آيات من القرآن الكريم

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ

٩- الله مصدر التشريع والتحليل والتحريم، فلا يحق لإنسان الافئتات على حق الله في ذلك.
١٠- على الإنسان الاعتبار والاتعاظ بأحوال الأمم الغابرة التي كذبت الرسل، وعليه النظر في الكون للاستدلال بآياته الكثيرة على قدرة الله وعلمه وعظمته.
١١- الناس في الحياة في تسابق وتنافس واختبار، ليعلم المفسد من المصلح، والجزاء ينتظر الجميع، والله يمهل ولا يهمل ليتوب الإنسان ويصلح شأنه، ورحمة الله وسعت كل شيء.
أدلة وجود الله ووحدانيته والبعث
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)
الإعراب:
الظُّلُماتِ مفعول جَعَلَ وهو يتعدى إلى مفعول واحد بمعنى خلق. وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَجَلٌ: مبتدأ مرفوع، ومُسَمًّى: صفته. وخبره: عِنْدَهُ. وجاز أن يكون مبتدأ وإن كان نكرة لأنه وصفه بمسمى، والنكرة إذا وصفت قربت من المعرفة، فجاز أن يكون مبتدأ كالمعرفة.

صفحة رقم 129

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ هُوَ: كناية عن الأمر والشأن. واللَّهُ:
مبتدأ، وخبره: إما يَعْلَمُ، وتقديره: الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض. وإما أن يكون خبره فِي السَّماواتِ ويكون المعنى: هو المعبود في السموات.
البلاغة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ صيغة تفيد القصر، أي لا يستحق الحمد والثناء إلا الله.
جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ بينهما طباق.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فيه استبعاد أن يعدلوا به غيره بعد قيام الأدلة على قدرته. وإظهار كلمة بِرَبِّهِمْ بوضعه موضع الضمير لزيادة التشنيع والتقبيح، كما أن إضافته إليهم لتربية المهابة والتذكير بمصدر النعمة.
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الثناء بالجميل على الفعل الاختياري الحسن، تعليما لأصول الإيمان والثناء.
والمدح أعم من الحمد لأنه يحصل للعاقل ولغير العاقل، والحمد أعم من الشكر لأن الأول تعظيم الفاعل لأجل الإنعام عليك أو على غيرك، وأما الشكر فهو لأجل الإنعام الواصل إليك.
والفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب: أن الخلق هو التقدير والعلم النافذ في جميع الكليات والجزئيات. والفاطر: الموجد المبدع، وفيه إشارة إلى صفة القدرة. والرب: مشتمل على الأمرين «١».
خَلَقَ الخلق: التقدير، أي جعل الشيء بمقدار معين بحسب علمه تعالى. وَجَعَلَ اي انشأ، والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل عام يشمل الإنشاء مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ويشمل التشريع والتقنين، كما في قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [المائدة ٥/ ٩٧] أي شرع، ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان «٢». وخص السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين.

(١) تفسير الرازي: ١٢/ ١٤٢.
(٢) مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف ٧/ ١٨٩] وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الإسراء ١٧/ ٦] وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام ٦/ ١] لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار.

صفحة رقم 130

الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أي أنشأ كل ظلمة ونور، وجمع الظلمات وأفرد النور لكثرة أسبابها، والنور واحد وإن تعددت مصادره. وقدمت الظلمات على النور، لأنها أسبق في الوجود، فقد وجدت مادة الكون المظلمة أولا. أما السبب في جمع السموات وإفراد الأرض مع أن الأرضين كثيرة وهي سبع كالسماوات لقوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق ٦٥/ ١٢] فهو أن السماء فاعل مؤثر، والأرض قابل متأثر، والمؤثر متعدد يحصل بسببه الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة، فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر، واختلت مصالح العالم، أما الأرض فهي قابلة للأثر، والقابل الواحد كاف في القبول «١». وهذا الخلق والإبداع، والإنشاء من دلائل وحدانية الله.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مع قيام هذا الدليل. يَعْدِلُونَ يعدلون به غيره أي يجعلون له عدلا مساويا له في العبادة والدعاء. خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ بخلق أبيكم آدم منه. ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حكم به، وحدّد لكم أمدا تموتون عند انتهائه، والأجل: المدة المضروبة للشيء.
ثُمَّ أَنْتُمْ أيها الكفار. تَمْتَرُونَ تشكّون في البعث، بعد قيام الدلائل والعلم أنه ابتدأ خلقكم، ومن قدر على الابتداء، فهو أقدر على الإعادة.
وَهُوَ اللَّهُ مستحق للعبادة. يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ما تسرون وما تجهرون به بينكم.
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ تعملون من خير وشر.
التفسير والبيان:
كل أنواع الحمد والثناء والشكر والمدح لله تعالى خالق السموات والأرض، فهو المستحق للحمد بما أنعم على العباد في خلقه السموات التي تشتمل على المصابيح الليلية من نجوم وكواكب وشمس وقمر، وعلى الفضاء سواء أكان فيه هواء أم لا، وعلى الأثير الذي ينقل الصوت، وعلى الأرض قرار المخلوقات ومصدر الخير والرزق والثروة وبيئة الحياة، فكل ذلك لخير البشر وما يتبعهم من الكائنات الحية. وحمد الله تعالى نفسه الكريمة تعليما للإيمان والثناء. وعبر بالحمد لله ولم يقل: أحمد الله، لإفادة الثبوت والدوام، ولبيان أن ماهية الحمد وحقيقته ثابتة

(١) تفسير الرازي: ١٢/ ١٤٨

صفحة رقم 131

لله تعالى، سواء استحضر ذلك بقلبه أم لا، أما إن قال: أحمد الله مع غفلة القلب عن استحضار المعنى كان كاذبا.
والمراد بالسموات: العوالم العلوية التي نراها فوقنا، والمراد بالأرض:
الكوكب الذي نعيش فيه. والأرض هنا: اسم للجنس، فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها، وكذلك النور، ومثله: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر ٤٠/ ٦٧].
وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في الليل والنهار، وجمع الظلمات وأفرد لفظ النور، لكثرة أسبابها كالعتمة والشرك والكفر، أما النور فهو واحد متعدد المصدر، ولكون النور أشرف، كقوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ. وجعل هنا: بمعنى خلق، لا يجوز غيره. والمراد بالظلمة كما قال السدي وجمهور المفسرين: ظلمة الليل، وبالنور: نور النهار، وفي ذلك ردّ على المجوس (الثّنوية) القائلين بإلهين اثنين: هما النور وهو الخالق للخير، والظلمة وهو الخالق للشر. وقال الحسن البصري: المراد منهما الكفر والإيمان «١».
وقال قتادة عن سبب التقديم: إنه تعالى خلق السموات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار. أما الظلمات الحسية فجنسها وجد قبل النور، فقد وجدت مادة الكون أولا، وكانت دخانا مظلما أو سديما (نظرية السديم) كما يقول الفلكيون، ثم تكونت الشموس. وكذلك الظلمات المعنوية كالجهل والكفر والشرك أسبق وجودا من النور، فإن نور العلم والإيمان والتوحيد يحدث بعدئذ، كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل ١٦/ ٧٨].
ثم الذين كفروا وجحدوا نعمة الله الصانع بعد هذا كله يعدلون بالله غيره، أي يجعلون له عديلا مساويا له في العبادة وهو الشريك، مع أنه غير خالق

