
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ... (٣٨)
* * *
ذكر في الآية السابقة بيان قدرة الله تعالى على أن ينزل أي آية يريدونها، ولكنه لَا ينزلها، لأنهم لَا يعلمون ولا يفهمون ما يناسبهم، والله تعالى لَا يسير

وراء أهوائهم، وفي هذه يؤكد قدرته وعلمه، وسعة إحاطته بالأحياء جميعًا، وقد قال الزمخشري في ذلك: (الغرض من ذكر ذلك سعة الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها مهيمن على أحوالها لَا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان).
ومؤدى هذا الكلام إثبات أن علم الله تعالى الواسع كان من مقتضاه ألا يجيب ما طلبوا؛ لأنهم لَا يعلمون المآل، وهو يعلمه، كما يعلم كل حيوان من دابة تدب، وطائر يطير، ويعرف ما يحتاج إليه وما لَا يحتاجه، لقد بين الله سبحانه وتعالى عظم خلق الحيوان، وأنها جماعات وطوائف مخصوصة، كل طائفة تكون جنسا قائما، وقد فسرها الأصفهاني بقوله قوله تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِير بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) أي كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالشرنقة، ومدخرة كالنمل، ومعتمد على قوت وقته كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع. والنص فيه تعميم للأنواع كلها لأن اجتماع (ما)، و (من) يدل على الاستغراق للجماعات والآحاد معًا، فهي في علم الله تعالى جماعات وأجناس وطبائع مختلفة مثلكم - وقوله تعالى: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) لإفادة التعميم في أن علمه تعالى يشمل الطائر في الجو، كما يشمل الدابة التي تدب في الأرض، والطائر الذي يطير، فذكر الذي يطير بجناحيه يدل على علم الله تعالى على ما في الأرض من دواب تدب، وأسماك ولآلئ تسبح، وما في الجو من طيور تطير، وكل هذه أجناس ذات طبائع مختلفة، وذكر الجناحين في الطير لتوجيه الأنظار إلى الإبداع في الصنع مع جمال التكوين والقدرة.
وفى ذلك بيان لقدرة الله تعالى، وبيان لأن الإنسان لَا يصح أن يعلو ويستكبر فأمثاله من الأحياء عدد كثير، وليس عددًا قليلا.

(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).
ما تركنا شيئًا لم يحص في الكتاب أي في المكتوب المسجل بعلم الله وهو اللوح المحفوظ، فالكتاب هو اللوح المحفوظ، وقد ذكر ذلك صراحة في آية أخرى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦).
أي مفصح ذاكر لأسمائها وأعدادها وأنواعها. وهذا أوضح تفسير لمعنى (مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شيءٍ) وقال بعض المفسرين: الكتاب هو القرآن ومعنى التفريط أنه لم يغادر شيئا من الأحكام إلا بينه. وأسرف آخرون فقالوا: إن القرآن ما ترك علم شيء قط من الشرائع أو غيرها من الأشياء والأحياء.
والأبين هو ما ذكرناه أولا - لأنه المتفق مع النصوص الأخرى، وثانيًا لأنه المناسب لذكر الأحياء. ولقد ذكر الله تعالى من بعد ذلك أن كل الأحياء يحشرون إلى ربهم، فقال تعالت كلماته: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي يجمعون إلى ربهم الذي خلقهم من عدم، والتعبير بـ " ثم " للإشارة إلى أنهم أعداد لَا تحصى في علمنا، وجمعهم ليس يسيرًا في ذاته، وإن كان بالنسبة لله تعالى أمرًا ميسرًا، وفيه أيضًا بيان لبعد الموت عن البعث والقيامة، وإشارة لاستغراقهم جميعا.
* * *