعين هذه الجزئيات فيها، ويمكن أن يقال: إن الكتاب إشارة إلى ماهيات الأشياء وهي المسماة بالأعيان الثابتة، ومعنى كونها فيها ما أشرنا إليه أن تلك الأعيان كالمرايا لهذه الموجودات الخارجية وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي ينيمكم وقيل: يتوفاكم بطيران أرواحكم في الملكوت وسيرها في رياض حضرات اللاهوت.
وقيل: يمكن أن يكون المعنى وهو الذي يضيق عليكم إلى حيث يكاد تزهق أرواحكم في ليل القهر وتجلي الجلال وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ أي كسبتم بِالنَّهارِ من الأعمال مطلقا، وقيل من الأعمال الشاقة على النفس المؤلمة لها كالطاعات.
وقيل: يحتمل أن يكون المعنى ويعلم ما كسبتموه بنهار التجلي الجمالي من الأنس أو شوارد العرفان ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي فيما جرحتم من صور أعمالكم ومكاسبكم الحسنة والقبيحة، وقيل الحسنة، وقيل فيما كسبتموه في نهار التجلي، وأول الأقوال هنا وفيما تقدم أولى لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي معين عنده ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ في عين الجمع المطلق ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بإظهار صور أعمالكم عليكم وجزائكم بها وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ لأنه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وله الظهور حسبما تقتضيه الحكمة ولا تقيده المظاهر وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: ٢٠].
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً وهي للقوى التي ينطبع فيها الخير والشر ويصير هيئة أو ملكة ويظهر عند انسلاخ الروح ويتمثل بصور مناسبة أو القوى السماوية التي تنتقش فيها الصور الجزئية ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا قيل: هم نفس أولئك الحفظة وقد أودع الله تعالى فيهم القدرة على التوفي ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ في عين الجمع المطلق مَوْلاهُمُ أي مالكهم الذي يلي سائر أحوالهم إذ لا وجود لها إلا به الْحَقِّ وكل ما سواه باطل. وذكر بعض أهل الإشارة أن هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى بناء على أن الله تعالى

صفحة رقم 181

أخبر برجوع العبد إليه سبحانه وخروجه من سجن الدنيا وأيدي الكاتبين واصفا نفسه له بأنه مولاه الحق المشعر بأن غيره سبحانه لا يعد مولى حقا، ولا شك أنه لا أعز للعبد من أن يكون مرده إلى مولاه أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ إذ ظهور الأعمال بالصور المناسبة آن مفارقة الروح للجسد.
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وهي الغواشي النفسانية وَالْبَحْرِ وهي حجب صفات القلب تَدْعُونَهُ إلى كشفها تَضَرُّعاً في نفوسكم وَخُفْيَةً في أسراركم لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ الغواشي والحجب لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ نعمة الإنجاء بالاستقامة والتمكين قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها بأنوار تجليات صفاته ومن كل كرب سوى ذلك بأن يمن عليكم بالفناء ثُمَّ أَنْتُمْ بعد علمكم بقدرته تعالى على ذلك تُشْرِكُونَ به أنفسكم وأهواءكم فتعبدونها قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ بأن يحجبكم عن النظر في الملكوت أو بأن يقهركم باحتجابكم بالمعقولات والحجب الروحانية أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ بأن لا يسهل عليكم القيام على باب الربوبية بنعت الخدمة وطلب الوصلة أو بأن يحجبكم بالحجب الطبيعية أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فرقا مختلفة كل فرقة على دين قوة من القوى تقابل الفرقة الأخرى أو يجعل أنفسكم مختلفة العقائد كل فرقة على دين دجال وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالمنازعات والمجادلات حسبما يقتضيه الاختلاف لِكُلِّ نَبَإٍ أي ما ينبأ عنه مُسْتَقَرٌّ أي محل وقوع واستقرار وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ حين يكشف عنكم حجب أبدانكم وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بإظهار صفات نفوسهم وإثبات العلم والقدرة لها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لأنهم محجوبون مشركون وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ وهم المتجردون عن صفاتهم مِنْ حِسابِهِمْ أي من حساب هؤلاء المحجوبين مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى أي فليذكروهم بالزجر والردع لعلهم يتقون يحترزون عن الخوض.
وجوز أن يكون المعنى أن المتجردين لا يحتجبون بواسطة مخالطة المحجوبين ولكن ذكرناهم لعلهم يزيدون في التقوى وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أي اترك الذين عادتهم اللعب واللهو إلخ فإنهم قد حجبوا بما رسخ فيهم عن سماع الإنذار وتأثيره فيهم وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن كراهة أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي تحجب بكسبها بأن يصير لها ملكة أي ذكر من لم يكن دينه اللعب واللهو لئلا يكون دينه ذلك وأما من وصل إلى ذلك الحد فلا ينفعه التذكير أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وهو شدة الشوق إلى الكمال وَعَذابٌ أَلِيمٌ وهو الحرمان عنه بسبب الاحتجاب بما كسبوا قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا أي أنعبد من ليس له قدرة على شيء أصلا إذ لا وجود له حقيقة وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بالشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى التوحيد الحقيقي كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ من الوهم والتخيل فِي الْأَرْضِ أي أرض الطبيعة ومهامه النفس حَيْرانَ لا يدري أين يذهب لَهُ أَصْحابٌ من الفكر والقوى النظرية يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى الحقيقي يقولون ائْتِنا فإن الطريق الحق عندنا وهو لا يسمع قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ وهو طريق التوحيد هُوَ الْهُدى وغيره غيره وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بمحو صفاتنا وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ الحقيقية وهو الحضور القلبي.
قال ابن عطاء: إقامة الصلاة حفظها مع الله تعالى بالأسرار وَاتَّقُوهُ أي اجعلوه سبحانه وقاية بالتخلص عن وجودكم وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بالفناء فيه سبحانه وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
أي سماوات الأرواح وَالْأَرْضَ أي أرض الجسم بِالْحَقِّ أي قائما بالعدل الذي هو مقتضى ذاته وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ

صفحة رقم 182
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية