
﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ﴾ الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان أو حيوان. والمراد بها هنا الحيوان ﴿إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ تحتاج إلى تدبير رزقها ومعايشها، وتدل على خالقها المتكفل بأرزاقها؛ وفي الآية دليل على وجوب السير مع هذه الأمم بالحسنى، وعدم مجاوزة الحدود التي رسمها الله تعالى في معاملتها؛ ووجوب الرفق بها في سائر الحالات؛ أليست أمماً أمثالنا؟
وقد شغف أناس كثيرون من علماء الحيوان والنبات بدراسة هذه الأمم - من الحيوان والطير - فرأوا عجباً يضيق بصنعه بنو الإنسان فإنك لو أردت أن ترى آية في الاختراع، وغاية في الإبداع؛ لما وجدت أروع ولا أبدع من لوح الشمع الذي يصنعه النحل بنفسه؛ فإن الرسام المبدع لا يكاد يستطيع أن يرسم بأدواته وأقلامه ما رسمه النحل بتوفيق من ربه؛ وناهيك باختياره للورود والأزهار التي يرتشف منها الرحيق الذي يحوله - بقدرة ربه وإلهامه - إلى شراب مختلف الطعوم والألوان
هذا عدا النظام الدقيق الذي تسير عليه مملكة النحل؛ مما تعجز أساطين العقول البشرية عن الإتيان بمثله؛ فسبحان من خلقه وسخره، وأوحى إليه بأمره؛ فاستمع إلى وحي ربه؛ شأن فضلاء بني الإنسان
ولو تأملت إلى مملكة النمل، وما هي عليه من نظام محكم دقيق، لصغرت أمامك نفسك، وهانت عليك حكمتك وتدبيرك؛ فقد ثبت أنه من خير الأمم المنظمة؛ التي تدبر حيانها ومعيشتها، وتحفظ في يومها لغدها، وتثابر في عملها حتى تنال مرادها؛ وترى النمل إذا نزلت به نازلة، أو اجتاحته جائحة؛ لا تفتر عزيمته، ولا تنهار قوته؛ بل يعتبر النمل نفسه وحدة لا تتجزأ، وأنه يجب التضحية بالفرد لمصلحة المجموع؛ فكما يدفع الإنسان عن نفسه - ما يصيبه في هذه الحياة - بيده أو بأي عضو من أعضائه، ويضحي بزهرة أبنائه في سبيل الدفاع عن أرضه ووطنه؛ فكذلك النمل يضحي ببعضه في سبيل حياة باقية؛ فتراه إذا دهمه مطر أو سيل

فأودى بمنازله، وأطاح بمملكته؛ فجعلها خراباً يباباً؛ وصار الفناء الشامل، والهلاك المدمر قيد خطوة منه، حينئذ تراه يتجمع ألوفا مؤلفة، وملايين لا عداد لها فيتكور على نفسه، فيحمل السيل هذه المجموعات الهائلة منه حتى تستقر على اليابسة - بعد أن يبيد أكثرها اختناقاً وغرقاً - فيبدأ من نجا من أفراد هذه المملكة في العمل والإنشاء والتعمير، كأن لم تحل بهم داهية تذهب بلب الحكماء، وتعصف بعقول العقلاء وتراهم يبدأون بما فيه قوام حياتهم؛ فيلتقطون الحبوب - التي اختزنوها ونالتها مياه الأمطار - فيجففونها في الشمس خشية التلف، ويعيدونها إلى مخازنها التي أعدوها لها من قبل
والذي يبدو أن الله تعالى خلق هذه المخلوقات وأبدع هذه الكائنات؛ لخدمة بني الإنسان ومنفعته الخاصة؛ ولا تقف هذه المنافع عند المنفعة المادية فحسب، بل هناك منافع أدبية وتعليمية لا حد لها؛ فالمؤمن الصادق الإيمان يجب عليه أن يقلد هذه الأمم - التي هي دونه في الخلقة، وفوقه في الخلق - فلا يعيش لنفسه فقط، ولا يقصر جهده على ما يعود عليه وحده بالمنفعة؛ بل يجب أن يكون كالنحلة: دائب العمل لمصلحة الآخرين؛ فما من شك أن النحل يأكل من الثمار والأزهار ليحفظ نفسه وحياته؛ ولكنه لا يكتفي بهذا القدر؛ بل يسعى جاهداً لتوفير القوت والشراب لغيره
وكذلك النمل: فإن تدبيره لمعايشه؛ يفوق تدبير كثير من المخلوقات؛ فإن مثابرته وكده، وتضحية بعضه في سبيل بعضه؛ كل ذلك سخره الله تعالى ليستفيد منه بنو الإنسان ما يجعلهم أهلاً للخلافة في هذه الأرض؛ ليعمروها بالخير والبر فتبارك الخالق البارىء المصور؛ الهادي للحيوان، والمنعم على الإنسان فليتدبر ذلك من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (انظر آية ٦٩ من سورة النحل) ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ﴾ ما تركنا في اللوح المحفوظ ﴿مِن شَيْءٍ﴾ لم نثبته ونبينه ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ﴾ يوم القيامة ﴿يُحْشَرُونَ﴾ يجمعون؛ فيقتص للجماء من القرناء؛ بل يقتص من بني الإنسان، ما فعله بالحيوان (انظر آية ٤٠ من سورة النبأ)