(١) تفسير القرطبي: ٦/ ٣٨٦

صفحة رقم 132

ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.
ثم خاطب الله المشركين الذين عدلوا به غيره مذكرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. أي خلق أباكم آدم الذي هو أصلكم من طين، ثم تكاثرت ذريته في المشارق والمغارب، كما خلق سائر أحياء الأرض، وهي بعد الحياة بحاجة إلى النبات لأن الدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات، فالمرجع إلى نبات الطين.
ثم حدّد تعالى أجل وجود الإنسان بدءا من الولادة إلى الممات، وهناك أجل آخر له يبدأ بالإعادة من القبور، فصار قضاء الله أجلين: الأول: ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ، وهو رأي الحسن.
وفسر ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أجل الموت، والأجل المسمى هو أجل القيامة.
وكل أجل مسمى عند الله، أي له بداية ونهاية محدودة لا تزيد ولا تنقص، ولا يعلمه غيره، ولو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقرّبا، فالمقصود من الأجلين:
أجل الدنيا والإنسان، وأجل القيامة. قال تعالى عن الأول: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل ١٦/ ٦١].
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي بالرغم من قيام الدلائل على التوحيد والبعث.
تشكّون أيها الكفار في خلقكم مرة ثانية أي في البعث وأمر الساعة، علما بأنه تعالى ابتدأ خلقكم من طين، وتكاثرت الذرية، فجعل أصل الإنسان نطفة من ماء مهين وأودعه في قرار مكين، وهيأ له فيه ظروف الحياة، وجعله يتنفس ويتغذى بدم الحيض، ولو تنفس بالهواء العادي أو أكل غير الدم لمات. ومن قدر على الابتداء، فهو على الإعادة أقدر.

صفحة رقم 133

وأقام الله تعالى دليلا آخر على وجوده ووحدانيته، فقال: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ.. أي أنه المدعو الله، القائم في السموات والأرض المعبود فيها، المعروف بالألوهية، يعبده ويوحده كل من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس، أي أنه المتصف بهذه الصفات المعروفة، المعترف له بها في السموات والأرض، ونظير هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف ٤٣/ ٨٤] أي هو إله من في السماء، وإله من في الأرض.
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ تأكيد وتقرير لما قبله، يعلم السر والجهر، ويستوي في علمه الخفاء والعلانية، فهو خبر بعد خبر وصفة بعد صفة، أو حال.
وقيل: المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر، فيكون قوله: يَعْلَمُ متعلقا بقوله: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ تقديره:
وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، ويعلم ما تكسبون. واختار الطبري قولا ثالثا: أن قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال: وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ.
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ أي يعلم جميع أعمالكم خيرها وشرها، ويجازيكم عليها.
فقه الحياة أو الأحكام:
المقصود من هذه الآيات إيراد الدلائل على وجود الله ووحدانية الصانع لأن تقدير السموات والأرض بمقادير مخصوصة، لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار، وهو الله.
ويستنبط من الآيات ما يلي:

صفحة رقم 134

١- الله تعالى هو المستحق لجميع أنواع المحامد على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى.
٢- إثبات الألوهية لأن الحمد كله لله فلا شريك له.
٣- إقامة الأدلة على قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته، بإخباره عن خلق السموات والأرض، أي الإيجاد والاختراع والإنشاء والإبداع، والخلق يكون بمعنى الاختراع، ويكون بمعنى التقدير، وكلاهما مراد هنا، وذلك دليل على حدوثهما فإنه تعالى رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستوية من غير عوج، وجعل فيها الشمس والقمر آيتين، وزينها بالنجوم، وأودعها السحاب والغيوم علامتين، وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات، وبثّ فيها من كل دابة، وجعل فيها الجبال أوتادا، وسبلا فجاجا، وأجرى فيها الأنهار وشقّ البحار، وفجّر فيها العيون والآبار من الأحجار، كل ذلك دالّ على وحدانيته وعظيم قدرته.
وأتبع خلق الجواهر والذوات بخلق الأعراض والمستلزمات، وهي جعل الظلمات.
٤- الكفار جاحدون نعمة الله عليهم، فبالرغم من أن الله وحده خلق هذه الأشياء، يجعلون لله عدلا وشريكا. والتعبير ب «ثم» دليل على قبح فعل الكافرين لأن معنى الآية: أن خلقه السموات والأرض قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبيّن، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم.
٥- ابتداء خلق الإنسان من طين لأن المراد من قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ آدم عليه السّلام، والخلق نسله، والفرع يضاف إلى أصله.
وفي إيراد خلق الإنسان بعد خلق السموات والأرض: بيان خلق العالم الكبير

صفحة رقم 135
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية